رحلة علّمتني الكثير!

تعرّفتُ إلى سميرة في إحدى السفرات حيث يلتقي أناس مِن شتّى الأماكن والثقافات، ويقضون أسبوعًا في بلَد يكتشفونَه سويًّا ويتقاسمون الأكل والشرب والتجارب. للحقيقة كنتُ بحاجة إلى تلك السفرة، بعد أن إنفصَلتُ عن خطيبي بطريقة مُفاجئة، حين علِمتُ أنّه خطَبَ إمراة أخرى في الوقت نفسه. حمَدتُ ربّي أنّني إكتشفتُ ما يجري في الوقت المُناسِب، لكنّ الموضوع ترَكَ في قلبي إمتعاضًا عميقًا ومرارة كبيرة.

وصلتُ المطار مع حقائبي، وهناك جمَعَنا المسؤول عن السفرة وأعطانا التعليمات اللازمة حين نصل البلد الذي نقصده. تعرّفتُ على باقي المُسافرين، وتبادَلنا الأسماء ثمّ صعدنا إلى الطائرة. المرأة الجالسة بالقرب منّي كانت سميرة، إنسانة مُتزوّجة في منتصف عمرها ذات وجه ضحوك وكلام لائق. لَم أشعر بالوقت يمرُّ لكثرة إنشغالي بتبادل الأحاديث مع جارتي. وحين حطََّت الطائرة كنّا قد أصبحَنا شبه صديقتَين. وصلنا الفندق، وشاء القدر أن تكون غرفتي في الطابق نفسه مع سميرة، فضحكنا للصدفة وتواعدَنا أن نلتقي في ردهة الفندق بعد أن تأخذ كلّ منّا حمّامًا وتضَع ملابسها في الخزانة.

سألتُ سميرة لماذا لَم يأتِ زوجها معها في الرحلة، فأجابَتني أنّه دائم الانشغال ولا يُحبّ أن ينخرِط في نشاطات جماعيّة على الاطلاق. رأيتُ الحزن في عَينَيها، خاصّة أنّها لَم تُنجِب، أيّ أنّ عليها تحمّل كلّ ما يصدرُ عن زوجها، مِن دون أن يكون لها ما يُلهيها عنه. لِذا صمَّمتُ أن أُرفِّه عن تلك المرأة قدر المُستطاع، لأجعَل مِن تلك السفرة ذكرى جميلة لن تنساها صديقتي الجديدة.

بدأَت مرحلة إستكشافنا لذلك البلَد الجميل، وأخذَنا الدليل إلى أماكن ساحرة، ونسيتُ لفترة ما فعلَه بي خطيبي لكنّه بقيَ يخطر ببالي بين الحين والآخَر. فخَيبة الظنّ موجِعة خاصّة في أمور القلب، وحسبتُ أنّني لن أثِقَ بأحاسيسي مع أحَد... إلى حين وصَلَ جهاد. فذلك الشاب الوسيم كان مِن ضمن مجموعتنا، إلا أنّه لَم ينطلِق معنا بل لحِقَ بنا بسبب إنشغالاته. وحين وقعَت عَينايَ عليه وهو إبتسَمَ لي، شعرتُ بدفء في داخلي، فردَدتُ الابتسامة له. ما أغرَبَ الحياة، كنتُ قد فقدتُ حبيبًا وها أنا أجِدَ آخَر بعد فترة قصيرة! أعلَم ما ستقولونَه عنّي، فمجّرد إبتسامة مِن شخص غريب حرّكَت فيّ آمالاً ومشاعر، وبدأتُ أتصوّر نفسي مُغرمة مُجدّدًا! لكن لا تنسوا بأيّة حالة كنتُ في ذلك الوقت بالذات، أي صبيّة مُستعِدّة لقبول أيّ شيء يُبعدُها عن ألَمها.

