لا يستطيع الإنسان أبدًا معرفة ما يُخبّئه له القدر، فالحياة سلسلة أحداث تغيّرُ مسار حياتنا أحيانًا رغمًا عنا. وما حدَثَ لي كان مؤسفًا لا بل مُرعبًا، وندِمتُ كثيرًا على خيارات كانت نتائجها بغاية الخطورة.
قبل أن أبدأ بقصّتي، مِن الضروريّ أن أُشير إلى أنّني لطالما كنتُ إنسانًا نزيهًا. فلقد تلقَّيتُ تربية حسنة وكبِرتُ بمخافة الله والقانون، وهذه دلالة على أنّ ما يقترفُه المرء ليس بالضرورة نابعاً من شخصّيته بل قد يكون نتيجة ضغوطات خارجيّة أقوى منه.
أبصرتُ النور وسط عائلة فقيرة، وأذكرُ أنّنا لَم نكن نأكل شبَعنا فراتب أبي لم يكن يكفي لإطعام زوجة وخمسة أولاد. ولتشجيعنا وحملنا على المُثابرة، كان والدي المسكين يُردّدُ دائمًا أنّ الولد عندما يولَد يأتي رزقه معه. لكنّ الواقع كان مُغايرًا تمامًا، وبقينا ننتظرُ هذا الرزق طوال حياتنا. ذهبنا إلى مدارس حكوميّة حيث كان العلم بأدنى مُستوياته، وعملنا في وظائف بسيطة، أي على قدر علمنا. للحقيقة، كنتُ مُعتادًا على القلّة ولَم يعُد يُزعجُني شيء، إلى حين تعرّفتُ إلى ماجدة.
كانت تلك الفتاة جميلة للغاية، ولم أتصوّر للحظة أنّها قد تُعطيني ولو نظرة واحدة. إلا أنّها أُعجِبَت بي وصِرنا نتواعد بانتظام. لَم يكن يُزعجُها أن أكون فقيرًا، بل كانت تعتقدُ فعلاً أنّ أمامي مُستقبلاً لامعًا وأنّ أيّام القلّة ليست سوى مرحلة مؤقّتة. صدّقتُها وشعرتُ أنّني فعلاً سيّد مصيري، وهي افتخَرَت بعزيمتي. وشاء القدَر أن يموت مدير المكتب الذي كنتُ أعمل لدَيه وأن آخذ مكانه، ليس بسبب كفاءتي، بل لأنّ لَم يكن هناك سوايَ متوفّرًا في ذلك الحين. زفَّيتُ الخبر لماجدة وهي أجابَتني:
- أرأيتَ؟ ألَم أقل لكَ؟ والآتي أفضل بعد.
وتتويجًا لهذه القفزة النوعيّة في حياتي العمليّة، رحتُ أطلبُ يدَ حبيبتي واستقبلَني أهلها بسرور واضح.
تزوّجنا بعد شهر وانتقلنا للعَيش في شقّة صغيرة للغاية، لكننا كنّا فرحين أن نسكن لوحدنا نحن الإثنَين وأن ندفع الإيجار مِن عملَينا. كنّا هكذا نبني عشنّا الصغير سويًّا، الأمر الذي وجدتُه رومنسيًّا جداً.
مرَّت الأشهر وأرسَلَ لنا الله إبنة جميلة وكنّا سعيدَين، إلا أن الحمَل أنهَكَ ماجدة لدرجة أنّها تركَت عملها، الأمر الذي أثَّرَ على مدخولنا وعَيشنا خاصّة مع وجود طفلة. حثَّتني زوجتي على طلب علاوة مِن صاحب العمَل، لكنّه رفَضَ بتهذيب مُتحجّجًا بظروف ماديّة صعبة. لَم يكن ذلك صحيحًا، فكنتُ الذي يحملُ المال مِن المكتب إلى المصرف أسبوعيًّا ولَم يكن هناك أيّة ضيقة ماليّة، بل العكس. غضبتُ مِن الرّجل لكنّني هدأتُ بسرعة، فكان ذلك ماله ومكتبه وكنتُ أتقاضى راتبًا لا بأس به نسبة لراتبي القديم.
