زوجة السيّد

أخَذَت حياتي منعطفًا جذريًّا عندما أقفلَت الشركة التي كنتُ أعمل فيها بسبب الأوضاع في البلد. وبين ليلة وضحاها وجَدتُ نفسي جالسًا في البيت أستمع طوال النهار إلى تذمّر زوجتي وتوبيخها. فبالنسبة لنوال، كنتُ بلا منفعة مع أنّها كانت تعلم تمام العلم أنّ لا دخل لي بما حصَلَ.

كانت زوجتي صعبة المزاج، وبالأخصّ عندما علِمَت أنّها غير قادرة على الإنجاب، الأمر الذي ولَّدَ في قلبها مرارة بلا حدود. لم يكن يهمّها أنّني قبِلتُ بوضعها، بل أنّها لم تكن ناجحة بكلّ شيء. هكذا كانت، تريد التفوّق دائمًا وعلى كلّ الناس، الأمر الذي ساعدها على بلوغ مركز عالٍ جدًّا في المصرف حيث تعمل.

ولأتفادى المزيد مِن التلميحات البشعة، أخَذتُ أفتّش عن أيّ شيء يُمكنه إعطائي أملاً بأن أستعيد حياتي العمليّة وأحصّل المال.

وجَدتُ إعلانًا في الصحيفة يقول إنّ رجل أعمال يبحث عن مرافق شخصيّ، فركضتُ أتّصل بالرّقم المذكور. كنتُ متأكّدًا مِن أنّ الرجل سيقبل بي لأنّني متعلّم ومثقّف وكبير البنية، والأهمّ مِن ذلك، أنّني مارَستُ الفنون القتاليّة لسنوات عديدة.

وكنتُ على حق، وبدأتُ العمل بعد أيّام مِن مقابلتي السيّد أحمد الذي ذُهِلَ بمواصفاتي.

وبالطبع لم يُعجب الأمر نوال التي هزئَت منّي:

 

ـ مِن موظّف مُحترَم إلى مرافق شخصيّ! ماذا سيقول عنّي الناس؟ وموظّفو المصرف؟ لطالما جلَبتَ لي الإحراج!

 

ـ أنا!؟! متى جلَبتُ لكِ الإحراج!

 

ـ لا تجيد التكلّم مع الناس أو الرّقص خلال الحفلات.

 

ـ هذا كلّ ما لدَيكِ؟

 

ـ وأبوكَ.

 

ـ إيّاكِ أن تتكلّمي عن أبي!

 

ـ كان مزارعًا بسيطاً أمّا أبي فهو الأستاذ كمال!

 

ـ لقد حذّرتُكِ!

 


وخَرجتُ مِن المنزل بحالة غضب شديد، وقصَدتُ أمّي لأشكي لها مرّة أخرى مِن زوجتي. بقيتُ هناك حوالي الأسبوع لأثبتَ لنوال أنّني قادر على الزّعل منها لوقت طويل، وعندما عدتُ إلى بيتنا لم أجدها نادمة بل مرتاحة كثيرًا مِن دوني.

ولكنّني لم أبالِ بل كنتُ فرحًا لأنّني بدأتُ العمل، وأنهض في الصّباح لتأدية واجبي حتى لو لم يكن ذلك اختصاصي.

السيّد أحمد كان رجلاً في الخمسين مِن عمره وناجحًا جدًّا لا بل ثريًّا فوق التصوّر. ولأنّني كنتُ أفهم بالناس، شككتُ بأنّه جنى ماله بطرق غير قانونيّة، ولكنّ ذلك لم يكن مِن شأني.

تعرَّفتُ إلى زوجته يُسرى حين دعاني أحمد إلى بيته بعدما قضَيتُ وقتي أنتظره قرب سيّارته. كانت يُسرى جميلة جدًّا وتصغره بأكثر مِن خمس وعشرين سنة، واستنتَجتُ أنّها تزوّجَته لماله، الأمر الذي حمَلَني على عدم استلطافها فأنا أكره هذا الصّنف مِن النساء.

وعندما قال لي ربّ عملي إنّني سأهتم أيضًا بتنقلات وحماية زوجته، شعَرتُ بالإنزعاج ولكنّني لم أرفض طبعًا.

