كان لا بدّ لي مَن معرفة إذا كانت قصّة إستحمام رانيا ورامي صحيحة. فلَم أُصدِّق أنّ أخًا وأختًا قد يستحمّان سويًّا وهما في سنّ تخطّى العشرين. هل كان ذلك إختراع ماكر مِن قِبَل قريبة جارتنا، أم أنّ تصرّفات صديقتي الغريبة ناتجة عن أمر بغاية الخطورة؟ لِذا رحتُ أرى رانيا التي فتحَت لي وهي تتلفّتُ يمينًا ويسارًا خوفًا مِن أخيها. لَم أنتظِر حتى جلسنا في الصالون لأقول لها:
ـ هل تستحمّين حقًّا مع أخيكِ؟ أُريدُ ردًّا صريحًا وإلا تركتُكِ لوحدكِ تواجهين كلام الناس. أجل، فالكلّ صارَ يعرفُ بهذا الأمر. أجيبيني!
ـ أنا لا أستحمّ معه بل أُساعدُه على أخذ حمّامه.
ـ لَم أُلاحِظ عليه أيّة إعاقة جسديّة تمنعُه مِن الإستحمام لوحده يا رانيا. أم أنا مُخطئة؟
ـ لا...
ـ إذًا ما حاجته لكِ؟ وهو يكون عاريًّا... ولا يجوزُ...
ـ هذا شأني وشأن أخي! أرجوكِ ألا تتدخّلي بشؤوننا الخاصّة.
ـ ولكنّ الناس...
ـ إنتهى الموضوع.
إسفتُ كثيرًا على المجرى الذي أخذَه الحديث والذي وصَلَ إلى طريق مسدود. أخذتُ أفكّرُ في أيّ سبَب قد يحملُ رانيا على إعطاء الحمّام لِشاب بكامل قواه، ولا يبدو لأحد وكأنّه بحاجة إلى مُساعدة بأيّ شيء، فهو كان يعملُ في المصنَع المُجاور يوميًّا.
ومنذ ذلك اليوم، صرتُ أترقّبُ كلّ شائعة مِن التي بدأَت تُطلَق على الأخوَين. فقد وجَدَ الناس ما يتسلّون به بعد أن مرَّت سنوات طويلة منذ آخر فضيحة حصلَت في البلدة. غضبتُ مِن ذلك الأذى المجّاني، فكانت رانيا على حقّ، ما يجري لها ومعها هو مِن شأنها وحدها.
لكنّ غضبي لَم يكن شيئًا أمام الغضَب العارِم الذي انتابَ البلدة، وتفاجأتُ بما سمعتُه مِن شتائم وتهديدات موجّهة ولو غيابيًّا إلى رانيا ورامي اللذَين صارا بِمثابة تشخيص للشرّ والخطيئة. حاولتُ تبرير قصّة الإستحمام بشتّى التفسيرات، إلا أنّ البعض بدأَ يعتبرُني أُدافعُ عن الفجور الحاصل، ومنهم مَن اتّهمَني بأنّني قد أفعلُ الشيء نفسه لو كان لي أخ! هل تتصوّرون ذلك مُمكنًا؟!؟
باتَ ذلك الحديث الشغل الشاغل لأهالي البلدة، وقضَت النساء وقتهنّ بحياكة الأخبار، بينما يقومُ الرجال ببثّها في كلّ مكان، لِدرجة أنّ في أحد الأيّام، وصَلَ صحافيّ إلى البلدة بِغرَض تغطيّة ما أسماه "سفاح القربة القرويّ". قدوم ذلك الشخص وهدَف مجيئه أعطيا للبعض فرصة للظهور، على الأقل في صحيفة ما بِشكل شاهد أو صاحب تفاصيل مُقزِّزة، فتحضّروا جميعًا جيّدًا لِتقديم أفظَع قصّة مُمكنة.
لستُ أدري مِن أين جاءَ الصحافيّ بِصورة للأخوَين، لكنّه تمكَّن مِن نشرها في مقالته التي كانت وكأنّها مكتوبة بأحرف وكلمات مسمومة. قرأَ أبي المقالة في الصحيفة، وأعطاها لأمّي التي مرّرَتها لِجارتها وسرعان ما وصَلَ طبعًا الخبَر لِرانيا وأخيها.
