صِرتُ مهووسًا بِداليا، لا أُفكّرُ بأحَد غيرها، وفكرة زواجها القريب باتَت لا تُحتمَل لدَيّ. كنتُ سأخسرُها إلى الأبد، خاصّة أنّ العريس هو ذو مواصفات مثاليّة! ومُقارنة به، لَم تكن لدَيّ أيّ فرصة للتفوّق عليه، بعد أن تبيّنَ لي أنّني لَم أكن زوجًا جديرًا بهذا اللقَب، الأمر الذي حمَلَ زوجتي على الارتماء في أحضان أوّل رجُل أشعرَها بأنوثتها. تبًّا لي! أمّا بالنسبة لأبوّتي، فصِرتُ أعيرُ أولادي اهتمامًا أكبَر وأُساعدهم في دروسهم، وأصطحبُهم إلى أماكن جميلة لقضاء وقت مُمتِع معهم.
تقصَّيتُ أخبار "عصفوَري الحبّ" مِن أولادي بشكل لا يُثير الشكوك، وهم أطلَعوني على كلّ كبيرة وصغيرة. في تلك الأثناء، تسلَّمتُ في الشركة التي أعمَل لدَيها ملفًّا كبيرًا بوَعد مِن المُدير بالحصول على ترقية لو أنجزتُه كما يجب وفي الوقت المُناسب، وعملتُ جهدي لأترقّى وأحصل على مركز أعلى وراتب أعلى. فإذا أرَدتُ استعادة داليا، كان يجب أن أُقدِّمَ لها أكثر مِن قَبل، عالِمًا تمام العِلم أنّني لستُ قادرًا على مُنافسة طارق مادّيًّا مهما فعلَت.
ولِحسن حظّي، تمّ إرجاء زواج داليا وطارق إلى ما بعد نهاية السنة الدراسيّة للأولاد، أيّ أنّني ربحتُ بضعة أشهر، الأمر الذي أتاحَ لي الحصول على ترقيَتي والتحضير لِما كان في بالي. لَم أعرِف تمامًا ما دَخل مدرسة الأولاد بمسألة زواج أمّهم ولَم أسأل لكثرة فرحَتي، إلا أنّ ابني البكر قال لي يومًا:
ـ الماما حزينة.
ـ لماذا يا حبيبي؟
ـ لستُ أدري تمامًا، لكن أعتقِد أنّ الأمر مُتعلِّق بخطيبها.
ـ هل أنّهما يتشاجران؟
ـ لا، لا... هي تبدو سعيدة برفقة طارق، لكن حين يُغادِر أو حين تجلسُ لوحدها، تختفي البسمة عن وجهها.
ـ حسنًا يا حبيبي... أُريدُكَ أن تفتَح عَينَيكَ وأذنَيكَ جيّدًا بهذا الخصوص... إنّه سرّ بيننا، أفهِمت؟
أعترِفُ أنّني فرِحتُ لدى سماعي ذلك، فحتّى ذلك الحين، إعتقدتُ أنّ داليا تطيرُ مِن الفرَح مع حبيبها. لكنّ الأمور تغيّرَت الآن، هل هذا يعني أنّ لدَيّ فرصة للحصول على قلبها مِن جديد، أم أنّ حزنها سببه شيء آخَر لا أعرفه بعد؟ على كلّ الأحوال، صارَ لدَيّ جاسوس صغير، وكنتُ مُتأكّد مِن أنّه سيفعل جهده لمعرفة الحقيقة. ففي آخِر المطاف، كنتُ أباه وذلك الرجُل ليس سوى انسان غريب عنه.
حماس ابني لـِ "مُهمّته" كان مُعديَا، إذًا أنّنا خلنا نفسَينا حقًّا جاسوسًا وتحرّيًّا، الأمر الذي قرّبَنا مِن بعضنا، وأدركتُ أنّني كأب بامكاني أنّ أتعامَل مع أولادي بشكل وطيد ومُسلٍّ، الأمر الذي لَم أكن أعرفه حتى ذلك الحين. وشكَرتُ ربّي أنّه فتَحَ عَينَيّ على الأخطاء التي اقترَفتُها خلال زواجي، أكانت بالنسبة لداليا أو أولادي.
