أجل الملائكة حقّاً موجودون ويعيشون وسطنا. ولقد ألتقَيتُ بأحدهم تحت اسم مروان دخَلَ إلى حياتي وخَرَجَ منها برقّة لا يعرفها سوى مَن آمَنَ بالحب وعاشَ مِن أجله.
ففي ذاك يوم وصَلَني طلَب صداقة على الفيسبوك وعندما فتحتُ صفحة مَن كان يسمّي نفسه: "مجهول الهويّة" لم أرَ أيّة صورة شخصيّة. فأرسلتُ له على الخاص: "آسفة ولكنّني لا أضيف أشخاصاً مِن دون صورة شخصيّة واحدة على الأقل." وجاءَ الرد بعد قليل: "وماذا لو كان هذا الشخص هو نصفكِ الآخر؟ هل تدعينَه يرحل مِن دون أن تحاولي معرفته على الأقل؟ كل ما أستطيع قوله لإطمئنانكِ هو أنّني لستُ قبيح ولا متزوّج وأتحلّى بكل القيَم التي تطلبها أي فتاة... وعيوني خضراء."
ومِن دون سبب وجيه قبِلتُ صداقته خاصة أنّه يسكن في أوروبا ولا يشكّل خطراً مباشراً عليّ. وبدأنا نتراسل بإنتظام وأكتشفتُ نبل أخلاقه ونقاوة قلبه. ولكن شرطي الوحيد كان إلاّ نلتقي أبداً لأنّني كنتُ أخاف أن يخيب أملي حين أراه وأن تتشوّه الصورة التي رسمتها عنه في رأسي. وأتفقنا على هذه النقطة وأستطعتُ أطلاق عنان مشاعري التي كانت قد وُلِدَت نحوه.
وأصبحَ مروان جزءً مِن حياتي اليوميّة أستفيق على رسائله وأنام عليها حتى أنّ قرّرنا أن ننتقل إلى الوتساب. فأعطيتُه رقم هاتفي واثقة أنّه لن يستعمله ضدّي خاصة أنّه عَلِمَ كم أنّ أهلي صارمين فيما يتعلّق بِالشبّان. وسمعتُ صوته وأمتلأ قلبي بِالدفء لِدرجة أنّني عجزتُ عن القاء التحيّة. ومِن خلال أحاديثنا علِمتُ أنّه فقدَ أبوَيه معاً في حادث مرّوع وأنّه فقد أيضاً ميراثه كلّه بِسبب عمّه الذي أكلَ حصّته كلها في الشركة التي كان يملكها الرجل مع أخيه. وبِفضل الشريك الثالث أستطاع مروان أن يسافر إلى السويد ليكمل دراسته وبقيَ هناك ولكن بِطوق دائم إلى بلده وناسها.
وبالطبع مَرَرنا بِفترات صدام ومِن ثمّ مصالحة ككل ثنائيّ يحاول التعرّف والتأقلم مع الآخر حتى أن وصَلنا أخيراً إلى مرحلة الحب الحقيقيّ. وبدأ بُعد مروان يؤلمني لأنّني كنتُ أحلم أن يضمّني إلى صدره وأن تلتقي شفتانا بِقبلة ساحرة. ولكنّني بقيتُ على قراري بألاّ أراه لأنّ علاقتنا هكذا كانت أكثر رومانسيّة.
ولأنّ الحياة مليئة بالصدف والأحداث الغير مُنتظرة شاء القدر أن أقع وأكسر ذراعَيّ الإثنَتين. ودخلتُ المستشفى لإجراء عمليّة جراحيّة. وفي هذه الأثناء توقّفَت طبعاً رسائلي وإتصالاتي لِمروان بِسبب عدَم قدرَتي على الامساك بِهاتفي. كنتُ أعلم أنّ بال حبيبي سينشغل عليّ ولكنّني لم أتصوّر أبداً إلى أي مدى.