رحتُ وسميرة نجلسُ بالقرب من جهاد، حيث تجمّعَ حوله باقي أفراد المجموعة بسبب طلاقته في الكلام وجاذبيّته الطبيعيّة، وسمعتُه يقولُ لهم إنّه تخرّجَ لتوّه مِن كلّيّة الهندسة وعلى وشك العمَل في شركة كبيرة. إضافة إلى ذلك، كان يرتدي ملابس أنيقة وساعة باهظة الثمَن ويحملُ حقائب من ماركة معروفة جدًّا. أيّ أنّه عريس مُناسب تمامًا لي مِن حيث السنّ وجهوزيّته للزواج، إن وقَعَ طبعًا في حبّي. لَم تكن المسألة صعبة، فالجدير بالذكر أنّني كنتُ فتاة جميلة وأنيقة، أدرسُ القانون ومِن عائلة ذات سُمعة جيّدة. رأَت سميرة كيف أنظرُ إلى جهاد فابتسمَت قائلة: "هو بالفعل وسيم، أليس كذلك؟". خجلتُ فجأة وأجبتُها بالموافقة، فتركَتني رفيقتي وراحَت تجلسُ بعيدًا، حتمًا لتفسَح لي المجال لأكون بالقرب مِن الذي خطَفَ اهتمامي.

بعد ذلك، بدأ جهاد يتواجَد معي وسميرة في أغلَب الأوقات، لكن بطريقة غير مُعلَنة خاصّة في الباص الذي نقلَنا مِن مكان لآخَر. فهو جلَسَ في المقعد الموازي لنا، وفتَحَ معنا الأحاديث المُتنوّعة. كانت سميرة تبتسمُ طوال الوقت لكثرة سرورها أنّ ذلك الشاب مُهتمّ بي، خاصّة بعدما كانت قد عرفَت ما جرى لي مع خطيبي. أظنّ أنّها إعتبرَتني بمثابة إبنة لها، الإبنة التي لَم تولَد منها.

مرَّ يومان على وجود جهاد معنا، وصرنا نوعًا ما مُقرّبَين لكنّه كان دائمًا مُتحفّظًا في تعامله معي، وكأنّه يخشى ألا أكون أُشاطِره إعجابه. ويا لَيته كان يُدركَ أنّني كنتُ أتصوّر نفسي معه في حفل زفافنا، مُرتديةً فستاني الأبيض، الفستان نفسه الذي اشترَيتُه حين خُطِبتُ آنذاك! لكنّني تفهّمتُ حذره، فقد يكون هو الآخَر قد مرَّ بتجربة مريرة ويخشى الخذلان. لِذا عمَدتُ على إعطائه بعض الوقت، وفي الآن نفسه تمرير بعض الإيحاءات عن تجاوبي معه.

كنتُ في غاية الفرَح إذ أنّ الرحلة والرفقة كانتا مُمتازتَين، فلقد زرتُ أماكن رائعة الجمال مع صديقة جديدة وحبّ جديد، وشكرتُ ربّي على هذه الهديّة. إلا أنّ إحدى المُسافِرات معنا قالَت لي عندما كنّا في أحَد الأماكن السياحيّة:

 

ـ أرى أنّكِ مُهتمّة بشكل خاص بالذي اسمه جهاد.

 

ـ أنا؟ لا... لماذا تقولين ذلك؟ إنّه رفيقنا في المجموعة وحسب.

 

ـ إنّه ليس مُناسبًا لكِ. على كلّ الأحوال، أرَحتِ بالي فأنتِ تبدين لي صبيّة رصينة وابنة عائلة.

 

ـ لماذا تقولين ذلك عن جهاد؟ فلَم يبدر منه أيّ شيء يدلُّ على كلامكِ. هل استأتِ لأنّه مُقرّب منّي؟

 

ـ أنا إستأتُ؟ دعيني أضحَك! أنا سيّدة مُتزوّجة وسعيدة مع زوجي! لَم يكن يجدرُ بي التكلّم معكِ!

 

إنزعجتُ كثيرًا مِن كلام المرأة ووقاحتها، فكيف تسمَح لنفسها التدخّل في خصوصيّاتي والتكلّم بالسّؤ عن جهاد؟ رحتُ على الفور إلى صديقتي وأخبرتُها ما جرى، وهي هدّأت مِن غضبي قائلة:

 

- الناس مملوؤن بالغيرة والحقد... لا عليكِ، فأنا أجِدُ أنّ جهاد شاب يُناسبُكِ تمامًا. وإن كان هناك مِن فرصة للوفاق بينكما، فلا تتردّدي.