الأخبار بقيَت على حالها لمدّة، لِذا أخذتُ على عاتقي البحث بتعمّق في المسألة. هل أنّ سبب تغيّر داليا هو عريسها بالفعل؟ ماذا كنتُ أعرفُ عن طارق حقًّا ما عدا كَونه رجُلًا مُقتدِرًا ومُتحدِرًا مِن عائلة كبيرة؟ هل كان عليّ البحث بتعمّق في سيرته؟ وجوابي كان "بالتأكيد!".
لِذا قرّرتُ التقصّي بنفسي، فوجدتُ عنوان سكنه الخاص وصرتُ أُراقبُه بعد انتهاء دوام عمَلي، فقد صِرتُ مسؤولًا في الشركة ولا يسَعني التقصير بعمَلي كَي لا أخسرَ ما وصَلتُ إليه.
لَم أرَ أيّ شيء مُريب بتصرّفات طارق بعد أن راقبتُه لأيّام مُتتالية، فهو كان يعودُ إلى مسكنه بعد زيارته اليوميّة لداليا أو اصطحابها لمطعم ما، ولا يُبارح بيته. يا لَيتني أستطيع البقاء قرب مسكنه ومُلاحقته على مدار الساعة!
ثمّ جاءَت فرصة العيد، واغتنَمتُ الفرصة لأكرّس وقتي للقيام بمُهمّتي، بعد أن أعطَيتُ الأولاد لداليا ثلاثة أيّام تحت حجّة سفَر كان عليّ القيام به. هي قالَت لي إنّها فرِحة جدًّا بالخبَر، خاصّة أنّ عريسها مشغول مُعظم فترة العيد، لأنّ أقرباء له قادمون مِن الغربة، وأنّها ستستمتِع بأولادنا على سجيّتها وتقوم بنشاطات عديدة معهم.
هكذا إذًا... أقرباء قادمون مِن الغربة... وهل هذا يمنعُه مِن رؤية خطيبته؟ ما هذا العذر السخيف وكيف لداليا أن تُصدّقه؟ فهي خطيبته ومِن المنطقيّ أن يُعرّفها على هؤلاء الأقارب، وأن يخرجوا سويًّا ويقضوا كلّ وقتهم مع بعضهم. لا... لَم أقتنِع على الاطلاق!
لِذا، ركَنتُ سيّارتي أمام المبنى الذي يسكنه طارق بعد أن أخذتُ "زوّادتي" معي، أيّ قنانٍ مِن الماء وسندويشات وسكاكر، مُصِرًّا على البقاء في سيّارتي الوقت اللازم لمعرفة ما سيدورُ. ففي آخِر المطاف، كان ذلك الانسان سيصبح زوج أمّ أولادي، وعليّ حمايتهم منه لو اتّضَحَ أنّه غير مُناسب. وهو كان أيضًا سيصبح زوج المرأة التي أحبَبتُها وأهمَلتُها وحمَلتُها على تفضيل آخَر عليّ. يا إلهي... كيف زجَّيتُ نفسي وعائلتي في هكذا وضع؟!؟
راحَ العريس بالفعل إلى المطار واستقبَلَ قادمين مِن السفَر وعادَ بهم إلى مسكنه. زوّاره كانوا عائلة مؤلّفة مِن رجُل وسيّدة مُسنَّين بعض الشيء وامرأة حسناء وولَد صغير. هل يُعقَل أن تكون تلك المرأة زوجته والولَد هو ابنه؟ ولِما لا؟ فلقد رأيتُ كيف أنّه يُمسِك بيَد الصغير ويضحكُ ويمزَحُ مع الأم. أمّا بالنسبة للزائرَين الباقيَين، فهما بدَيا لي مُرتاحَين جدًّا للوضع. إستنتجتُ طبعًا أنّ له عائلة ثانية يُخبّئها في الخارج، وأنّ داليا تشكُّ بالأمر أو علِمَت بالأمر ولهذا السبب هي حزينة وأرجأت العرس. كنتُ مُتأكّدًا مِن أنّ طارق يُخفي شيئًا، فكما قلتُ سابقًا، ليس هناك مِن سبَب حتى لا تكون داليا برفقتهم أينما ذهبوا.