ففي ثالث يوم مِن وجودي في المستشفى سمعتُ قرعاً خفيفاً على باب غرفتي ورأيتُ شخصاً يحمل أمام وجهه باقة ورود عملاقة. حسبتُه موظّفاً لدى محل زهور وطلبتُ منه أن يضع الباقة على الطاولة. ولكنّه بقيَ واقفاً صامتاً لا يتحرّك. وبعد لحظات بدأ ينزل عن وجهه الباقة ورأيتُ أجمل عيون خضراء في العالم. وبدأ قلبي يدق بِسرعة خوفاً مِن أن يكون هو وخوفاً ألاّ يكون هو. وسألتُه بِصوت خافت:
ـ هذا أنتَ؟
ـ أجل... هذا أنا.
ـ جئتَ مِن السويد مِن أجلي؟
ـ أجل... بعد مرور يوم على صمتكِ علِمتُ أنّ شيئاً يمنعكِ مِن الإتصال بي... حجزتُ تذكرة وجئتُ إليكِ.
ـ ولكن كيف علِمتَ بِمكاني؟
ـ كتبتُ لِجميع أصحابكِ على الفيسبوك حتى أن أجابَتني صديقة لكِ وقالت لي أنّكِ وقعتِ وأنّكِ هنا...هل خابَ أملكِ بي؟ هل تجدينني قبيحاً؟
ـ لا! لبل أفضل مّما تصوّرت... تعالى... أجلس بِقربي.
واقتربَ بِهدوء ووضعَ قبلة على جبيني وأبتسمتُ له كالطفلة. وتحدّثنا بِراحتنا لأنّ أمّي لم تكن لِتعود قبل المساء. وطلبتُ منه أن يبقى معي حتى أنام لأنّ الدواء كان يشعرني بالنَعَس فقال لي: "أعدُكِ بأن أبقى إلى جانبكِ حتى آخر أيّامي." ونِمتُ مطمئنّة البال لأنّني كنتُ أعرف أنّ مروان مِن الذين يوفون بِوَعدهم. وعندما استيقظتُ كانت أمّي بِجانبي وعدتُ إلى المنزل لأتعافى هناك. ولم يعد مروان إلى السويد بل بقيَ في البلد. في البدء ظننتُ أنّه في أجازة ولكنّه أخبرَني أنّه استقال مِن وظيفته ليعود بِصورة دائمة وأضاف: "لن أترككِ بعد الآن... مكاني هنا في قلبكِ... هذا هو بيتي... وهذا هو موطني."
وبكيتُ مِن كثرة الفرح. وبعد أن تعافيتُ بدأنا نتكلّم بالزواج ونخطّط لِحياتنا سويّاً. وفي تلك الفترة كنتُ خائفة مِن هذا الكمّ مِن السعادة لأنّني كنتُ أعلم أنّ الرجال أمثال مروان قليلون جدّاً ومجرّد فكرة فقدان حبّه كانت لا تطاق.
وكانت مخاوفي في مكانها فبعد أقل مِن سنة على لقائنا في المستشفى بدأ حبيبي يتغيّب. وفي كل مرّة كان يعطيني حججاً غير مقنعة على الأقل لِفتاة واعية مثلي. وقرّرتُ أن أتظاهر بِتصديقه ولكنّني خشيتُ أن يكون قدّ ملّ منّي أو وجَدَ فتاة أخرى كما يحصل أحياناً. وكنتُ سأبقى صامتة لولا أنقلابه ضدّي. فكان هو الذي أتهَمني بالخيانة ولم يقتنع بِبراءتي رغم استنكاري. وبعد شجار عنيف ودهشَتي أمام هذا الكمّ مِن الغضب الموجّه ضدّي ترَكني مروان. ولم يكتفِ بذلك وحسب بل حَذَفَني مِن قائمة أصدقائه على فيسبوك وعمل حظر عليّ هناك وعلى الواتساب وعلى الهاتف.
وحين أرَدتُ مواجهته بِذهابي إلى شقتّه قال لي الناطور أنّه رحَلَ مع أمتعته إلى وجهة غير معروفة. وانهارَ العالم بأسره مِن حولي وغصتُ بوحدة مليئة بالأسئلة. ما الذي فعلتُه كي يتصرّف معي هكذا؟ حتى لو كان قد وجَدَ حبيبة غيري لا يحقّ له أن يعاملني بهذه الطريقة. كان بإمكانه شرح الوضع لي بِهدوء وكنتُ تفهّمتُ الأمر. فالذي يحبّ بِصدق لا يجبر الآخر على البقاء رغماً عنه.