لكنّ ماجدة لَم ترَ الأمور بالمنظار نفسه، وصارَت تصرُّ عليّ لأطلب علاوة مجدّدًا أو أهدّدُ صاحب المكتب بتركه إن رفَضَ. كثر الضغط عليّ، ممّا أدّى إلى توتر حاد بيني وبين زوجتي التي لَم تكفّ عن التذمّر ليلاً نهارًا ونعتي بالجبان والضعيف. ومع الوقت، صِرتُ أفضّل البقاء خارج المنزل على سماع كلام مُجرح أو صراخ لا يتوقّف.
وذات يوم، فضّلَت ماجدة الرحيل مع إبنتنا على العَيش "مع رجل مِن دون طموح".
في البدء، إرتاحَ قلبي لأنّني أحبّ طعم السكوت والسكينة، لكن سرعان ما اشتقتُ لزوجتي وابنتي ورحتُ أدقُّ باب أهلها حيث راحَت تسكن. إلا أنّ رؤية عائلتي بقيَت ممنوعة عليّ إلى حين أجلبُ ما يكفي مِن مال لإعالة إبنتهم وحفيدتهم. عندها اسودَّت الدنيا مِن حولي، وشعرتُ لأوّل مرّة في حياتي، بمرارة الفقر. رحتُ أفتّشُ على عمل ثانٍ أقومُ به خلال الليل، إلا أنّ مؤهّلاتي لَم تسمح لي بإيجاد شيء. لَم يتبقّ لي سوى أن يعطف عليّ صاحب العمل بعد أن أروي له مأساتي.
إستمَعَ لي الرجل ومِن ثمّ قال:
- أعطيكَ مِن مال ما تستحقّه نسبة لِما تقوم به ونسبة لمستواك العلميّ، ولا يسعُني فعل أكثر مِن ذلك. وإن لَم يُعجبكَ الوضع، فيُمكنُكَ التفتيش عن عمل آخر.
أعترفُ أنّني كرهتُ ذلك الإنسان، لأنّه كان يقفُ بيني وبين استرجاعي لعائلتي. وفي تلك اللحظة بالذات قرّرتُ سرقته.
ليكن معلومًا أنّني نوَيتُ ردّ المال لصاحبه بأسرع وقت، أي بعد أن ترجع ماجدة وابنتي إليّ.
وهكذا، يوم الذي سلّمَني صاحب العمل المبلغ الأسبوعيّ الإعتياديّ لوضعه في المصرف، أخذتُه على الفور لماجدة قائلاً لها إنّني حصلتُ على علاوة وعملاً آخر، وإنّها لن تعيش فقيرة بعد ذلك. فرِحَ الجميع وأخذتُ عائلتي الصغيرة إلى البيت. في اليوم التالي، قصدتُ مُرابيًا سمِعتُ عنه، واقترَضتُ منه المبلغ نفسه وركضتُ أضعه في المصرف، ولَم ينتبه أحد إلى شيء. بقيتُ أفعل الشيء نفسه مدّة أسابيع عديدة إلى أن وجدتُ نفسي في مأزق كبير. فلَم يعُد بإمكاني تسديد الدفعات للمُرابي، لأنّ مدخولي كان ضئيلاً ولأنّ ماجدة كانت تصرفُ ما أُعطيها بسرعة فائقة.
وحين علِمَ المُرابي أنّه قد لا يحصل على ماله، هدّدَني بالإنتقام. حاولتُ حمله على الصّبر، إلا أنّه فقد صوابه عندما علِمَ كم هو راتبي حقيقة بعد أن كذبت عليه بهذا الشأن. وعندما خرجتُ مِن محلّه، كان الرّجل قد قرَّرَ تلقيني درسًا يحملني على الدفع.
ففي اليوم التالي، إنتظَرني رجلان عند باب المكتب وأبرحاني ضربًا حتى أُغميَ عليّ. لكن كان قد تسنّى لي سماعهما وهما يقولان لي:
- في المرّة القادمة سنؤذي زوجتكَ وابنتكَ.
وعندما استعَدتُ وعيي، ركضتُ بسرعة إلى البيت. خافَت ماجدة مِن الدم الذي كان يُغطّي وجهي وملابسي، إلا أنّها لَم تسألَني عمّا جرى لي بل بدأت بتنظيف جروحاتي بصمت. عندها قلتُ لها:
ـ ألا تُريدين معرفة مَن فعَلَ بي ذلك ولماذا؟
ـ كلا... أنتَ بخير وهذا يكفي.