عندما أقلَّيتُ يُسرى لأوّل مرّة في السيّارة، لم نتبادل كلمة واحدة، هي لأنّها لم تكن تعرفني وأنا لأنّني لم أكن أريد الإستماع إلى أخبار امرأة تافهة. ولكن على مرّ الوقت واللقاءات، تغيّرَت نظرَتي إلى تلك المرأة الشابّة، خاصّة عندما رأيتُ ازرقاقًا على ذراعها. كنتُ أودّ أن أسألها عن الأمر ولكنّني سكتُّ طبعًا وهي لم تقل لي شيئًا.

ولكن في إحدى المرّات، رأيتُها في المرآة تبكي وهي جالسة على المقعد الخلفيّ فقلتُ لها:

 

ـ هل مِن خطب يا سيّدتي؟ أراكِ حزينة.

 

ـ لا... أبدًا... لستُ حزينة بل العكس... أنظر! إنّني أبتسم!

 

وابتسمَت لي ومِن ثمّ أجهَشَت بالبكاء.

 

أوقَفتُ السيّارة واستدَرتُ نحوها وطلبتُ منها أن تقول لي ما الذي يُسبّب لها هذا الحزن. لم تقل شيئًا بل خلَعَت نظّاراتها الشمسّية ورأيتُ عَينها المسودّة. وامتلأ قلبي بالغضب وصَرَختُ:

 

ـ مَن الذي فَعَل ذلك بكِ؟؟؟

 

ـ مَن غيرَه؟

 

ولبسَت النظّارات وطلَبَت منّي معاودة القيادة مضيفة:

 

ـ لم أكن أريد الزواج منه... أبي باعَني له.

 


كم كنتُ مخطئًا بشأن يُسرى، فالمسكينة لم تكن مِن اللواتِي تركضَن وراء المال والجاه، بل فتاة بسيطة ساهمَت رغمًا عنها بتغيير أحوال عائلتها. وتحوَّل كرهي إلى أحمد الذي كان يُدلّع زوجته أمام الناس ويُعنّفها عندما يكونان لوحدهما. وتحرّكَت بداخلي رغبة بحماية تلك المخلوقة الضعيفة والرّقيقة... والجميلة. كم كانت بعيدة عن نوال زوجتي!

وأصبحنا أنا ويُسرى بمثابة صديقَين، نخبر بعضنا كلّ شيء أثناء وجودنا في السيّارة. أخبرتُها عن زوجتي الأنانيّة والمتذمّرة، وهي عن أحمد الذي كان يعتبرها أداة للتباهي أمام الناس، ووجَدنا أنّ كلَينا تزوَّج الشخص غير المناسب. علِمتُ أيضًا أنّ يُسرى هي الأخرى مِن عائلة مزارعين مثلي، الأمر الذي قرَّبَنا أكثر مِن بعضنا وساهَمَ بأن نقع في الحب.

حتى ذلك الحين كنتُ أظنّ أنّني عرفتُ الحبّ مِن قبل ولكنّني كنتُ مخطئًا. ما شعَرتُ به تجاه نوال كان إعجابًا وحسب سرعان ما تحوَّلَ إلى اشمئزاز مِن امرأة متعالية ومتسلّطة لا تفوّت فرصة لتحطيمي.

مع يُسرى كنتُ أشعر أنّني أنا، أي أنّ الرجل في داخلي كان مرتاحًا ولا يحتاج لإثبات أيّ شيء لحبيبته.

أحبَبنا بعضنا ولكنّنا لم نخطئ، أي أنّ حبّنا بقيَ عذريًّا لأنّه كان جميلاً هكذا وكان يكفينا ويُعطينا شعورًا بالامتنان. وعندما كنتُ أعود إلى بيتي في المساء، كنتُ أختلي بنفسي وأنتظر رسائل حبيبتي بفارغ الصبر وأتفادى زوجتي قدر المستطاع.

مرَّت أشهر على هذا النحو، ولكن ما لم أكن أعلمه هو أنّ نوال شعَرَت مِن تصرّفاتي أنّني على علاقة بامرأة أخرى، وأخَذَت خفيةً رقم يُسرى ووجَدَت إسمها وعنوانها.

وذات يوم طلبَني أحمد إلى مكتبه وقال لي:

 

ـ زوجتي... تلك الناكرة الجميل... لدَيها عشيق.

