حين تُنشَر قصّتي، سيقولُ البعض منكم إنّها ليست حقيقيّة أو إنّني بالَغتُ بها. لكنّني أؤكّد لكم أنّها حصَلت لي بالفعل ونقَلتُها مِن دون زيادة أو نقصان. أنا لا أطلبُ منكم أن تُصدّقوني، فلو حصَلَ ذلك لشخص أخَر، لكنتُ سأجد صعوبة في تصديقه. ولهذا السبب حفظتُ لنفسي تلك الأمور لنفسي لسنوات طويلة، إلا أنّ الناس الذين خاضوا مثل تجربتي بدأوا يُشاركون روايتهم عبر مواقع الانترنت، حتّى العلماء والأطبّاء منهم، الأمر الذي شجّعَني على التكلّم.
فالحقيقة أنّني في يوم مِن الأيّام... متُّ.
أجل، متُّ بالفعل وأُعلِنَت وفاتي لعائلتي التي بكَت، واستنكرَت وصرخَت في الرواق الموجود خارج قسم طوارئ المشفى الذي نُقِلتُ إليه بعد الحادِث.
لنعُد إلى الوراء قليلاً... كنتُ آنذاك شابًّا مُفعمًا بالحياة وفرِحًا بالدرّاجة الناريّة التي أقنَعتُ أبي بشرائها لي يوم بلغتُ الثامنة عشرة مِن عمري. عارَضَت أمّي طبعًا، وتشاجَرت مع والدي لكنّها خسِرَت المعركة. وهكذا قدتُ درّاجتي الجميلة كلّ يوم وبسرعة فائقة، لأبهرَ الناس وخاصّة أصدقائي. وكان مِن المحتوم أن يحصل مكروه لي لكثرة تهوّري، خاصّة أنّني رفضتُ قطعًا إرتداء خوذة على رأسي لأنّ ذلك يُعطيني، حسب رأيي آنذاك، مظهرًا مُضحكًا. وعندما اصطدمَت سيّارة مُسرعة أيضًا بي، طِرتُ بعيدًا واصطدم رأسي بصخرة في أسفل الوادي.
أخذوني إلى المشفى، وحاوَلَ الأطبّاء في قسم الطوارئ إيقاف النزيف الداخليّ في رأسي بينما كنتُ فاقدًا طبعًا الوعي. وافاني أفراد عائلتي بسرعة، بعد أن وجَدَ مُسعف رقم أبي في هاتفي، وانتظروا خارجًا غير عالمين إن كنتُ سأعيش أم لا.
لكن كلّ شيء في جسدي توقّفَ، ومتُّ. وكما تتوقّعون، حصَلَت أمور عديدة بعد ذلك، أمور عجيبة غريبة إلى أقصى حدّ! ففي لحظة واحدة رأيتُ جسدي مُمدّدًا على سرير قسم الطوارئ، والأطبّاء والمُمرّضات مِن حولي يُحاوِلون إنعاشي. رأيتُهم مِن الأعلى، وكأنّني أحومُ في الهواء عند سقف الغرفة. ثمّ هم توقّفوا عن إنعاشي وانتابَهم الحزن. كان المشهد غير اعتياديّ فاستغربتُ أن أرى نفسي عن بُعد، ولَم أفهَم ما جرى، فكيف يُصدّقُ المرء أنّه يرى نفسه ميّتًا؟!؟
وبعد لحظة، وجدتُ نفسي في الرّواق الخارجيّ، ورأيتُ الطبيب مع أهلي وسمعتُه يقولُ لهم إنّني فارَقتُ الحياة. صرخَت أمّي ونظرَت إلى أبي قائلة: "أنت قتلتَه!". أرَدتُ أن أشرَحَ لها أنّني لَم أمُت، إلا أنّ قوّة رهيبة سحبَتني إلى الأعلى، وصرتُ موجودًا فوق المشفى والحديقة التي تُحيطُ به. بقيتُ أعلو حتّى خرجتُ مِن الغلاف الجوّيّ وصرتُ في الفضاء. ثمّ عمَّ الظلام التام، وخفتُ كثيرًا لأنّني كنتُ لا أفهَم ماذا يجري لي لكثرة الاحداث وغرابتها وتسارعها. ووسط ذلك الظلام، شعرتُ فجأة بالراحة، راحة عظيمة... واختفَت كلّ مخاوفي. لا أدري كَم مِن الوقت بقيتُ هكذا، إلا أنّني بدأتُ بالصعود مِن جديد. هل كان صعودًا بحدّ ذاته أم طوفًا، لستُ أدري، لكنّني كنتُ أتحرّك، بل أطير، وكنتُ سعيدًا.
