ذكريات مُبهمة

ترعَرعتُ في جوّ عائليّ مثاليّ، فكان والدايَ متحابَّين ولم يحدث ولو مرّة واحدة أن تشاجرا. كنتُ أحزن على رفاقي في المدرسة الذين كانوا يُعانون مِن اضطرابات سببها مناكفات أهلهم، وأحمد ربّي على حياتي الهنيئة. وبما أنّني كنتُ الأكبر بين إخوَتي، عملتُ جهدي لأكون على قدر المسؤوليّة لأمشي على خطى أبي وأمّي.

ولكن شاء القدَر أن تموت أمّي الحبيبة. حدَثَ الأمر فجأة حين توقَّف قلبها وسقطَت أرضًا. في البدء ظننّا أنّ المسألة عرضيّة وأنّها ستستفيق مِن ما اعتقدناه دوارًا، ولكنّها توفّيَت على الفور.

لن أستطيع وصف الذي أصابَني بعد ذلك مِن حزن واستنكار، ولولا دَعم أبي والعائلة لغرقتُ في يأس عظيم. فبعد مراسم الدفن جمعنا والدنا وقال لنا:

 

ـ ما حَدَثَ هو مشيئة الله ولا نقدر على محاسبته، فهو الذي يُعطي الحياة ويأخذها حين يشاء... مِن واجبنا تكريم ذكرى أمّكم وكأنّها لا تزال بيننا... لن يتغيّر شيء في هذا البيت إلا أنّها لن تكون معنا جسديًّا... مِن الطبيعي أن تحزنوا على فقدانكم لها، ولكنّ الحياة تستمرّ... سأكون حاضرًا معكم كالعادة لا بل أكثر، ولن تشعروا يومًا بأنّكم لوحدكم.

 

أثّر بي حديث أبي كثيرًا، ومرّة أخرى شكَرتُ الله على حظّي. عملتُ كما نصحنا أبي فمسحتُ دموعي حافظةً تعليمات أمّي لأطبّقها وكأنّها لا تزال معي. أمّا بالنسبة لأخوَتي، فكانوا لا يزالون صغارًا ولا يستوعبون الأحداث. كان لدَيَّ خوف واحد وهو أن يتزوّج والدنا ويأتي لنا بأمّ بديلة. كنتُ أعلم أنّني لن أتحمّل الوضع، لِذا فاتحتُه بما يمنعني مِن النوم عميقًا في الليل. لكنّه طمأنني قائلاً: "أمّكِ كانت كافية، صدّقيني!

 


إرتاح بالي واستطَعتُ مواصلة حياتي بسلام، فلم أكن قد تجاوزتُ العاشرة مِن عمري وكان يحقّ لي أن أعيش طفولتي كباقي الأولاد. مرَّت السنوات بهدوء ولكن بفراغ أيضًا فليس للأولاد أن يربوا مِن دون أم. حاولَت جدَّتي والدة أمّي أن تعطينا الحنان الذي كان ينقصنا ولكنّ ذلك لم يكن كافيًا. وبقيَ أبي على وعده فلم يتزوّج ولم يُعاشر حتى امرأة أخرى. كيف تأكّدتُ مِن ذلك؟ لأنّه لم يغِب يومًا عن البيت وكان يعود مِن عمله فور الانتهاء منه. كنتُ أودّ لو كانت له رفيقة يشكو لها مِن الثقل الذي كان على كتفَيه، أو يتنزّه معها للتمويه عن نفسه، لِذا قلتُ له في أحد الأيّام:

 

ـ أبي، ها قد كبرنا وأنا أصبحتُ على وشك نَيل إجازتي بالحقوق، ولقد حان الوقت لتكون لكَ حياة خاصّة... نقدّر لكَ تفانيكَ وإخلاصكَ لأمّنا ولكن ماذا سيحصل لكَ عندما نترك البيت؟

 

ـ أنا سعيد هكذا يا حبيبتي.