 

تشجّعتُ للمضيّ في ما تراءى لي علاقة ناجحة، فبقيتُ أُلازِم جهاد أينما كنّا. لَم نتكلّم عن أمور شخصيّة، فقط في ما يتعلّق بالبلَد الذي كنّا نزورُه وروعته وقليلاً عن أنفسنا. لكنّني أخبرتُه عن حياتي وطموحاتي بالتفاصيل، كي يعرفَ أنّني إنسانة جيّدة وبالأخصّ أنّني خُذِلتُ ولن أتحمّل ضربة ثانية. كان عليه أن يعي ضرورة أن يكون صادقًا معي في ما يخصّ مشاعره تجاهي.

بقيَ لعودتنا إلى البلَد فقط يومان، فالوقت يمرّ بسرعة حين نكون سعيدين، وقرّرتُ أنّني سأنتزِعُ مِن جهاد وعدًا بأن نبقى على إتّصال لدى رجوعنا. لِذا دبّرتُ مقابلة بيني وبينه على إنفراد، فحتّى ذلك الحين لَم يتسنَّ لنا الجلوس معًا مِن دون رفقة أحَد، خاصّة أنّه كان يخلدُ إلى النوم باكرًا للحفاظ على نشاطه، كَونه يهتمّ برشاقته البدنيّة ويقصد ناديًا رياضيًّا ويأكلُ أكلاً صحّيًّا.

وافاني جهاد إلى أحد مطاعم الفندق الذي كنّا نمكثُ فيه، بعدما أوكَلتُ سميرة بعدَم السّماح للمُسافرين الآخَرين باللحاق بنا، وهي وعدَتني بالاهتمام بالموضوع. جلستُ مع ذلك الشاب الوسيم وطلَبنا بعض الحلوى، وسألتُه عن نفسه مؤكّدةً له أنّ أمره يهمّني بوجه خاصّ. إبتسَمَ جهاد لدى سماعه ذلك، ونظَرَ إليّ وكأنّني فتاة صغيرة قد تفوّهَت بكلمات لطيفة. إنزعجتُ مِن ردّة فعله التي لَم أستطِع تفسيرها تمامًا لكنّني لَم أتراجَع. أمّا هو، فبقيَ يتكلّم عن أمور مُتفرّقة مُتجاهلاً طلَبي. عندها فهمتُ أنّه غير مُهتمّ بي. لكن حين أردتُ المُغادرة، أمسكَني جهاد مِن ذراعي قائلاً:

 

- أنا آسِف... أحيانًا لا أعرفُ ما أقوله لصبايا مِن عمركِ... إضافة إلى ذلك، لا أعتقِد أنّ لدَيكِ ما أريدُه،

 

خرجتُ مِن المطعم بسرعة قَبل أن يرى دموعي، ورحتُ إلى غرفتي لأبكي على سجيّتي. نشّفتُ دموعي ونزلتُ إلى الردهة لأصعد مع باقي المجموعة في الباص لنذهب إلى أحَد المعالِم السياحيّة المعروفة. سألَتني سميرة كيف جرَى الموعِد، لكنّني لَم أُجِبها إلا أنّها فهِمَت أنّني مُستاءة.

لدى عودتنا إلى الفندق، ذهَبَ الجميع إلى غرفته لكثرة تعَبنا، بعد أن مشينا كثيرًا وزرنا أكثر مِن مكان. مِن جهتي، فضّلتُ القراءة في سريري قليلاً لأحضِّر نفسي لاحقًا لأمسية راقصة أعدَّها دليلُنا.

غرِقتُ في النوم رغمًا عنّي، وإذ بي أستيقِظ على قرع بابي بقوّة. رحتُ أفتَح ووجدتُ أمامي جهاد شبه عارٍ يقولُ لي عاليًا:

 

- أُحبُّكِ أكثر مِن أيّ شيء... ولَم أستطِع مُقاومة رغبتي برؤيتكِ.