أدركتُ أننّي مرَرتُ بنفق طويل ومُظلم، إلى حين رأيتُ عن بُعد ضوءًا، فاتّجهتُ نحوه ليس بإرادتي بل وكأنّه يشدّني إليه. لَم أخَف بل العكس، فلقد كان الأمر وكأنّني أريدُ الوصول إلى ذلك الضوء، ولكن كلّما اقترَبتُ منه كلّما أحسَستُ بالفرَح العميق، فرَح فاقَ كلّ اللحظات الجميلة التي اختبَرتُها خلال حياتي، فاقَ حتّى فرحَتي عندما اشترى لي أبي الدّراجة!
صارَ الضوء أقوى، وكان يشعُّ بقوّة نورًا وحرارة، لكنّني لَم أنبهِر ولَم أحترِق، بل امتلأتُ بما أسمّيه اليوم كمّيّة مِن الحبّ ليس بإمكان أيّ كلمة أن تصفَها.
لكن حين صرتُ بالفعل قريبًا مِن الضوء، توقّفتُ عن طيراني فجأة. لَم أكن سعيدًا بما يحصل بل قلتُ في رأسي: "خذوني إلى الضوء!"، إلا أنّني بقيتُ مكاني وكأنّني مُعلّق بالفضاء، إلى حين شعرتُ وكأنّ هناك أحدًا معي وخفتُ قليلاً، فحتّى ذلك الحين، أيّ منذ أن خرجتُ مِن جسدي في المشفى، كنتُ لوحدي.
وظهرَت أمامي أشكال أناس لَم أستطِع تحديد هويّتها في البدء، إلى أن اقترَبَ منّي أحَدهم. عندها علِمتُ مَن يكون: إنّه جدّي والد أمّي، رحمه الله! جدّي الحبيب الذي كان يُدلّعَني ويُحبّني! مدَدتُ يدي لأعانقه... لكن لَم يكن لدَيّ يَد أو ذراع أو جسَد! وحده تفكيري كان لا يزال مُرتبطًا بصفة جسديّة، على الأقلّ هكذا بدا لي. ثمّ قالَ لي جدّي مِن دون أن يتكلّم، بل بالتخاطر: "لا تخَف، نحن هنا لاستقبالكَ يا صغيري، ستكون بخير". نظرتُ إلى الأشخاص الآخَرين، وفجأة تعرّفتُ إلى جدّتي الأخرى التي ماتَت وأنا صغير جدًّا، وإلى موظّف الصيانة الذي كان يعمَل في المدرسة والذي توفّيَ قبل عامَين نتيجة ذبحة قلبيّة. هو كان يُحبّني لأنّني كنتُ لطيفًا معه، على خلاف بعض زملائي.
لَم أتعرَّف تمامًا على باقي الموجودين، إلا أنّني فهمتُ أنّهم مَن سبقوني. لا تنسوا أنّني كنتُ لا أزال في الثامنة عشرة مِن حياتي، ولَم أفقد الكثير مِن الناس حتّى ذلك الحين.
وفي لحظة وجدتُ نفسي مع مُرافقيّ في حديقة رائعة الجمال، حيث الأشجار والزهور ذات ألوان وروائح لَم أختبِرها مِن قبل، فمشَيتُ وسطها واستطعتُ التواصل معها وكأنّها حيّة وباستطاعتها فهمي بالتخاطر. فهِمتُ أنّني في الجنّة لأنّ ما مِن مكان أروَع، وأردتُ البقاء هناك لأنّ ذلك كان بالفعل مكاني.
ثمّ نظرتُ إلى الضوء الدافئ الذي ينبعثُ منه حبّ مُطلَق، حبّ أقوى مئة مرّة مِن حبّ أمّي لي، إلا أنّ جدّي قال لي: "لا، ليس الآن يا صغيري... لَم يحن وقتكَ بعد. عليكَ العودة". بدأتُ أشرَح له أنّني بالفعل سعيد ولا أُريدُ العودة، ووصَلَ الأمر بي للتوسّل إليه ليأخذني إلى الضوء، لكن مِن دون جدوى. وقَبل أن أشعر أنّ قوّة رهيبة تسحبُني مِن حيث أنا، قالَ لي جدّي: "سنتلاقى مِن جديد".
عدتُ أطير لكن في الجهة المُعاكِسة، ومرَرتُ بالنفق والمكان المُظلم حيث ليس هناك مِن شيء على الاطلاق، ثمّ إلى غرفة الطوارئ حيث كان جسَدي. رأيتُ مِمرّضة لوحدها تُرتِّب مِن حولي، إلى حين نظرَت هي إلى جثّتي بإمعان وصرخَت :"يا إلهي! يا إلهي! الدرّاج حَيّ!". كنتُ قد عدتُ قَبل لحظة إلى جسدي في المشفى، وحين دخلتُ ذلك الجسَد المُكسَّر مِن جرّاء الحادث، شعرتُ وكأنّني أدخُل في إناء صغير للغاية، فتألَمتُ كثيرًا وشعرتُ بدقّات قلبي مِن جديد. بعد ذلك، لا شيء.