إنتهَت زيارة القادمين وقضَيتُ مُعظم الوقت يُمراقبتهم، فنمتُ في بيتي كلّ ليلة بعد أن رأيتُ الأنوار تُطفأ في تلك الشقّة في الطابق الرابع، وتأكّدتُ مِن أنّ لا أحَد سيخرجُ منها. ولِما يخرجُ العريس؟ أليست زوجته معه وتنامُ بجانبه؟
عادَ طارق يزورُ داليا كعادته بعدما انتهَت فرصة العيد وعادَت التحضيرات للزفاف. لكنّني كنتُ مُصرًّا أكثر مِن أيّ وقت لإفشال ذلك الزواج، ليس مِن أجلي فقط، بل لتجنيب داليا الحزن والأسى، وتحمّل كذِب ذلك المُحتال أو تقاسمه مع عائلة أخرى. فهي تستحقّ أفضل رجُل حتّى لو عنى ذلك أن تكون مع غيري. فداليا كانت إنسانة رائعة وهي أعطَتني كلّ ما لدَيها مِن حبّ واهتمام طوال سنوات زواجنا، وأحاطَت أولادنا بالحنان اللازِم.
لكن هل كانت داليا مُستعِدّة للاستماع إليّ وتصديقي؟ فكنتُ قد قصدتُ طارق وحاولتُ اقناعه بعدَم الزواج منها، ناهيك عن مُكالمتي مع الذي قبّلَته في السيّارة، وفقدتُ حتمًا مصداقيّتي أمامها. فداليا ستظنّ أنّني أحاوِل، مرّة أخرى، مَنعها مِن الزواج بدافع الانتقام. آه، لو هي تعرِف كَم أنّني نادِم ومُحرَج، لصدّقَتني على الفور! وبعد تفكير مليء، قرّرتُ تنبيهها مِن عريسها حتّى لو لَم تُصدّقني، فكان ذلك أفضل مِن سكوتي وتحميل ضميري. وإن اتّضَحَ أنّ الرجُل سيُسيء مُعاملة أولادي إن تمَّت الزيجة، سأُطالِب بالحضانة الحصريّة، وأقاتِل مِن أجل صغاري، فهم كلّ ما تبقّى لي مِن قصّة حبّ خلتُها مثاليّة.
وهكذا طلبتُ مِن داليا مُقابلتها تحت ذريعة أنّ هناك مشكلة مع ابني البكر، بعدما اتّفقتُ معه على أن يُجاريني بالموضوع. خافَت المسكينة فوافقَت والتقَينا في أحَد المقاهي. كان قلبي يدّق بقوّة وأنا أنتظرُها، فلَم أرَها منذ حوالي السنة. وحين هي جاءَت إلى الموعد، كان الأمر وكأنّنا عُدنا إلى فترة المواعدة، أي قَبل سنوات عديدة حين كنّا لا نزال نؤمِن بالحبّ وبالمستقبل. جلسَت داليا قُبالتي، وبعد تبادل بعض الأحاديث غير المُهمّة، دخلتُ في صلب الموضوع. هي استمعَت إليّ بصمت حتّى أن انتهَيتُ مِن إخبارها عن الذي عرفتُه عن العريس. ثمّ هي سألَتني عن سبب قيامي بالتحريّات، فقلتُ لها:
ـ أنا أحبُّكِ يا داليا... وأنا آسِف على كلّ شيء، فأنتِ لستِ خائنة بل امراة أهملتُها. لَم يكن يجدرُ بي تطليقكِ بل الاستماع مِن جانبكِ للأسباب التي أوصلَتكِ للتواعد مع رجُل آخَر وتقبيله. أؤكِّد لكِ أنّني أقولُ الحقيقة بالنسبة لطارق، وأعلَم أنّه مِن الصعب تصديقي بعد الذي فعلتُه لأمنعكِ مِن إيجاد السعادة. أتمنّى لو تعودين إليّ، لكن فقط إن أرَدتِ ذلك وإن شعَرتِ أنّ سعادتكِ معي، وإلّا سأقبَل برؤيتكِ مع رجُل آخَر لكن حذارِ مِن خطيبكِ، أرجوكِ! جِدي شخصًا آخَر لو شئتِ. هذا كلّ ما لدَيّ أن أقوله لكِ.
