دمرت أمي حياتي...

لم أكن أبدًا سعيدًا بزواجي لأنّني لم أحبّ داليا ولم أختَرها. لماذا إذًا ربَطتُ مصيري بمصيرها؟ لأنّ أمّي أرادَت ذلك. ولماذا لم أقف بوجهها؟ لأنّها مِن اللواتِي تقرِّرنَ وتنفذنَ مِن دون الرجوع إلى أحد. هكذا كانت ولا تزال، ولم يقوَ عليها أحد يومًا، حتى أبي الذي فضَّلَ البحث عن راحة البال مع امرأة أخرى بعد أن عَرَض عليّ مرافقته:

 

ـ تعالَ معي يا بنَي، لا تبقَ مع تلك المستبدّة.

 

ـ لا أستطيع تركها لوحدها يا أبي.

 

ـ أنتَ خائف عليها؟ يجدر بكَ أن تخاف منها! إسمَع منّي، فحين أرحل لن تجد سواكَ لصبّ غضبها عليه وممارسة طغيانها.

 

ـ لستُ مثلكَ.

 

كنتُ مخطئًا، وهو كان على حق لأنّه عرفها جيّدًا طوال عشرين سنة زواج. فلم تتقبّل أمّي أن يكون زوجها قد فرّ مِن شباكها، واعتبَرت الأمر بمثابة إهانة قاسية. وسرعان ما باتَت الحياة في البيت لا تُطاق، بسبب غضبها ونكدها وتلميحاتها عن حقيقة الرّجال ومكرهم.

كنتُ أجد ملاذي في درسي، وأقضي وقتي في الجامعة حيث كنتُ أبقى حتى بعد دوام الحصص كي لا أعود وأجلس مع والدتي.

في تلك الأثناء هي قرَّرَت أنّ عليها استبدال أبي برجل آخر، وحرِصَت على اختياره كما يجب كي لا تقع في الخطأ نفسه ويهرب منها، فوقَعَ اختيارها على شاب يصغرها بأكثر مِن خمس عشرة سنة، أي أنّ "عوده كان طريًّا" كما كانت تقول عنه.

لم تحاول والدتي حتى أخفاء علاقتها بحبيبها، بل جلَبَته إلى البيت، وتفاجأتُ به جالسًا على الأريكة ليلة عدتُ مِن الجامعة. نظرتُ إلى ذلك الشاب مُستفسرًا فقالَت لي:

 


ـ هذا سليم، رجل حياتي.

 

كِدتُ أضحك ولكنّني اكتفَيتُ بهزّ رأسي، ولم أستوعب حقيقة ما سمعتُه إلأ بعد دقائق طويلة. لم أكن أشكّ بأنّ لأمّي جانب شهوانيّ فلطالما اعتبَرتُها مستبدّة فقط، ولم أعرف كيف أتعامل مع ذلك الوضع غير الاعتياديّ.

ألقَيتُ التحيّة على سليم الذي كان يكبرني بخمس سنوات فقط وهو بادلَني التحيّة بجدّيّة. جلَسَت أمّي بالقرب منه على الأريكة ووضعَت رأسها على كتفه قائلة:

 

ـ سيسكن سليم هنا.

 

ـ في بيتنا؟!؟

 

ـ في بيتي!

 

كانت تقول الحقيقة، فالبيت كان باسمها بعد أن أقنعَت أبي بتركه لها. وكانت تُفهِمُني بذلك أنّ ليس لي رأيًا بما يحصل، وإن لم أكن موافقًا فبإمكاني الرحيل. سكتُّ وتقبّلتُ بالأمر، لأنّني كنتُ لا أزال طالبًا ولا أجني شيئًا كي أرحل وأعيش بعيدًا عنها. صحيح أنّ أبي كان يُرسل لي بعض المال، ولكنّ ذلك لم يكن يكفي لأستقلّ بل بالكاد يُغطّي ثمن المواصلات وشراء بعض الكتب.

إستقرّ سليم عندنا، وسرعان ما بدأ يتصرّف وكأنّه رجل البيت، الأمر الذي كان يُسلّي أمّي ويُغضبني كثيرًا. مَن كان يظنّ نفسه؟ وإلى جانب امتعاضي العميق للوضع، كنتُ أضحك في سرّي لما ينتظره عند أوّل هفوة، فهو لم يكن يعرف والدتي كما أعرفها.

أخبرتُ والدي عمّا يحصل، وانتظرتُ منه أن يُعاود دعوتي للالتحاق به، ولكنّه لم يفعل لأنّه كان قد أسّسَ عائلة جديدة لا مكان لي فيها.

لِذا قرَّرتُ إيجاد عمل يُخوّلني الرحيل. كان الأمر صعبًا عليّ فقد كان اختصاصي في الجامعة يتطلّب درسًا كثيفًا. وسرعان ما تركتُ العمل البسيط الذي وجدتُه، فلم أكن أريد أن أخسر فرصتي بنَيل إجازتي بعدما أصبحتُ قريبًا مِن الهدف.

ولكن لم يعد جوّ البيت مناسبًا للدّرس بعد أن صارَ سليم يدعو رفاقه للسهر طوال الليل وغالبًا حتى بزوغ الفجر. كانت أمّي تحبّ هذه الأجواء التي كانت تُشعرها بأنّها لا تزال شابّة، خاصّة أنّها كانت محاطة بشبّان يُغازلونَها ويُهنّؤون سليم لعثوره على امرأة مثلها.