 

ثمّ هو دخَلَ الغرفة، واستلقى على سريري قَبل أن أستوعِبَ ما يحصل. بعد ثوانٍ قليلة، قُرِعَ بابي مرّة ثانية، وإذ بي أرى أمامي رجُلاً لا أعرفُه يصرخ:

 

- أين هو؟ أين هو؟!؟

 

وحين رأى جهاد على سريري، هدأ الرجُل وسمعتُ سميرة تقولُ له مِن خلفه:

 

- أترى أنّه عشيقها وليس عشيقي؟

 

سرعان ما إلتمّ علينا باقي أفراد المجموعة، ووقفوا إمّا عند بابي أو داخل غرفتي، بينما حاولتُ إفهامهم أنّني لا أدري ما يجري. عندها قالَت لي المرأة التي نبّهَتني مِن جهاد:

 

- قلتُ لكِ إنّه غير مُناسب لكِ لكنّكِ لَم تستمعي لي... أنتِ على ما يبدو تهوين المُغامرين شأن صديقتكِ سميرة. ولقد وصَلَ زوجها لضبطها بالجرم المشهود مع جهاد، بعد أن إنتشرَت الأقاويل حولهما ودخوله غرفتها خلسةً كلّ ليلة! وأراه الآن على سريركِ، يا مُحترمة! هل تتقاسمانه سميرة وأنتِ؟ يا لك من خبيثة... تدّعين العفّة والأخلاق!

 

حاولتُ إفهامها أنّ لا دخلَ لي أبدًا بما حصَلَ أو يحصل، لكنّها إكتفَت بهزّ رأسها والضحك. غادر الجميع إلى غرفهم، وبقيَ زوج سميرة وسميرة وجهاد، لأنّ الزوج لَم يكن مُقتنِعًا تمامًا بما رآه، فمعلوماته أكّدَت له أنّ هناك علاقة حميمة بين زوجته وذلك الشاب الذي، كما علِمتُ لاحقًا، يهوى النساء الناضجات ويعيشُ مِن مالهنّ وكرَمهنّ، وليس شابًّا جامعيًّا كما ادّعى. ولكي يُبعِد الشبهات عن عشيقته، قامَ جهاد بمُعانقتي رغمًا عنّي بحنان. أبعدتُه عنّي بقوّة، وقلتُ للزوج إنّ لا علاقة لي بجهاد بل أنّه دخَلَ غرفتي عنوة. لا أعرفُ إن هو صدّقَني، لكنّه غادر المكان مع سميرة وجهاد. بقيتُ لوحدي أبكي على غبائي وسذاجتي، ولزمتُ الغرفة حتّى اليوم الذي تلى ولَم أُغادِرها سوى للذهاب مع المجموعة إلى المطار. لَم أنظُر إلى أيّ منهم، خاصّة سميرة وجهاد خوفًا مِن أن يُتابعا مسرحيّتهما وتتشوّة سُمعتي أكثر بَعد. لَم أسمَع منهما بعد ذلك أو مِن أيّ مِن الذين سافَرتُ معهم.

تأثّرتُ كثيرًا بما جرى في تلك الرحلة، فأدركتُ أنّني بالفعل إنسانة ساذِجة تقعُ في كلّ فخّ يُنصَب لها. فالناس تعرفُ مَن تستفيد منه وأنا كنتُ الضحيّة المثاليّة، بدءًا بخطيبي.

كنتُ قد أخبرتُ سميرة وجهاد عمّا حصَلَ لي مع خطيبي، وبيَّنتُ كذلك عن عدَم نضوج في الوقوع في حبّ شابّ لا أعرفُ عنه شيئًا، وبدأتُ أحلمُ بالفعل أحلام فتاة صغيرة لا صلة لها بالواقع. وها قد تشوّهَت سُمعتي، ورجَوتُ ربّي ألا تنتشِر الأقاويل حولي، بل تبقى ضمن المجموعة التي رافقتُها.

لَم أخبِر أحَدًا عمّا جرى، وعزمتُ على تقوية شخصيّتي وأخذ حذَري مِن الناس وعدَم تصديقهم على الفور، بل الغوص أكثر في نفسيّاتهم. لَم أعُد أثِقُ بالناس لفترة طويلة أكانوا نساءً أم رجالاً، بل رأيتُ فيهم مشاريع غشٍّ وكذِب. لكن بعد مرور بضع سنوات، إرتحتُ قليلاً وصارَت ثقتي بنفسي أقوى وخبرتي بالحياة أعمَق، وحينها فقط إستطعتُ الوثوق بالآخَرين. أنا اليوم مُتزوّجة وأمّ لولدَين، والحمد لله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button