عندما انتقَلنا للعَيش في تلك الشقّة الجديدة، إرتحتُ لأنّ المبنى كان لا يزال خاليًا وكنّا فيه السكّان الوحيدين. فهكذا لَم أكن مُجبرة على القيام بزيارات للجيران أو تحمّل تصرّفات قد تكون مُزعجة. أحسَسنا بالفعل وكأنّنا نعيشُ في فيلا خاصّة بنا.
إلا أنّ سعادتنا لم تدم طويلاً، إذ أنّ أناسًا قدموا إلى المبنى وسكنوا فوقنا مباشرة. لَم نظنّ آنذاك أنّ ذلك الحدَث، الذي كان بسيطًا بحدّ ذاته، كان سيجلب لنا متاعب خطيرة جدًّا.
فبعد وصول هؤلاء القَوم، الذين كان عددهم يفوق العشرة، بدأَت الضجّة تسود المكان. فكانوا، إلى جانب صراخهم الدائم، يُشغّلون الراديو حتى ساعات الفجر وذلك طيلة أيّام الأسبوع. تحمّلنا هذا التعدّي إلى أن طَفَحَ كَيلنا، فصعِدَ خليل، زوجي، إليهم ليطلبَ منهم خَفت صوتهم وصوت الموسيقى، وعادَ إلى البيت مُطَمئنًا. في تلك الليلة، نمنا والأولاد بسلام.
إلا أنّ الضجّة عادَت في اليوم التالي، وكأنّنا لم نشتكِ لهم أبدًا، الأمر الذي أثارَ غضب زوجي. هدّأتُ مِن روعه، فقد كان مستعدًّا لقصدهم مجدّدًا والصّراخ بهم. قلتُ له:
ـ إهدأ يا حبيبي... سأزورُ ربّة البيت غدًا وأتكلّم معها بهدوء... نحن النساء نعرفُ كيف نتحاور بسلام، على عكسكم أنتم الرجال.
ضحكنا لتلك المزحة ونمنا بعد أن طلَعَ الضوء علينا.
وكما وعدتُ فعلتُ، إذ رحتُ أدّق باب جيراننا حاملة معي بعض الحلوى اشتريتُها للمناسبة. إستقبلَتني امرأة ضخمة البنية لا تملكُ أيّ قدر مِن الأنوثة، ودعَتني للدّخول. بعد أن جلسنا، شرحتُ لها أنّنا بحاجة إلى قسط مِن النوم كي يذهب زوجي إلى عمله والأولاد إلى مدارسهم، ورجوتُها أن تكلّم أبناءها الذين كانوا شبابًا، وتحملُهم على عدَم إحداث ضجّة بعد هبوط الليل. ووعَدَتني المرأة بأنّها ستمنعُ أيّ أحد مِن إزعاجنا قبل أن أخرج مِن شقّتها ممتنّة.
عندما عادَ خليل مِن عمله، رويتُ له ما حدَث مُفتخرة بنفسي:
ـ أرأيتَ؟ لقد حلَّيتُ المشكلة ببضع دقائق! سننام ملء عَينَينا الليلة وكلّ ليلة!
وما أن أنهَيتُ جملتي، حتى صاحَ راديو الجيران بأعلى صوته فنظَرَ إليّ زوجي مُستهزئًا، ثمّ قال:
ـ مِن الواضح أنّ هؤلاء الناس لن يتوقّفوا بالطرق السلميّة عمّا يفعلون، ولقد حان الوقت لأكلّم أحدًا.
ـ يا إلهي! ماذا تقصد؟
ـ لا تخافي، أقصد البلديّة. سيُرسلون أحدًا ليُوبّخهم وستنتهي مأساتنا.
أخَذَ خليل هاتفه وأتّصل بالبلديّة وشرَحَ لهم مشكلتنا، فأجابوه أنّهم سيبعثون دوريّة للتأكّد مِن كلامه وسيتصرّفون تباعًا.
بعد دقائق عدّة، رأينا ضوء إنذار سيّارة البلديّة التي توقّفَت تحت المبنى وخَرَجَ منها رجل. إنتظرنا بضع دقائق لنرى إن كان سيتمكّن مِن إقناع جيراننا بالتوقّف عن إحداث الجلبة، لكن فوجئنا به يدقّ بابنا. فتَحَ له خليل قائلاً:
ـ أتسمعُهم؟ لا يُمكنُنا النوم بسبب هذا الضجيج الفظيع!