حاوَلتُ الاعتراض على تلك السهرات، ولكنّ أمّي قالَت لي وبكلّ بساطة: "هذا هو الباب". وفي تلك اللحظة امتلأت عينايَ بالدموع، لأنّني أدركتُ بمرارة أنّني أصبحتُ وحيدًا تمامًا.

 


ولكن بالرّغم مِن تقبّلي القسريّ لتلك الحياة، كان وجودي يُزعج أمّي وعشيقها الذي رأى بي غريمًا ثقيلاً، لِذا قرّرا أن يُزيحاني مِن دربهما. أين ذهَبَ حنان أمّي الذي لطالما تغنَّت به؟ أظنّ أنّه لم يكن موجودًا أصلاً، بل كانت تمثّل دور الأم الفاضلة وسئمَت مِن الادّعاء أخيرًا.

كانت لسليم أخت بشعة وغليظة تكبرني بثماني سنوات إسمها داليا، ولم أتعرّف إليها إلا حين تقرَّر بدء "الخطّة". حاولتُ جهدي أن أبدو لطيفًا معها وأن أتفاداها قدر المستطاع، ولكنّها باتت تأتي لزيارتنا يوميًّا. ومع مرور الوقت صِرتُ أعتاد عليها واعتبَرتُها جزءًا مِن المعادلة. لم ألاحظ النظرات التي كان يتبادلها أخوها مع أمّي، لأنّني لم أشكّ بأنّهما قادران على الايقاع بي هكذا.

فذات يوم حين عدتُ في المساء إلى البيت، وجدتُ داليا جالسة في الصالون. لم يكن هناك سواها فجلستُ معها أحدّثها. وفجأة قامَت هي مِن مكانها وجاءَت إليّ شاكية مِن ألم في معدتها، وطالبة منّي أن أرى إن كان هناك احمرار تحت قميصها. شعرتُ بالاحراج وهي ترفع ثيابها وتأخذ يدي وتضعها على المكان المذكور. وفجأة دخَلَ سليم وأمّي برفقة أناس لا أعرفهم، وبدأوا يصرخون عليّ كالمجانين وداليا أجهشَت بالبكاء ولم أعد أعرف ماذا أفكّر أو أقول.

إنقضَّت أمّي عليّ وصفعَتني بقوّة قائلة:

 

ـ لم أربّيكَ هكذا! أنتَ مثل أبيكَ، فاسق وفاسد!

 

وتابع سليم:

 

ـ إئتمَنتُكَ على أختي أيّها المهووس!

 

وضربَني بقوّة على وجهي. وقبل أن أردّ له الضربة، فرّقَ باقي الحضور بيننا. عندما هدأَت الأجواء تقرَّرَ أن أتزوّج داليا في الصباح الباكر قبل أن ينتشر الخبر وتدمَّر سمعة الفتاة. أيّة سمعة؟ فهي التي تحرّشَت بي! ولكن ما مِن أحد صدّقَني طبعًا، وهدّدوني باستدعاء الشرطة وزجّي في السجن. ورأيتُ حياتي كلّها تضيع منّي بلحظة، خاصّة جامعتي، فلم يعد يتبقّى لي سوى سنة واحدة قبل أن أتخرّج. لِذا فضَّلتُ الزواج على أن أتابع دراستي مِن وراء القضبان.

فهمتُ طبعًا اللعبة، ولكن كلّ الظروف كانت ضدّي. لِذا قرَّرتُ منذ يومي الأوّل كزوج لداليا بألا ألمسها أبدًا. عشنا في بيت أمّي كالأخ وأخته، ولم أنتقل إلى مكان آخر كما كانت والدتي وعشيقها يعتقدان. فشلَت خطّتهما بإبعادي. ماذا كانا ينتظران؟ أن أتزوّج مِن تلك الغليظة وأوقف دراستي وأجد عملاً لأعيش معها في مسكن آخر محاطًا بأولادنا؟

علِمتُ مِن داليا أنّها لم تكن موافقة على ما طُلِبَ منها أن تفعل، بل أُجبِرَت عل ذلك مِن قِبَل أمّي وليس أخيها الذي كان يُنفّذ أوامر عشيقته، وطلَبت منّي المسامحة. قلتُ لها إنّني سأطلّقها فور حصولي على إجازتي، وتقبّلَت الأمر وأبقَينا المسألة سريّة كي لا تفشل خطَّتي.

وهكذا بعد أقل مِن سنة، ذهبتُ مع "زوجتي" عند القاضي وتطلّقنا مِن دون علم أحد. وفي ليلة مِن الليالي غادَرتُ البيت لوحدي حاملاً معي شهادتي وأمتعتي إلى غرفة في فندق. مكثتُ هناك إلى حين وجدتُ عملاً واستطَعتُ استئجار شقّة صغيرة.

كنتُ قد هربتُ مِن أمّي كما فعَلَ أبي مِن قبلي وكما فعَلَ سليم مِن بعدي، حسب ما سمعتُ.

ولأنّ هكذا تكون نهاية مَن يُشبه والدتي، وجَدَت نفسها مِن دون أحد. حاولَت العثور عليّ عبر أبي، ولكنّها لم تستطع بعد أن أخفَيتُ أثَري. لم أكن أريد أيًّا منهما فحياتي أمامي ولا تتضمّن أبوَين أنانيّين.

أنا اليوم متزوّج مِن امرأة رائعة، ولدَيَّ ثلاثة أولاد ولا أزال بعيدًا عن كلّ مَن باستطاعته إتعاسي أو أذيّتي أنا وعائلتي.


حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button