حصَلَ أن دخلتُ السجن حيث بقيتُ قابعًا لأشهر طويلة، ليس لأنّني لصٌّ أو قاتلٌ أو إنسانٌ فاسدٌ، بل لأنّ أبي أرادَ ذلك. لماذا فعَلَ هذا بي في وقت لَم أهمل واجباتي تجاهه يومًا؟ بسبب حبّه المُفَرط لأخي الأكبر. أجل، لقد دفعتُ ثمَن أخطاء غيري غاليًا، وهذه قصّتي:
وُلِدَ مهنّد، أخي، قبل خمس سنوات منّي، ولقد أخَذَ كلّ اهتمام وحبّ والديَّ وصارَ الطفل الملَك. قد تظنّون أنّني حين أبصَرتُ النور إنتزعتُ منه ذلك الإهتمام، لكنّني كبِرتُ في ظلّ مهنّد الذي لَم يقبَل بأن يلعَبَ دور الأخ الكبير، بل بقيَ طفلاً دائمًا في تصرّفاته وفي نظر أهلنا. صرتُ المسؤول عنه، أتحمّل أخطاءَه وأُعاقَب مكانه، وصارَ لدَيّ شعورٌ بالغبن. فقد كان أخي الصبيّ الذي تُغفَر له خطاياه مهما كانت.
حين دخلتُ المدرسة، صرتُ أدافعُ عنه حين يتشاجرُ مع رفاقه، وذلك بالرّغم مِن سنّي الصغير وحَجمي الذي لَم يكن يُوازي حَجم أولئك الأولاد. ناهيكم عن مُساعدتي لمهنّد بدروسه لاحقًا، فهو طبعًا لم يكن فالحًا في أيّ شيء.
لَم يدخل أخي الجامعة، فعلاماته كانت مُتدنيّة جدًّا. على كلّ حال، هو لَم يُرِد اكمال دراسته بسبب اهتماماته الأخرى، أي التسكّع مع رفاقه هنا وهناك ومُعاكسة الفتيات. نعم، كان مهنّد شابًّا يتّجه، وبسرعة، نحو الهاوية. وأغربُ ما في الأمر هو أنّني كنتُ الوحيد الذي رأى ذلك، فأبوايَ كانا فرحَين به، لا بل فخورَين.
أمدَّ أبي مهنّد بالمال اللازم للصرف على نزواته، في حين بدأتُ العمل باكرًا لأستطيع لاحقًا دفع أقساط جامعتي.
حين كبرتُ قليلاً وصِرتُ قادرًا على إبداء رأيي مِن دون خوف، حاولتُ لفتَ أنظار والدَيّ إلى ما كانا يفعلانه بي وبأخي، وانذرتُهما بأنّ النتائج ستكون وخيمة. لكنّ الأمر كان وكأنّني أكلّمُ نفسي وقرّرتُ الإستسلام ومُتابعة حياتي بأقلّ قدر مِن الأذى.
دخَلَ أخي السّجن لأوّل مرّة حين كان في الخامسة والعشرين مِن عمره، بعدما زوَّرَ ورفاقه شيكات واشتروا بها معدّات للصوت والموسيقى وشاشات تلفزيون. لَم يسأله لا أبي ولا أمّي مِن أين أتى بالمال لشراء هذه الأشياء الباهظة. وحدي علِمتُ أنّه حصَلَ عليها بطرق غير شرعيّة إلا أنّني بقيتُ صامتًا. باعَ والدي سيّارته ليدفع أتعاب المحامي. ويوم عادَ مهنّد إلى البيت، أُقيمَ له حفل استقبال ضخم وكأنّه عادَ مُنتصرًا مِن الحرب. هزَزتُ برأسي ودخلتُ غرفتي لأُكمل درسي، فقد كنتُ في سنتي الثانية في كليّة الصيدلة ولَم يكن واردًا أن أتأثّرَ سلبًا بما يُحيطُ بي.