إستفَقتُ بعد أيّام في غرفة العناية الفائقة، وأوّل شيء فعلتُه كان محاولة الخروج مِن السرير، إلا أنّني لَم أكن قادرًا على ذلك، بسبب حالتي والوصلات العديدة المُعلّقة بي وبالماكينات. وجدتُ أمّي إلى جانبي وهي تبكي وتشكرُ الله على استعادتي وعيي، فعلِمتُ منها أنّني بقيتُ ميّتًا لدقائق طويلة، ولَم يُعرَف أنّني عدتُ إلى الحياة إلا حين جاءَت تلك المُمرّضة إلى سريري لإزالة الماكينات ولاحظَت أنّني أتنفّسُ مِن جديد. عندها هي استدعَت الطاقم الطبّيّ الذي تفاجأ كثيرًا، إذ كنتُ قد متُّ!
بقيتُ في المشفى لأكثر مِن ثلاثة أسابيع، فالحادث كان مُرعبًا ونتَجَ عنه كسور قويّة في كلّ أنحاء جسدي. والأطبّاء الذين راقبوا أيضًا دماغي الذي نزَفَ، بقوا لا يُصدّقون كيف أنّني لَم أمُت بالفعل.
وأثناء تواجدي في المشفى، أخبَرتُ المُمرّضة التي أنقذَتني بما رأيتُها تفعل وتقول حين كانت لوحدها في الطوارئ، وعن القلادة التي كانت مُعلّقة في رقبتها في ذلك اليوم، وما حصلَ لي خلال تلك الدقائق التي متُّ فيها والتي بدَت لي طويلة جدًّا. وهي نظرَت إليّ مُطوّلاً ثمّ قالَت:
ـ ليست تلك أوّل مرّة أسمَع هذه الرواية مِن مرضايَ... وأنصحُكَ بألا تُخبِر أحدًا وإلا إعتبروكَ مجنونًا... كلّ ما أستطيع قوله هو أنّ عودتكَ إلى هذه الدنيا تعني أنّ دوركَ في الحياة مهمّ، حتّى بالنسبة لشخص واحد. شخصيًّا، أنا أُصدّقُكَ، لكنّ العلم والأطبّاء سيقولون إنّ تفاعُلاً كيميائيًّا في دماغكَ هو الذي سبَّبَ ما رأيتَه. ولو كنتُ مكانكَ، لتمسّكتُ بروايتي وعملتُ بنهجها حتّى باقي حياتي. كمّ أنّكَ محظوظ!".
أخذتُ بنصيحة المُمرّضة فأبقَيتُ الأمر لي، وبحثتُ بالفعل عن هدف لحياتي، فذلك الهدف هو سبب عودتي. أخفَيتُ عن أمّي الحبيبة ما جرى لي، ليس لأنّها لن تُصدّقني، بل لأنّها ستخاف كثيرًا عليّ، وستقضي وقتها مهمومة لفكرة أنّ ابنها ماتَ وذهَبَ إلى دنيا أخرى. كنتُ أودُّها أن تعرف أنّ أباها في مكان جميل وهو بخير، فهي بكَته كثيرًا حين ماتَ. حفظتُ كلّ ذلك لنفسي على مضض، ولَم أعُد أخاطِر بحياتي بل رمَيتُ الدرّاجة ودخلتُ الجامعة لأدرس الحقوق. بعد سنوات، وجدتُ صبيّة رائعة أسّستُ معها عائلة جميلة.
أنا اليوم في الستّين مِن عمري، وأستطيع القول إنّني لَم أؤذِ أحَدًا طوال حياتي، بل خدمتُ الناس وساعدتُهم بأيّة طريقة مُمكِنة كما دافَعتُ عن المظلوم وتبرّعتُ للفقراء. أحبَبتُ زوجتي وكنتُ وفيًّا لها، وأحبَبتُ أولادي وكنتُ قدوة لهم. فعلتُ ذلك كلّه لأكون جديرًا بالذي ينتظرُني يوم أموت بالفعل، فلا يسعُني أن أتصوّر أنّ ذلك المكان الرائع مُمكن أن يقصده مَن كان قلبه مليئًا بالكذب والأذى.
أعرِفُ أنّ قصّتي صعب تصديقها، إلا أنّها حصَلَت لي حقًّا، وتشكيكم بها لن يؤثّر على وقوعها. خذوا منها ما يُعجبُكم وارموا ما يتنافى مع إيمانكم، لكن لا تنعتوني بالكاذب، أرجوكم. فما مصلحتي بابتكار هكذا قصّة؟ ولذلك سأُتابعُ حياتي كما أسّستُها، بانتظار أن أصل إلى ذلك الضوء القويّ والدافئ الذي لا يُبهر ولا يُحرق لأبقى هناك إلى الأبد. فهناك مكاننا، ومِن هناك جئنا وإليه سنعود.
حاورته بولا جهشان