وبعد أقلّ مِن بضع ساعات، رأينا رامي ماشيًا في الشارع الرئيسيّ للبلدة رافعًا بِيَده الصحيفة وصارخًا:
- يا أيّها الشياطين! ماذا فعلنا لكم كي تُغرقونا بوَحل عِقَدكم المريضة؟!؟ حسبي الله ونعم الوكيل!
للحقيقة خفتُ أنا كثيرًا مِن ذلك المشهد، فكان حزن واستنكار رامي واضحَين، وعلِمتُ في قرارة نفسي أنّه بريء مِن جميع التهَم. فالمذنِب يختبئ ويُراقبُ أو يهربُ بعيدًا. ردّة فعل الأهالي كانت بمستوى جُبنهم لدى اختلاقهم الإشاعات، إذ انّهم لَم يجرأوا على الخروج إلى الشارع أو مُجادلة رامي. سادَ سكوتٌ رهيبٌ وكان المشهد سورّياليًّا بامتياز. حتى في عقر بيتنا لمستُ شيئًا مِن الخجل، ففضَّلَ أبي تشغيل التلفاز وأمّي البدء بتحضير وجبة الطعام، على مُناقشة ما فعلَه رامي.
هل اتّعظَ الناس وقرّروا الكفّ عن أذيّة الأخوَين؟ ليس تمامًا، فالماكر ينتظرُ ويُراقبُ قبل أن يضرب ضربته الذي يُريدُها قاضية.
شعرتُ بأنّ ذلك الهدوء لا يُنذِرُ بالخير وبأنّ العاصفة آتية، فصلَّيتُ أن تنجو صديقتي وأخوها مِن دون أذى.
ووقعَت المصيبة.
لا أدري مَن حرَّكَ مَن، ومَن خطرَت له تلك الفكرة الكريهة، إلا أنّني استيقظتُ ليلاً على أصوات مجموعة مِن السكّان الغاضبين يُنادون أبي وأمّي لينضمّوا إليهم. كانوا يحملون بأديهم مشاعل ويشتمون ويتوعّدون. بعد دقائق، فهمتُ أنّهم متوجّهون إلى بيت رانيا ورامي لِحرقه وإجبار الأخَوين على الرحيل بعد أن ينقلبَ بيتهم إلى رماد. توسّلتُ والدي ألا يُرافق هؤلاء الشياطين، لكنّهما خجِلا مِن باقي السكّان وخافا أن يُقال عنهما إنّهما راضيَين عمّا يفعلُه رامي ورانيا سويًّا. بدأتُ بالصراخ والبكاء ثمّ نشّفتُ دموعي وارتدَيتُ ملابسي وركضتُ كالمجنونة أسبقُ الجماهير، آخذةً طريقًا مُختصرًا عبر المنازل.
وصلتُ بيت صديقتي وبدأتُ أخبطُ على الباب مِن كلّ قوايَ، حتى استيقظَ أخيرًا رامي وسألَني ما أريدُه في هكذا وقت مِن الليل. فصرختُ له:
ـ أهرُبا بسرعة! إنّهم آتون لِحرق بيتكم! هيّا!
ظهرَت رانيا وسمعَت ما قلتُه، فنظرَت مهمومة إلى أخيها الذي دخَلَ فجأة الغرفة وعادَ ومعه بندقيّة صَيد. كان يرُيدُ إخافة هؤلاء القادمين وإبعادهم، إلا أنّ اخته صرخَت به:
ـ تعرفُ تمامًا أنّكَ غير قادر على إطلق النار، يا رامي. قد يكون أحدهم مُسلّحًا أيضًا ويقتلكُ عندما يرى سلاحكَ.
وبالفعل وقعَت البندقيّة مِن يده، ليس لأنّه أرادَ ذلك، بل مِن تلقاء نفسها. إستغربتُ الأمر فقالَت لي رانيا:
ـ رامي مُصابٌ بِداء خطير يُضعِفُ عضلات جسمه... وحالته تتفاقَم يوم بعد يوم... لذلك أُساعدُه بحمّامه فأخافُ أن يقَع في الحمّام ويؤذي نفسه... كتَمنا الأمر عن الجميع كي لا يخسرَ أخي عملَه في المصنَع، فنحن بحاجة إلى ذلك المال لِنعيش... هو لا يزال يستطيع القيام ببعض المهام هناك، ومع أنّهم انتبهوا إلى أنّ نشاطه قد خفَّ، إلا أنّهم إعتبروا ذلك كسلاً مِن قِبله.