في المرّة الثانية التي أُلقيَ القبض على مهنّد، جاء إليّ أبي وطلَبَ منّي أن أساعدَه على إخراجه مِن وراء القطبان. كان معلومًا للجميع أنّني وضعتُ المال جانبًا للكليّة، فلَم أستطع الرفض وإلا جلبتُ لنفسي غضب والدي ونقمة أمّي التي لَم تتوقّف عن البكاء، بسبب ما أسمَته "الفأل السيّء" الذي يُلاحقُ بِكرها. أيّ فأل سيّء؟!؟ لقد كان مهنّد بكلّ بساطة إنسانًا كسولاً واتّكاليًّا وبشع الأخلاق! وكان عليّ، كالعادة، التنظيف مِن ورائه. دفعتُ ما يلزم على مضض وأقسمتُ أنّها ستكون المرّة الأخيرة. وبعد ذلك، إضطرِرتُ للعمل نوبَتيَن مُتتاليَتَين والدّرس ليلاً لأتمكّن مِن دفع أقساط الجامعة والنجاح، الأمر الذي أنهَكَني لأقصى درجة، فلَم أعُد أنامُ بل أصلُ الليل بالنهار. ومِن الجيّد أنّني كنتُ شابًا قويًّا آنذاك، وإلا لانهَرتُ وأوقفتُ دراستي.
بعد خروج مهنّد مِن السجن للمرّة الثانية، ارسلَه أبي إلى أخيه في الخليج، على أمَل أن يُبعدَه عن معشر السوء. فكان والدي قد فهِمَ أخيرًا أنّ ابنه المُفضّل غير نافع بتاتًا.
مرَّت سنوات على غياب أخي وأعترفُ أنّها كانت أجمَل سنوات حياتي. فمنذ ولادتي لَم أذق طعم الهناء بسببه. وهكذا استطعتُ إنهاء علمي والتعرّف إلى صبيّة جميلة ورقيقة خطبتُها بعد فترة وتزوّجتُها. وتتوّجَ نجاحي بفتحي صيدليّة لي في حيّ مرموق وبدئي الفعليّ بالعمل.
أحبَّني الناس لأنّني إنسان مسؤول ونزيه، وازدهَرَ عمَلي في وقت قصير.
وفي تلك الحقبة بالذات، عاد مهنّد مِن الخليج. كان تغيّره ملحوظًا، وفرحتُ جدًّا عندما وجدتُه إنسانًا رصينًا وناضجًا. حمَدتُ ربّي وأمِلتُ أن تصبحَ علاقتنا كتلك التي توجَد عادةً بين الأخ وأخيه، الأمر الذي لَم أعرفه يومًا. عرّفتُه إلى زوجتي وأدخلتُه بيتي وصَيدليّتي وهو بارَكَ لي. سألتُه عمّا فعلَه في الغربة، لكنّه لَم يُجِبني بدقّة بل تمتَمَ أنّه أمضى سنينًا جميلة. إكتفَيتُ بهذا القدر مِن المعلومات، فلَم أكن مُعتادًا على الحوارات الطويلة مع أخي. بعد عودة مهنّد بقليل، مرضَت أمّي وتوفَّيت بسرعة، وحزِنّا جميعًا عليها. جلبتُ أبي ليعيش معي وزوجتي كي لا يشعر بالوحدة، فقد كان مهنّد كثير الغياب ويبيتُ مرارًا خارج البيت.
وحصَلَ ما لَم نتوقّعه إذ تمّ القبض للمرّة الثالثة على أخي، لكن في تلك المرّة مِن قِبَل الإنتربول. فقد كانوا يُراقبونَه وهو في الخليج وينتظرون أن يرتكبَ خطأً يكون بمثابة الدليل الذي يترقّبونه.
وكعادته أمرَني والدي بأن أدفعَ ما يلزم للدّفاع عن إبنه الذي كان برأيه بريء وضحيّة مؤامرة. فسألتُه:
ـ مؤامرة تُلاحقُه منذ مُراهقته؟ هل لهذه الدرجة أعماكَ حبّكَ له، يا أبي؟
ـ كفى جدلاً! إدفع! فأنتَ صرتَ صيدليًّا ولا تنسى مَن...
ـ مَن جعَلَني صيدليًّا؟ لا، لن أنسى، فأنا الذي عمِلتُ نفسي بنفسي! أنتَ لَم تدفع لي قرشًا واحدًا لِدراستي ولَم تسألني يومًا كيف تسيرُ أموري. بل كان اهتمامكَ وانتباهكَ لمهنّد فقط، وأنظر ما حلّ به مِن جراء دلعكَ له! مالي هو لي ولزوجتي وللطفل الذي سيأتي يومًا.
ـ أنتَ مُجبرٌ بأخيكَ!
