خدمتُ إمرأة شريرة للغاية

لا أتمنّى لأحد أن يعمل كخادم عند أيّ كان، أو على الأقل عند أناس مثل الآنسة داليا. ولولا حاجتي الماسّة للمال، لتركتُ ذلك البيت قبل أن أهان وأعيَّر باستمرار بحالتي الإجتماعيّة والماديّة. هكذا كانت "الآنسة"، تحبّ تذكير الكلّ بمكانتهم وأذلالهم قدر المُستطاع. وقد علِمتُ لاحقًا أنّ أباها كان هكذا، أي مُتعاليًا وبدون رحمة. سألتُ نفسي مرارًا عن سبب طبع داليا البشع، وحاولتُ التقاط تفاصيل مِن أحاديثها القليلة معي، فاستنتجتُ أنّ تلك المرأة كانت قاسية ومُتعجرفة وحسب، ولَم يكن لدَيها عذر لذلك، كمأساة حصلَت لها وهي صغيرة أو إساءة معيّنة. كانت داليا، بكلّ بساطة، إبنة أبيها القاسيّ.

في البدء، قضَيتُ لياليَّ بالبكاء والتحسّر على نفسي، إلا أنّ الوقت قد "قسّى عودي" كما يُقال، وصِرتُ أتجاهل التلميحات المُزعجة والتعليقات المُذلّة. والآنسة داليا، هي الأخرى، بدأت تعتاد عليّ، ولَم نعُد نتشاجر كالسابق بل سادَت بيننا شبه هُدنة كانت كافية لأن أكمل عمَلي بسلام. فبعد أكثر مِن عشر سنوات، كنّا قد أصبحنا مُقرّبَتين للغاية، ليس بالمفهوم العام، فذلك لَم يكن ليحصل مع "معلّمتي"، بل سادَ بيننا جوّ سليم يُمكنُني وصفه بالجيّد. فداليا لَم تعد تحتقرُني كثيرًا، وصار بإمكاني إبداء رأيي مِن دون أن أسمع كلمات نابية. كان لا بدّ لنا أن نصل إلى تلك الحالة، إذ لَم يكن سوانا في ذلك البيت الكبير. كانت داليا آخر فردٍ مِن عائلتها بعدما ماتَ أبواها منذ زمَن بعيد، وكذلك أخوَتها الذين تتالوا إلى دنيا الحقّ مِن دون زوج أو زوجة أو وريث. زوّار البيت كانوا قليلين جدًّا، فالجيران لَم يكونوا يُحبّون داليا بسبب لسانها السّليط ونظراتها المُتعالية. ولَم يكن يدقّ بابنا إلا الذين كانوا يأتون لنا بما توصيهم داليا مِن حاجيات يوميّة.

كنتُ قد بلغتُ الثلاثين مِن عمري حين تعرّفتُ إلى الحبّ. فحتى ذلك الحين، كنتُ أظنّ أنّ ذلك الشعور الجميل ليس موجودًا إلا في الكتب والأفلام، لأنّه بدعة إختلقَها الكتّاب والمخرجون لتسلية الناس. إلا أنّني كنتُ طبعًا على خطأ.

كيف تعرّفتُ إلى جواد؟ بالصّدفة طبعًا وفي يوم لَم يكن مِن المفروض عليّ الخروج مِن البيت. فقد كانت داليا تُبقيني محبوسة معها طوال الوقت بذريعة أنّ لا حاجة لي لمغادرة المنزل إذ كان يصلُنا كل شيء نطلبُه. إلا أنّ البقّال سئِمَ مِن معاملة داليا السيّئة له، وباتَ يرفضُ إرسال طلباتنا. لِذا اضطرَّت "معلّمتي" إلى إرسالي إلى السوبر ماركت لجلب ما نحتاجُه.

 


وهناك حصَلَ أن وقعتُ وجهًا لوجه مع جواد الذي استوقَفني بعدما أُعجِبَ بي للغاية. حتى ذلك الوقت، لَم أكن أعلَم أنّ باستطاعتي جذب أيّ رجل، فثقتي بنفسي كانت معدومة بسبب أهلي وطبعًا داليا التي لَم توفّر مناسبة لتحطيمي.