 

ـ لا أظنّ ذلك فأنا أرى الحزن في عَينَيكَ وأشعر بالملل الذي يملأ قلبكَ. أعلم كم كنتَ متعلّقًا بأمّنا ولكنّها ماتَت مِن سنين طويلة، وأنا متأكّدة مِن أنّها تريدكَ أن تكون سعيدًا حتى لو كان ذلك مع امرأة غيرها.

 

ـ متأكّدة؟ أنتِ لا تعرفين أمّكِ!

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ لا شيء... لا شيء.

 

جملته الأخيرة أثارَت فضولي، فقد كانت تلك أوّل مرّة أسمع أبي يتكلّم هكذا عن أمّي بعد أن قضى أكثر مِن عشر سنوات يتغنّى أمامنا بمزاياها الحميدة.

لو كانت جدّتي لا تزال على قيد الحياة لسألتُها عن معنى حديث صهرها، ولم يعد هناك سوى خالتي لأعرف منها كيف كانت أمّي حقيقةً فأنا لم أكن أذكر منها إلا القليل، وحتى تلك الذكريات المتبقيّة أصبحَت تختفي يومًا بعد يوم لتحلّ مكانها الأخبار التي زوّدنا بها أبونا وجدّتي. لم تزرنا خالتي إلا نادرًا حتى بعد موت والدتي، ولطالما وجدتُ الأمر غريبًا لأنّها بقيَت عزباء بالرّغم مِن جمالها وعلمها وروحها الفرحة، أي كان لدَيها متّسع مِن الوقت لتقضيه معنا. هل كان ذلك لأنّها لم تكن تحبّنا؟

قرَعتُ باب خالتي وبعد أن جلسنا في الصالون، طلبتُ منها أن تحكي لي عن أمّي وهي فعَلَت وسمعتُ منها ما سمعتُه مِن غيرها. لِذا قاطعتُها:

 

ـ أريد الحقيقة وليس جملاً معلّبة.

 

ـ هذه هي الحقيقة! مَن قال لكِ عكس ذلك؟

 

ـ أبي... وأريد منكِ أن تؤكّدي لي ما قاله عنها.

 

ـ أبوكِ قال لكِ ذلك؟ هل هذا يعني أنّ الوقت حان لنتكلّم عنها بحريّة؟

 

ـ أجل يا خالتي، حان الوقت.

 

كان قلبي يدقّ بقوّة داخل صدري، أوّلاً لأنّني كذبتُ على خالتي وثانيًا لأنّني شعَرتُ بأنّني سأكتشف أشياء قد لا تكون سارّة. وأكملَت خالتي:

 


ـ لا يجدر بنا التكلّم سوءًا عن الأموات، ولكن إذا كان هذا ما يُريده أبوكِ فليكن، فهو المتضرّر الأوّل، أم أنّني المتضرّرة الأولى؟ لم أعد أعلم.

 

ـ أرجوكِ أن تحكي لي ما أريد معرفته.

 

ـ حسنًا... أمّكِ، رحمها الله، كانت... لنقل "قويّة الشخصيّة" وتحبّ نفسها فوق كلّ شيء... وأعني ما أقوله... ولأنّها كانت تكبرني بسنوات عدّة ، كان لها تفوّق عليّ ولم أكن أجرؤ على الوقوف بوجهها. لا أدري إن كان أبوكِ قد أخبركِ بذلك، ولكنّنا كنّا متحابَين... حصَلَ ذلك قبل سنة مِن زواج والدَيكِ... ولكن أمّكِ قرَّرَت أن تأخذه منّي... هكذا كانت رحمها الله، واستعملَت أخبث الطرق التي تملكها امرأة لإجبار أبيكِ على اصلاح الأمور.

 

ـ تعني أنّها...