ـ قد يتفاقم الوضع وتُصبحين والبنت بخطر.
ـ ستجد حلاً، كالمرّة السابقة. هل تظنّ أنّني صدّقتُ رواية العلاوة والعمل الثاني؟ أمثالكَ لا يحصلون على علاوات. غدًا صباحًا عليكَ إيجاد مُقرض آخر.
ـ وأغرِقُ نفسي بديون أخرى؟
ـ إن كان ذلك ضروريًّا، نعم.
ـ حياتي في خطر.
ـ أنتَ اخترتَ الزواج والإنجاب وعليكَ إعالة عائلتكَ.
ـ ألَم يكن راتبي كافيًا؟
ـ بلى، للمعتاد على الفقر. هيّا، إخلد إلى النوم.
لَم تغمض لي عَين ليس فقط بسبب المأزق الذي أنا فيه، بل للامُبالاة التي صدَرَت عن زوجتي. فهي ارادَت أن أتحمّل المزيد مِن الديون لإشباع رغباتها، بغضّ النظر عن الخطر الملّط فوق رأسي. فهي رأت ما فعله بي رجال المُرابي ولَم تتأثّر بشيء. بكيتُ بحجم ندَمي على الذي فعلتُه، وصلَّيتُ ليُسامحني الله ويُساعدني. وفي الصباح الباكر، رحتُ ألفُّ على أصدقائي لاستلف بعض المال، لكنّني لَم أحصل على قرش واحد لسبب بسيط: كانوا كلّهم كشأني، فقراء. لِذا، قصدتُ المُرابي قائلاً له بوضوح إنّني غير قادر على ردّ ماله وإنّ بامكانه قتلي إن شاء. نظَرَ إليّ الرجل بامعان وقال:
ـ وما حاجتي إليكَ وأنتَ ميّت؟ لن يرجع لي مالي هكذا.
ـ ليس بوسعي فعل شيء، أنا آسف.
ـ ستعمل لدَيّ... ستذهب لأمثالكَ، أيّ الذين تخلّفوا عن الدفع وتُقنعهم بردّ المال. ليس لدَيكَ طريقة ثانية.
وهكذا صِرتُ أرافقُ رجال المُرابي، وأعنّفُ رغمًا عنّي المساكين الذي وقعوا ضحيّة الطمع. كنتُ في كلّ مرّة أكرهُ نفسي وأبكي كلّ دموعي لأنّني صرتُ إنسانًا عنيفًا وبغيضًا... إلى حين قبِضَت الشرطة علينا. لن تتصوّروا مدى ارتياحي، فثد اعتبرتُ ذلك خلاصًا أُرسِلَ إليّ مِن السماء. لَم أتذمّر ولَم أوكل مُحاميًا للدفاع عنّي. كلّ ما كنتُ أريدُه هو دفع ثمَن ما فعلتُه لتنظيف روحي مِن الشرّ الذي سكَنها. لَم ينشغل بالي كثيرًا على عائلتي، لأنّ أهل زوجتي كانوا قادرين على إعالة ماجدة وابنتنا. لكن ما أحزَنَ قلبي إلى أقصى درجة كان موقف صغيرتي منّي، فما تسنّى لها معرفتي جيّدًا ومعرفة حقيقة قلبي ونظافته أو حقيقة ما جرى لأصبَحَ سجينًا تبرّأ الجميع منه.
خرجتُ مِن السجن منذ ثلاث سنوات ولَم أستطع رؤية إبنتي بعد. فماجدة تزوّجَت مُجدّدًا بعدما حصلَت على الطلاق منّي وتعيش حياة لطالما أرادتها. وهي كانت طيلة فترة إعتقالي قد عملَت على غسل دماغ الفتاة بما يخصّني حتى باتَت صغيرتي تكرهُني وتخاف منّي.
أنا على يقين من أنّ يومًا سيأتي وأستعيد حبّ واحترام إبنتي لي، لكنّ الأمر يتطلّب وقتًا طويلاً والكثير مِن الصبر. وحتى ذلك الحين، أعمَل على تبييض سمعتي وتحضير حياة جديدة أفتخر بها أمام وحيدتي.
حاورته بولا جهشان