ـ يا إلهي... الآن أفهَم ما يحصل... عليكم قول الحقيقة لأهالي البلدة وأنا مُتأكّدة مِن أنّهم...
أسكَتني رامي قائلاً:
ـ لَم يُحاول أيّ منهم البحث عن تفسير منطقيّ للأمور، بل فضّلوا توسيخ سمعتنا لأنّ قلوبهم مليئة بالشرّ والخطيئة. لا بل جاؤوا بِصحفيّ وأعطوه صورتنا... عقابهم سيكون وخيمًا، صدّقيني!
وسمعنا صوت القادمين ورأينا مشاعلهم أمام النوافذ، فخرجتُ لوحدي أصرخُ لهم:
ـ إنّهما بريئان! رامي مريض... إنّه مُصاب بداء خطير يمنعُه مِن القيام بأبسط الأمور، وأخته تُساعدُه قدر المُستطاع! أقسمُ لكم أنّها الحقيقة! عودوا إلى بيوتكم قبل أن تقترفوا ما ستندمون عليه! أرجوكم!
تراجَعَ البعض لدى سماعهم ما قلتُه، إلا أنّ البعض الآخر نعَتني بالكاذبة والمواطئة.
عندها، إقترَبَ أبي منّي وسألَني إن كنتُ أقول الحقيقة، فأجبتُه وأنا أنظرُ مُباشرةً إلى عَينَيه:
ـ وهل كذبتُ يومًا عليكَ يا أبي؟
إستدارَ والدي نحو الجمهور الغاضب وقال:
ـ أصدّقُها... ومَن يُريدُ إحراق هذا البيت فسيضطرّ إلى حرقي معه.
ودخَلَ المنزل معنا. سادَ الصمتُ، فأن يطردوا أخوَين يُقال عنهما إنّهما يتعاطيان سفاح القربى شيء، أمّا أن يتسبّبوا بِقتل جارهم حرقًا فشيء آخر. رحَلَ الغاضبون لكن ليس قَبل أن يشتمونا جميعًا، وتنفّستُ الصعداء. عانقتُ أبي قائلةً له كم أنا فخورة به لأخذه هذا الموقف الشجاع، ونمنا كلّنا في بيت الأخوَين خوفًا مِن أن يعودَ أحدٌ خلسةً ويُضرم النار فينا.
في الصباح، نصَحَ والدي رامي ورانيا بِمغادرة البلدة، مُتحجّجًا بأنّ على رامي الخضوع للعلاج في المدينة، ووعدهما بأنّه سيُساهم في تكاليف ذلك العلاج. أنا الأخرى صمّمتُ على العمَل في القريب العاجل لإرسال المال لِصديقتي. إقتنعَ الأخَوان بِفكرة الرحيل، فأرسلَهما والدي إلى قريب له في المدينة.
ظنَّ السكّان أنّهم نجحوا بِطرد رامي ورانيا، إلا أنّ والدي أراهم تقريرًا طبّيًّا أرسلَه له قريبه بعدما رافقَ رامي إلى طبيب مُختصّ. عمَّ شعورٌ بالخجَل والندَم البلدة بأسرها، وأستطيع القول إنّ حياتنا تغيّرَت بِشكل جذريّ وإلى الأبد. فكانت النوايا الشرّيرة قد ظهرَت عند الجميع، وبانَت مِن وراء أقنِعَة الطيبة والتقبّل والتفاهم.
كَم مِن مرّة نظلمُ الآخرين خلال حياتنا؟ كَم مِن مرّة ننقلُ إشاعة فقط للتسلية؟ وكَم مِن مرّة نضعُ الآخَر في خانة ما ونبقيه فيها بسبب اختلافه عنّا؟ نظنُّ أنّ ما نفعلُه ليس مؤذيًّا كثيرًا، لكنّه حتمًا كافٍ لِتدمير سمعة أو حياة بأسرها.
أيّها الناس، فكّروا جيّدًا بعواقب أقوالكم وأفعالكم واتبعوا هذه المقولة: "عِش ودعَ غيركَ يعيش".
حاورتها بولا جهشان