لكنّني خجلتُ مِن نفسي عندما سألَني ذلك الشاب الوسيم والأنيق والمُتكلّم عن نوعيّة عملي، فقلتُ له إنّني أعيشُ مع عمّتي وأعتني بها فحسب. لم أشأ إخباره بأنّني خادمة، لأنّني كنتُ واثقة مِن أنّ جواد سيختفي بلحظة، وأنا كنتُ أريدُ إطالة هذا اللقاء قدر المُستطاع. لَم يخطر ببالي أنّني سأنجرفُ بالكذب لفترة طويلة، بل اعتقدتُ أنّني لَن أرى جواد مُجدّدًا. لكنّ الحبّ يُقرّر عنّا ولا يطلبُ رأينا، وهكذا وجدتُ نفسي أنتظرُ مكالمات جواد اليوميّة وأخطّط لإيجاد طريقة لملاقاته. فكما ذكرتُ سابقًا، كانت داليا تضيّقُ الخناق عليّ، لأنّها أرادَتني لنفسها وليس لأيّ أحد غيرها.

إستغنَمتُ فرصة المشكلة القائمة مع البقّال للذهاب لشراء الحاجيات بنفسي... وللإلتقاء بجواد. لكنّ داليا لَم تكن غبيّة، فهي لاحظَت حماسي غير المُسبوق لجَلب الطلبات، ولَم يَخفَ عن نظرها إهتمامي بملابسي وشعري في كلّ مرّة.

وبعد شهر على هذا النحو، سألَتني داليا إن كنتُ أحسبُها مُغفّلة، فأجبتُها:

 

ـ بالطبع لا يا آنسة داليا! لِما هذا الكلام؟

 

ـ لأنّكِ تتصرّفين وكأنّني إمّا غبيّة أو خرِفة! أين تذهبين كلّ ما بعثتُكِ إلى السوبر ماركت؟

 

ـ إلى السوبر ماركت.

 

ـ كفى! أجيبي وإلا طردتُكِ يا ناكرة الجميل!

 

ـ حسنًا، لكن أرجوكِ ألا تغضبي... فالموضوع بغاية الأهميّة بالنسبة لي.

 

ورويتُ لها ظروف لقائي الأوّل بِجواد، وكِذبتي التي لَم تعُد نافعة بعدما أبدى رغبته في التعرّف إلى "عمّتي".

ضحِكَت داليا عاليًا، الأمر الذي أثارَ استيائي. إلا أنّها نظَرَت إليّ بشيء مِن العاطفة وقالت لي:

 

ـ إجلبيه... سأتظاهرُ بأنّني عمّتكِ.

 

ـ حقًا يا آنستي؟!؟

 

ـ أجل، أجل. على كلّ حال، ليس الأمر بعيدًا عن الحقيقة، فبعد كلّ تلك السنوات صِرنا وكأنّنا عائلة.

 

ركضتُ أقبّلُها، لكنّها أبعدَتني عنها صارخة بي: "لقد قلتُ "وكأنّنا عائلة" فلا تُسيئي الفهم!"

 


لَم أزعَل مِن داليا، فكنتُ مُعتادة على قساوتها معي، وكنتُ مشغولة بإقامة الترتيبات لزيارة جواد لنا. لَم يخطر ببالي أنّني كنتُ أكذبُ على حبيبي وأجرّ الآنسة داليا إلى الكذب معي، بل اعتقدتُ حتى ذلك الحين أنّ الأمور تجري بسلاسة، وأنّني سأجدُ الحلّ لمصيبتي في الوقت المُناسب. ما كان يهمُّني، هو ألا يعرف حبيبي أنّني خادمة.

وصَلَ جواد إلى البيت محمّلاً بالورود والحلوى، واستقبلَته داليا بكلّ فرَح واحترام وأدخلناه إلى الصالون حيث جلَسنا نحن الثلاثة. لكن بعد أقل مِن دقيقة صرَخَت بي داليا:

 

ـ مَن أذَنَ لكِ بالجلوس؟ قومي مِن مكانكِ وحضّري لنا القهوة! 