 

ـ أجل، لقد حَمِلَت أمّكِ بكِ قبل الزواج، ولأنّ أبوكِ كان ولا يزال رجلاً شهمًا، تزوّجها، ولكنّه بقيَ يُحبّني... لم أغضب منه لأنّه عاشَرَ أختي فكنتُ أعلم أنّها تحصل دائمًا على مرادها، وأنّ إنسانًا كوالدكِ لا ولن يستطيع التفوّق عليها. لم يكن أبوكِ سعيدًا مع أمّكِ، وحاوَلَ رؤيتي لأنّه كان يشعر بالسّلام معي، ولكنّ أمّكِ وجَدتنا سويًّا جالسَين في مقهى ممسكَين بيدَي بعضنا، وافتعلَت مشكلاً عظيمًا مهدّدة بالفضيحة والانتقام بالرّحيل وحرمانه منكم. لِذا قطعنا كلّ اتصال بيننا.

 

ـ ولكن... ما أذكره عن والدَيَّ هو أنّهما كانا جدّ متحابَّين!

 

ـ ظاهريًّا فقط... كان أبوكِ كالسجين الذي رضَخَ لسجّانته وحبّه لكم فاقَ كلّ اعتبار آخر، ولقد تحمَّل كل ذلك للتكفير عن ذنبه لأنّه خانَني مع أختي... وأنتِ كنتِ لا تزالين صغيرة لفهم نوعيّة علاقتهما حقيقةً.

 

ـ ولماذا لم تعودا إلى بعضكما بعد موت أمّي إذًا؟

 

ـ في ذلك الوقت كنتُ أواعد شابًّا، ولكن أتضَحَ لي أنّني لن أحبّ غير أبيكِ.

 

ـ أعذريني ولكنّني أجد صعوبة بتصديقكِ... أمّي كانت ألطف مخلوقة عرفتُها وأبي كان سعيدًا معها.

 

أمسكَتني خالتي بيدي وقادَتني إلى جارتها في المبنى. وعندما أصبحنا في الداخل قالت للمرأة:

 

ـ أخبري ابنة أختي عن أمّها.

 

سادَ سكوت عميق ثمّ قالت الجارة:

 

ـ أخبرها كلّ شيء؟

 

ـ أجل.

 

ـ حسنًا... أمّكِ يا حبيبتي أخذَت والدكِ مِن خالتكِ وأجبرَته على الزواج منها، لن أدخل بالتفاصيل... ومِن ثمّ منعَت اختها مِن دخول بيتها إلى الأبد، وساندَتها بذلك جدّتكِ التي كانت تخاف منها هي الأخرى... أم أنّها كانت تشبهها... لستُ أدري. الكلّ هنا يعرف ذلك فنحن كالعائلة الكبيرة وكنّا شهودًا على تعاسة خالتكِ.

 

ركضتُ خارجًا لأنّني كنتُ أودّ أن أبكي على سجّيتي، وقصَدتُ مكتبة الجامعة لأستعيد أفكاري. بعد ساعات طويلة عدتُ إلى البيت، كان أبي مشغول البال عليّ. وقبل أن يسألني أين كنتُ قلتُ له:

 

ـ لقد ضحَّيتَ بكلّ شيء مِن أجلي وأخوَتي... دستَ على كرامتكَ ومثَّلتَ دور الزوج السعيد كي لا تُحرَم منّا.

 

ـ مَن...

 

ـ دَعني أكمل. لَم تشوّه سمعة أمّنا أمامنا، وعشتَ كالناسِك لتعاقَب نفسكَ، لذلك كلّه أشكركَ مِن كلّ قلبي، ولكن حان الوقت لتفرح بحياتكَ... ستتزوّج مِن خالتي وبأسرع وقت!

 

ـ ولكن...

 

ـ كفى هدرًا لوقتكَ ووقت التي أحبَبتَها طوال حياتكَ، ستتزوّج منها وحسب!

 

إبتسَم َأبي ورأيتُ أخيرًا بصيص سعادة في عَينَيه. تعانقنا وعلِمتُ أنّه سيكون على ما يرام مع نصفه الآخر.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button