ـ أبدًا!
ـ حسنًا... سترى كيف سأُجبرُكَ.
وراحَ أبي إلى الشرطة وقال لهم إنّني شريكُ أخي في كلّ ما هو مُتّهم به، لا بل إنّني العقل المُدبّر. لماذا فعَلَ ذلك؟ لأنّه، كما قال لي عندما زارَني في السجن، يعتبرُ أنّ على الأخَوين أن يتقاسما كلّ شيء، حتى السجن.
إنتظرتُ في السجن وقتًا طويلاً حتى ثَبُتَت براءتي، وخرجتُ مِن وراء القضبان رجلاً مكسورًا. تأثّرَت سُمعتي كصيدليّ كثيرًا وفقدتُ عددًا لا يُحصى مِن زبائني. فالناس إعتبرَت أنّه تمّ القبض عليّ بسبب غشّي بالأدوية أو تجارتي بها بشكل غير قانونيّ. أمّا مهنّد، فبقيَ سجينًا لسنين طويلة بعدما ثبتَت التهمة عليه.
في هذه الأثناء، قطَعَ أبي صلته بي ولَم يهمّني الأمر كثيرًا بعد الذي فعلَه بي. بقيتُ أسألُ عنه وأمدُّه بالمال عبر جيرانه. فأنا إبن صالحٌ. وبالرّغم مِن غضبي الشديد منه، لَم أنسَ أنّه مَن أعطاني الحياة.
وفي أحد الأيّام، وصلَني خبَر موت والدي بعد أن أنهى حياته شنقًا. كان قد تَرَكَ رسالة تقول: "موتي سببه حزني العميق على إبني مهنّد الذي يقضي شبابه في السّجن، وغضبي مِن إبني الأصغر لأنّه لَم يُساعد أخاه. لَعنتي عليكَ يا فادي، لَعنتي عليكَ! أنتَ قاتلي!"
لَم أصدّق أذنيّ عندما علِمتُ مِن الشرطة بمحتوى الرسالة! كيف لأب أن يكون بهذا الشرّ؟ هل كان مريضًا نفسيًّا أم أصابَه الخرَف؟ فهو حتى آخر لحظة، كان قد تغاضى عن أعمال مهنّد البشعة ووضَعَ اللوم كلّه، كعادته، عليّ. ما الذي فعلتُه لأقضيَ باقي حياتي أحسُّ بالذنب هكذا؟ يا لَيتني لَم أولَد وسط هذه العائلة بالذات!
عملتُ جهدي لِنسيان غضب والدي لي الذي لا أساس له، لكنّ الأمر كان صعبًا للغاية. تركَتني زوجتي ورحلَت بعدما صارَ الوضع لا يُطاق بالنسبة لها. فأصبحتُ رجلاً سريع الغضب وأغرقُ مرارًا في كآبة لا نهاية لها. وجدتُ نفسي وحيًدا لا أحد أكلّمُه وأحكي له عن حالتي وعن استنكاري لِما آلَت إليه حياتي.
لَم أزر يومًا أخي مهنّد في السجن، فرؤيتُه كانت ستؤجّجُ مشاعري وشعوري بالذنب والغضب. علِمتُ أنّه سيخرجُ بعد عشر سنوات، وأخذتُ أفكّرُ بالذي عليّ فعله لتفاديه عندما يعودُ. لِذا بعتُ الصيدليّة وسافرتُ بعيدًا، كلّ البعد.
لَزِمَني وقتٌ طويلٌ لتخطّي مُشكلتي، لكن ليس مِن دون مُساعدة أخصّائي. بعد ذلك فهمتُ أنّ لا ذنبَ لي بتاتًا بِمشاكل أخي أو بِموت أبي. كنتُ ضحيّة عائلتي التي حوّلَتني إلى سنَد دائم لإبنها المُفضَّل.
تزوّجتُ مِن فتاة أجنبيّة أحبَبتُها ولدَينا اليوم أربعة أولاد.
لا أفكّر بالعودة إلى البلد بتاتًا، لِدرجة أنّني لَم أُعلِّم أولادي لغتي الأم ولا أحكي لهم عن موطني، خوفًا مِن أن يُبدوا رغبة بالعودة ويقعوا ضحيّة مهنّد... فيكفي الذي فعلَه بي!
حاورته بولا جهشان