وحبستُ نفسي في غرفتي وقاطعتُ الجامعة الأمر الذي شغَلَ بال أهلي كثيراً خاصة أنّه لم يبقَ لي سوى ثلاثة أشهر على حصولي على الإجازة. ومرَّت أشهر طويلة وأنا أذوب مِن الحزن والألم حتى أن جاءَني إتصالاً مِن مروان. في البدء لم أصدّق عينيّ عندما رأيتُ إسمه على شاشة هاتفي وتلبّكتُ لِدرجة أنّني لم أعد أعرف إن كان عليّ الإجابة أم لا. وبعد ثواني فتحتُ الخط وسمعتُه يقول:
ـ لا تكرهيني يا آية... أحبّكِ أكثر مِن كل شيء في العالم... أحبّكِ أكثر مِن نفسي... أحبّكِ على عدد دقّات هذا القلب الذي سيفرّق بيننا حين يتوقّف.
ـ ماذا تقصد؟
ـ أنا في المستشفى.
وركضتُ كالمجنونة لأراه. دخلتُ غرفته وبالكاد استطعتُ التعرّف إليه. كان هزيلاً وشاحب اللون يتنفّس بِصعوبة موصولاً بآلات عديدة. وانفجَرَت دموعي وارتميتُ بِأحضانه. وضَعَ يديه على شعري وقال لي:
ـ أردتُ تجنيبكِ هذا المشهد... ولكنّني لم أشأ أن أغادر وأنتِ تظنّين أنّني سافل.
ـ ما بكَ يا حبيبي؟ قل لي.
ـ لدَيّ تضخمّ في القلب... كنتُ أشعر بتوعّك مِن فترة لأخرى ولكنّني لم أدرك خطورة وضعي إلاّ مِن أشهر... الأمر جاد يا آية... سامحيني لأنّني سبّبتُ لكِ الحزن بِتصرّفي البشع معكِ.
عندها دخَلَ الطبيب ومعه أوراقاً. أعطاها لِمروان الذي وقّعَ عليها فسألتُه عن الأمر. قال لي:
ـ لقد وهبتُ أعضائي.
ـ لا تقل ذلك! ستعيش... سترى... إنّها فقط مرحلة صعبة وستمرّ على خير!
ـ آية... حبيبتي... سأموت وبِفضلي سيعيش أناس آخرون... بهذه الطريقة سأبقى حيّاً ولكن بِطريقة مختلفة.
ـ وأنا... ماذا سيحصل لي؟
ـ ستكملين حياتكِ... سأبقى معكِ وأحرسكِ... هل تظنّين أنّني سأقبل بأن يحصل لكِ مكروهاً؟ حياتي كانت قصيرة ولكنّها لن تنتهي... سأكملها في عالم آخر... لا تبكِ... أحِبّيني كما لم تفعلي مِن قبل.
وواكبتُه في أيّامه الأخيرة. حاولتُ التظاهر بأنّني أتقبّل الوضع ولكنّ الأمر كان لا يُحتمَل. وحين أغمضَ مروان عينَيه كنتُ أمسك يده وأصليّ له. ودخَلَ الأطباء بِسرعة وأخذوه ليعطوا لِغيره قطعاً مِن حبّه. وخرجتُ مِن المستشفى أمشي في الطريق كالشبح. وبدأَت تمطر وامتزجَت دموعي الساخنة بالمطر البارد. رحَلَ مروان مِن حياتي وخلّفَ وراءه فراغاً لن يملأه أحد فأمثاله قلائلاً.
وبعد عشر سنوات على وفاة حبيبي لا أزال عزباء. حاوَل الأهل والأصدقاء تعريفي إلى شبّان كثر ولكنّ قلبي لم يعد ملكي. فبَينما وهَبَ مروان جسده للناس وهبتُه أنا قلبي وحياتي. وأعلم بِقرارة نفسي أنّ يوماً سيأتي ونلتقي مجدّداً وأنّ حتى ذلك الحين سيظلّ حبيبي يحرسني.
حاورتها بولا جهشان