 

نظَرَ جواد إليها باستغراب، وامتلأت عَينايَ بالدّموع، وشعرتُ بضيق في التنفّس وكدتُ أن أقَعَ أرضًا. إلا أنّ صُراخ داليا بي أعادَني إلى وعيي:

 

ـ أعامُلكِ بلطف ورحمة، لكنّ هذا لا يعني أن تتصرّفي وكأنّكِ فرد مِن البيت!

 

عندها سألَها جواد لماذا تكلّمني بهذه الطريقة القاسية، فأجابَته:

 

ـ كيف تُريدُني أن أكلّم خادمة جلبَت إلى بيتي إنسانًا مُحترَمًا كذِبَت عليه؟ نعم يا أستاذ، فتلك الغبيّة ظنَّت أنّها قادرة على صعود سلّم المجتمع على ظهري... وظهركَ! إنّها خادمة وستبقى في الأسفل! في الأسفل!

 

ركضتُ أختبئ في غرفتي، فلَم أعد أريدُ جواد ولا داليا ولا الحياة بأسرها. بقيتُ في غرفتي مدّة يومَين، ولَم أخرج منها إلا بعدما حضّرتُ حقيبتي وتحضّرتُ لِترك منزلًا لا مكان لي فيه.

هزئت داليا منّي عندما رأتني واقفة أمامها وحقيبتي إلى جانبي، وقالت لي:

 

ـ أفرغي حقيبتكِ وعودي إلى عملكِ، فليس لدَيكِ مكان أو إنسان تذهبين إليه. مصيرُكِ أن تبقي معي وعندي وأن تفعلي ما آمركِ به، فأنتِ لي.

 

ـ أنتِ مُخطئة تمامًا! لستُ ملك أحد بل ملك نفسي فقط. لقد فاتَ زمَن الإقطاع يا... آنسة! ومَن قال لكِ إنّ لا مكان أو إنسان أذهب إليه؟ هل نسيت جواد؟

 

ـ ها ها ها! جواد نفسه الذي غادَرَ ركضًا بعدما علِمَ حقيقتكِ؟

 

ـ بل غادَرَ ركضًا مِن كثرة اشمئزازه منكِ! وهو لَم يرِد إيذاءكِ بكلام قاسٍ، ففضّل الإنسحاب.

 

وانطلق صوت بوق سيّارة، فقلتُ لداليا:

 

ـ ها هو أتى ليأخذني. سنتزوّج اليوم. كنتُ لأدعوكِ إلى فرَحي، لكنّني أريدُ أن أبقيه يومًا سعيدًا بامتياز.

 

ـ أنتِ تكذبين!

 

ـ أنظري بنفسكِ مِن النافذة وسترَين جواد بسيّارة مُزيّنة بالورود.

 

ـ إنّه يغشّكِ! سيرميكِ فور استمتاعه بكِ! لن يتزوّجكِ، فأنتِ مجرّد خادمة!

 

ـ بل أنا إنسانة جميلة وذكيّة ومُحبّة، وحصَلَ أن دفعَني القدر إلى العمل عند امرأة قبيحة مثلكِ. لستُ أقل شأنًا منكِ، والدليل على ذلك أنّني سأتزوّج، أمّا أنتِ فلا!

 

ـ كيف تتجرّئين؟!؟

 

كنتُ قد ضربتُها على الوتر الحسّاس، فهي لَم تتقبّل يومًا أمر بقائها عزباء. فمع أنّ العديد مِن الناس يختارون البقاء مِن دون رفيق، هي لَم تتزوّج بسبب كرهها للرّجال وللناس عامّة.

صعدتُ بسيّارة جواد ونظرتُ إليه بحبّ قائلة:

 

ـ ألن تندَم يومًا على الزواج مِن خادمة؟

 

ـ أنتِ "ستّ الستّات" يا حبيبتي، وستبقين هكذا في نظري حتى آخر أيّامي.

 

وبقيَ جواد على وعده لي، فهو لا يزالُ يُحبُّني ويحترمُني وأعطاني ولدَين جميلَين.

ماذا حصَلَ لداليا؟ بعد رحيلي بسنتَين، دخلَت دارًا للعجزة، لأنّ ما مِن أحد كان مُستعدًّا لتحمّلها كما تحمّلتُها. وتوفّيت بعد أقل مِن خمس سنين... ولا أظنّ أنّ أحدًا أسِفَ عليها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button