 

وبدأ قلبي يدقّ بسرعة فائقة وحاوَلتُ البقاء هادئًا. تابَعَ الرجل:

 

ـ زوجته اتصلَت بي... لم تُفصِح عن اسمها أو اسمه ولكنّها أعطَتني تفاصيل عديدة عن محادثاتهما... الفاجرة! إنتشلتُها مِن الفقر هي وعائلتها!

 

ـ ماذا تريد منّي يا سيّدي؟

 

ـ أريدكَ أن تقتلها.

 

ـ ماذا؟؟؟ لستُ قاتلاً يا سيّدي!

 

ـ أقول لكَ إنّها تخونُني! عليكَ ليس فقط حمايتي جسديًّا بل حماية كرامتي.

 

ـ لن أقتل أحدًا، أعذرني.

 

ـ حسنًا... كنتُ سأغرقكَ بالمال... سأطلب ذلك مِن أحد غيركَ إذًا

 

عندما سمعتُ ذلك أسرَعتُ بالقول:

 

ـ تغرقني بالمال... لِما لم تقل ذلك مِن قبل؟

 

ضحكَ أحمد مطوّلاً وقال:

 

ـ ما مِن أحد ليس للبيع... إسمع، أريد أن يبدو الأمر وكأنّه حادث... لا يجب أن يربطكَ أحد بالجريمة... أو يربطني... وبعد موتها بقليل سأتزوّج مِن فتاة جميلة جدًّا... ما اسمها؟ لقد نسيتُ!

 

إشمأزَّيتُ مِن أحمد لأقصى درجة، فقد كان يُريد قتل يُسرى ليس لأنّها "تخونه" بل ليستبدلها بأخرى ويُعنّفها بدورها.

أعطاني أحمد مسدّسًا ودعا لي بالتوفيق.

ركَضتُ أسحب القليل الذي أملكه في المصرف، واتصَلتُ بابن عمّي الموجود في أوروبا الشرقيّة طالبًا منه المساعدة.

قطَعتُ رسائلي الهاتفيّة ليُسرى كي لا أعطي زوجتي المزيد مِن الدلائل، وانتظرَتُ حتى تصعد حبيبتي معي في السيّارة لأخبرها كلّ شيء. إنتابها خوف شديد وبدأَت بالبكاء ولكنّني طمأنتُها قائلاً:

 

ـ هناك مَن ينتظرنا خلف الحدود، ومِن هناك سنأخذ طائرة إلى بلد فيه أناس أخطر بعد مِن زوجكِ. لن يجدنا أحد، أعدكِ بذلك. هل أنتِ مستعدّة لمرافقتي والعيش معي إلى الأبد بعيدة عن أهلكِ وبلدكِ؟

 

ـ مستعدّة.

 

أعَدتُها إلى المنزل لتجلب جواز سفرها ومِن ثمّ أدَرتُ محرّك السيّارة وقدتُ لساعات طويلة. كان يسود صمت رهيب ولم نتبادل الحديث إلا عندما وصلنا إلى الحدود. مصيرنا كان يتوقّف على مرورنا إلى الجهّة الأخرى. تصرّفنا بطريقة طبيعيّة جدًّا، واستطَعنا العبور إلى حيث كان ينتظرنا رجل أرسَلَه قريبي. ذهبنا إلى بيته لنرتاح ومكثنا عنده حتى جاءَت التأشيرتَان مِن ابن عمّي.

في تلك الأثناء قلَبَ أحمد الدنيا بأكملها بحثًا عنّا، ولكنّه لم يجدنا فلم يخطر بباله أنّنا غادرنا إلى بلد آخر لنطير منه.

حين صعدنا الطائرة استطَعنا أخيرًا أن نتنفّس الصعداء. نظَرَتُ إلى يُسرى بحنان وقلتُ لها:

 

ـ سأحميكِ مِن كل شرّ حتى آخر نفَس لي.

 

ـ أصدّقكَ

 

مضى على هروبنا سنوات طويلة، تزوّجنا خلالها مدنيًّا وأنجَبنا بنتًا وصبيًّا. في تلك الأثناء تمّ القبض على أحمد بعدما تخلّف عن دفع ضرائبه، واكتشفوا مِن خلال حساباته أنّه كان يُبيّض الأموال.

أمّا في ما يخصّ نوال، فلم أعلم شيئًا عنها، ولكنّني متأكّد مِن أنّها اعتبرَت هروبي منها أكبر تحدٍّ لها وأكبر فشلٍ واجهته في مسيرتها التي أرادَتها مثاليّة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button