ـ شكرًا على صراحتكِ واعترافكَ بخطئكَ.
ثمّ خرجَت داليا مِن المقهى مِن دون أن تُضيف أيّ شيء آخَر. هل صدّقَتني؟ يا إلهي، إحمِلها على تصديقي، أرجوكَ، على الأقلّ مِن أجل أولادي!
وبعد أقلّ مِن أسبوع... فسخَت داليا خطوبتها! وكنتُ أسعَد الناس لِسماع الخبَر، لِدرجة أنّني أخذتُ الأولاد في رحلة دامَت فرصة نهاية الأسبوع بكاملها، حيث زُرنا أماكن جميلة وأكَلنا المأكولات اللذيذة وقمنا بنشاطات مُختلِفة. وقلتُ لنفسي: لماذا لا نفعل ذلك بانتظام، فلقد استمعتُ بوقتي كثيرًا معهم، وشعرتُ بنشاط كبير حين عدتُ في بداية الأسبوع إلى العمَل.
سافَرَ طارق إلى الخارج، حتمًا ليُلاقي عائلته التي أهملَها مِن أجل داليا.
وذات يوم، عرَضتُ على داليا تناول العشاء معنا في البيت، لأنّني سأطهو لها طبَقها المُفضّل بعد أن أخذتُ الوصفة مِن الانترنت وتمرَّنتُ عليها. هي تردّدَت كثيرًا ثمّ قبِلَت، وجلَسنا جميعًا حول مائدة الطعام كما كنّا نفعل في ما مضى، باستثناء أنّني قمتُ بالطهو وغسل الأواني بنفسي بعد العشاء.
عادَت داليا مرّات أخرى لتأكل معنا... إلى حين قبِلَت أخيرًا العودة بصورة دائمة! حملتُها ودرتُ بها في أرجاء البيت بينما رقصَ الأولاد فرَحًا، ثمّ بكينا كلّنا سويًّا ونمنا والبسمة على وجهنا. كَم أنّكَ كريم، يارب!
قرَّرتُ وداليا أن نُقيمَ حفلًا بمُناسبة زواجنا الثاني، ليُشاركنا الأقارب والأصدقاء فرحتنا، فحجزتُ مطعمًا جميلًا بكامله ليتّسِع للمدّعوين. وكَم تفاجأتُ برؤية طارق مع زوجته وابنه قادمين إلى الحفل. وقال لي طارق وهو يُصافحُني:
ـ كدتَ أن تخسَرَ زوجة رائعة، أفضل امرأة على الاطلاق!
ـ لَم أفهَم... ماذا... كيف...
ـ لا تغضَب يا صديقي... كان لا بدّ مِن ذلك لِتَعي ما كنتَ تفعله... أنا قريب بعيد لأمّ داليا وهذه زوجتي، وهي على عِلم بكلّ شيء. أنا مُقيم في الخارج منذ طفولتي، وصادَف تواجدي في البلَد لتأسيس شركتي الجديدة طلاق داليا، وأنا عرَضتُ عليها أن نُمثِّل دور المُتحابَّين. قليلون هم مَن يعرفوني هنا أو سمِعوا بي، وحتّى أنتَ لا تعرف أنّني موجود ولي صلة بأهل زوجتكَ، فكانت اللعبة سهلة. لَم تكن داليا موافِقة في البدء، لكنّ زوجتي أقنعَتها أخيرًا، ولقد ساعدَنا قليلًا إبنكَ البكر... هنيئًا لكما، ولا تخسَرها مِن جديد!
كنتُ سأغضب مِن طارق وداليا حقًّا لأنّهما أوقعاني في ذلك الفخ المُحكَم، إلّا أنّ زوجتي سحبَتني مِن ذراعي إلى حلَبة الرقص قائلة:
- إنّها أغنيتنا المُفضّلة، أتذكُر كم رقصنا عليها في فترة المُواعدة؟
- أجل، لكن... ما قالَه طارق الآن... كيف...
- أتحبُّني؟
- أكثر مِن أيّ شيء!
- دَعنا إذًا نفرَح ونرقص... نحن عائلة مِن جديد، وهذا ما يهمّ!
حاورته بولا جهشان