ـ أيّ ضجيج سيّدي؟
ـ أيّ ضجيج؟ هل أنتَ أصمّ؟
ـ لا داعٍ للفظاظة، يا سيّدي. أرى أنّ أعصابكَ مشدودة بعض الشيء. أنصحُكَ بأن ترتاح قليلاً وتدَع جيرانكَ بسلام. لطالما كان هذا الحَي هادئًا، ولا نريدُ أن تحدث مشاكل فيه. فقد يشتكي جيرانكَ عليكَ وتجد نفسكَ في مأزق كبير.
ـ مِن المؤكّد أنّني أحلم! هم الذين يُخلّون بالهدوء وليس أنا! هم المذنبون وليس أنا! وأنا الذي عليه أن يشتكي عليهم وليس العكس!
ـ لا أنصحُكَ بذلك، يا سيّدي.
ـ لماذا؟!؟
ـ لأنّكَ ستُدخِل نفسكَ بقضيّة تكلّفكَ الكثير.
ـ لدَيّ المال الكافي.
ـ لَم أكن أتكلّم عن الكلفة الماديّة... لدَيكَ عائلة ويجب أن تفكّر بسلامتها، فالحوادث تحصل باستمرار وبشكل مفاجئ.
ـ هل تهدّدُني وعائلتي؟!؟
ـ بل أنصحُكَ بنسيان أمر جيرانكَ. طابَ مساؤكَ، سيّدي.
رحَلَ الرجل وبقينا واقفَين نحاول استيعاب ما حصَل. هل يُعقل أن يكون شرطيّ البلديّة هذا قد هدَّدَنا بشكل صريح؟!؟ عندما أقفَلنا الباب وجلَسنا، قلتُ لزوجي:
ـ قد يكون مِن الأفضل أن نتجاهل ذلك الضجيج... تُباع في الصيدليّة سدّادات للأذن ويُمكنُنا...
ـ وهذا هو الحلّ برأيكَ؟
ـ أجل إن كان أولادنا بخطر، يا حبيبي.
لكنّ خليل لَم يكن مِن الذين يخضعون عند أوّل تهديد، فهو لَم يكن مستعدًّا لترك ذلك الشرطيّ يُفلت بفعلته.
في الصباح، قصَدَ خليل مبنى البلديّة وطلَبَ مقابلة رئيسها. قيل له إنّ الرئيس ليس موجودًا وطلبوا منه أن يعود لاحقًا. وحين صعِدَ زوجي في سيّارته ليذهب إلى عمله، أحاطَه أربعة رجال ومنعوه مِن إدارة المحرّك. ثمّ جاء أحدهم وجلَسَ على المقعد إلى جانبه وقال له:
ـ أرى أنّكَ عنيدٌ... لقد نبّهناكَ، وما سيحصل لكَ ولعائلتكَ هو ذنبكَ وحدكَ.
ثمّ نزلَ الرجل مِن السيّارة واختفى مع رفاقه. خافَ خليل عليّ وعلى الأولاد، لِذا أسرعَ بالعودة إلى البيت لنفكّر سويًّا بما سنفعلُه. وبّختُ زوجي على تصرّفه غير المسؤول الذي وضعَنا جميعًا في خطر كبير، فكان مِن الواضح أنّ هؤلاء الناس لهم صلة بجيراننا وما يحصل بينهم بغاية الأهميّة، وهم مستعدّون لأيّ شيء لحماية مصالحهم المُشتركة. فالأمر لم يكن أبدًا متعلّقًا ببعض الضجّة الليليّة، بل بأشياء أكثر أهميّة.
ولم يتعلّم خليل مِن الذي حدَثَ أو يسمَع منّي حين قلتُ له: "أترك الأمور على حالها، ثق بي، يا زوجي، فأنا أعلمُ ما أقولُه. هل خذلتُكَ يومًا؟"، بل نظَرَ إليّ باستهزاء ولَم يعرني أهميّة. أسفتُ لقلّة ثقته بي وبقدرتي على أخذ القرارات أو تحليل الأمور بصواب، إلا أنّني لَم أشأ الدخول في جدال. فالأحداث كانت بغاية الخطورة.
ثمّ سأَلَ خليل عن الأولاد، فأجبتُه أنّني أرسلتُهم إلى أمّي لينالوا قسطهم اللازم مِن النوم إلى حين تنتهي تلك المسألة. إعتَرَفَ لي زوجي أخيرًا بأنّني فعلتُ الصواب، وعادَ يُفكّر بطريقة للإنتقام مِن جيراننا والذين يحموهم.
لَم يستطع خليل التواصل مع رئيس البلديّة الذي كان، مرّة أخرى، متغيّبًا، الأمر الذي زادَ مِن امتعاضه واتّهمه بالتواطؤ مع فريق عمله.
لَم أنَم طوال الليل الذي تلا، ليس فقط بسبب الضجيج الذي لم يتوقّف، بل لأمر آخر كان سيحدثُ وانتظرتُه بفارغ الصبر.
فقرابة الفجر، سمعنا صوت عدد كبير مِن السيّارات تتوقّف تحت المبنى وصوت أقدام تصعد السلالم. أرادَ زوجي أن يخرج ليرى ما الذي يحدث، إلا أنّني أمسكتُ بذراعه بقوّة وصرختُ به: "بل ستبقى هنا! ثق بي ولو مرّة واحدة!"
تصاعدَت صرخات بشكل فظيع ومِن ثمّ ساد الصّمت. بعد دقائق، سمعنا خبطًا على بابنا، فقلتُ لخليل: "الآن يُمكنكَ فتح الباب".
كان رئيس البلدية واقفًا أمامنا ومعه عدد مِن رجال الشرطة، وقال لي بالذات: "إنتهَت العمليّة، نشكُركِ على تعاونكِ، لولاكِ لَما أوقَفنا العصابة بأكملها". ثمّ رحَلَ الجميع.
نظَرَ إليّ خليل بدهشة، فأخذتُه إلى الداخل لأطلعُه على تسلسل الأحداث:
ـ أتذكُر عندما زرتُ جارتنا للتحدّث معها؟ ألَم أقل لكَ إنّها ضخمة البنية وليس لدَيها أيّة أنوثة؟ شككتُ على الفور بأنّها رجل يتنكّر بزَيّ امرأة، فقصدتُ رئيس البلديّة، أثناء وجودكَ في العمل والأولاد في المدرسة. أخبرتُه بكلّ الذي يحدث، وهو طلَبَ منّي إبقاءه على علم بكلّ شيء. لِذا عرفَ منّي ما قاله لنا شرطيّ البلديّة وكيف هدّدنا، فوعَدني بأن يقوم باللازم. فالواضح أنّ جيراننا عصابة تتاجر بالممنوعات، وأنّهم متواطؤون مع بعض أفراد شرطة البلديّة الفاسدين، وقد عزموا على إزعاجنا وإخافتنا لنترك المبنى ليقوموا بأعمالهم بحرّيّة. ثمّ أرسلتُ الأولاد بعيدًا كي لا أعرّضهم للخطر.
ـ ماذا؟ حصل كلّ ذلك مِن دون معرفتي؟!؟
ـ أجل وأنا آسفة يا حبيبي، لكنّكَ عصبيّ للغاية ولَم أكن أعلم ما بإمكانكَ فعلُه لو علمتَ بالحقيقة. فلو شعَرَت العصابة بأنّنا اكتشَفنا أمرهم، أي أنّهم ليسوا عائلة عاديّة، لأذونا والأولاد على الفور. كان مِن الضروريّ عدم إخباركَ بما يحصل لأنّ العواقب قد تكون وخيمة. ألا تذكر كَم مرّة طلبتُ منكَ الترّيث والوثوق بي؟
ـ أجل أتذكّر.
ـ كان بإمكانكَ تعريضنا للأذى وربّما للموت، فهؤلاء لا يكترثون لحياة الناس لأنّ مصالحهم أهمّ مِن كلّ شيء.
ـ لَم أتخيّلكِ بهذه البرودة والقوّة والذكاء!
ـ إنّه "دهاء النساء"، يا حبيبي!
حاورتها بولا جهشان