خافوا مِن البحر الهادئ

كانت سمر خارقة الجمال، وأعترف أنّني كنتُ أغار منها، ليس فقط بسبب ملامحها وقوامها بل لأنّ عماد خطيبي كان تحت تأثير جاذبيّتها. لم ألمه على ذلك، فقليلون هم الذين استطاعوا مقاومتها، ولكنّني لم أكن مستعدّة أن أخسر حبّ حياتي. وأفظع ما في الأمر أنّ سمر كانت عديمة الأخلاق، أي أنّها لم تتردّد باستعمال أساليب غير متوفّرة لدَيَّ لتقنع حتى أشدّ المتردّدين.

لِذا عملتُ جهدي لابقاء عين ساهرة على عماد الذي كان جاري وجار تلك المخلوقة، وذلك مِن دون أن أفصح عن مخاوفي حتى لا أبدو سخيفة وأزرع في عقل خطيبي رغبات قد لا تكون موجودة بعد.

ولكن سرعان ما سمِعتُ مِن البعض أنّ عماد يُواعد سمر خلف ظهري، ولكنّني لم أتمكّن مِن الحصول على إثباتات قاطعة، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما حدَّدَ خطيبي أخيرًا موعد فرحنا، ممّا كان يعني أنّه لا يزال يُحبّني، والأهمّ أنّه يُريدني ويُفضّلني على تلك الخسيسة.

تزوّجنا وانتقلنا للعيش في شقّة جميلة وبعيدة كلّ البعد عن حيّنا القديم، أي في قلب العاصمة، وأخذتُ دوري كزوجة على محمل الجدّ.

ولكن لم يمضِ على زواجنا بضعة أشهر حتى قال لي عماد:

 

ـ حبيبتي... أتذكرين سمر؟ سمر جارتنا.

 

ـ ما بها؟ ماتَت؟

 

ـ لا! ولكنها ليست بخير بعد أن شُخّصَ عندها خلل في الكليَتَين... المسكينة.

 

ـ و؟

 

ـ وعليها المجيء إلى العاصمة بانتظام للخضوع لغسيل الكليتَين.

 

ـ و؟

 

ـ وطلَبَت منّي أمّها أن نستقبلها عندنا.

 

ـ تقصد هنا؟

 

ـ أجل حبيبتي... يا للمسكينة!

 

ـ المسكينة... وماذا لو رفضتُ؟

 

ـ ولماذا ترفضين؟ أعلم أنّ قلبكِ كبير ولن تتردّدي في مساعدة المرضى.

 

ـ لا تعجبني الفكرة أبدًا... لا أحبّ سمر.

 


ـ ماذا فعَلَت لكِ؟ كانت جارتنا وهي لطيفة للغاية والكلّ يُحبّها.

 

ـ هذه هي المشكلة بحدّ ذاتها ولا أريدها في بيتي!

 

ـ في بيتنا حبيبتي... لقد وعدتُ والدتها بأن أستقبلها وتعلمين أنّني أصرّ على الوفاء بوعودي.

 

وأنهى عماد الحديث وبدأتُ أغلي مِن الغضب.

جاءَت سمر محمّلة بحقائب عديدة، ممّا دلّ على أنّها باقية عندنا لوقت طويل، وأخذتُها إلى غرفتها وأعطيتُها كلّ التفاصيل اللازمة. شكَرَتني بحرارة، ومع أنّها كانت تبتسم لي، رأيتُ الخبث في عَينَيها.

ومنذ تلك اللحظة لم أعرف راحة البال، فقد كان شغلي الشاغل مراقبة ضيفتنا وزوجي لأجد الدّلائل على خيانتهما.

بالطبع لم أعد أخرج مِن المنزل، وكنتُ أكلّم زوجي في مكتبه مرّات عديدة خلال النهار لأتأكّد مِن وجوده في عمله حين كانت سمر تذهب لتلقّي علاجها. ولكنّني لم أجد أيّ شيء مريب، وبدأتُ أشعر بالخزيّ لكوني بهذه الغيرة العمياء.

حينها صِرتُ أستلطف ضيفتنا وأجلس معها وأتحدّث إليها ووجدتُها قريبة مِن القلب وأوشكتُ على اعتبارها صديقتي.

ولكنّ أمرًا حَدَثَ أعاد لي شكوكي وبقوّة.

 

كانت سَمَر تروي لي بعض الأحداث التي جَرَت لها خلال نهارها في المشفى، وإذ بها تقول عن غير قصد:

 

ـ تأخّر سائق الأجرى وبقيتُ واقفة أمام مدخل المشفى... لو عرفتُ أنّه لن يأتي في الوقت المحدّد لبقيتُ أكثر عند خالتي.

 

ـ خالتكِ؟

 

ـ أعني... أقصد... هي مسنّة ومريضة وترقد على سرير في المشفى نفسه، فقرّرتُ أن أزورها أثناء وجودي هناك.

 

لم تعجبني روايتها مع أنها لم تكن صعبة التصديق. يجوز أن تكون خالتها في المشفى نفسه، ولكنّ ارتباكها هو الذي أكّدَ لي أنّها تكذب. لِذا قرَّرتُ أن أقصد تلك الخالة حيث هي لأعرف منها الحقيقة، مدّعية أنّني عضوة في جمعيّة تزور المرضى وأنّ ابنة أختها دلَّتني عليها.

كانت تلك السيّدة في حالة صعبة، وبالكاد استطاعَت التكلّم، ولكن عندما ذكَرتُ أمامها إسم سمر قالت لي مبتسمة:

 

ـ يا للفتاة اللطيفة... تصوّري أنّها تركَت كلّ شيء وجاءَت إلى العاصمة لتبقى إلى جانبي، فهي تزورني كلّ يومَين وتجلب لي الهدايا... وخطيبها! كم هو وسيم ومهذّب... في معظم الأحيان يأتي ليأخذها ولكنّه لا يجلس معنا لكثرة أشغاله.

بدأ قلبي يدّق بسرعة وسألتُها بصوت مرتجف:

 

ـ خطيبها، ما اسمه؟

 

ـ عماد.

 

خرَجتُ مِن الغرفة مِن دون أن أوّدع الخالة، وركَضتُ أبكي في الخارج لكثرة حزني. هكذا إذًا... كان عماد يُواعد سمر ويجد الوقت لها خلال النهار، خاصة أنّني لم أعد أتصل بمكتبه كالسّابق بعدما اطمأنّ قلبي إلى سمر.

كان أمامي حلّان: إمّا أن أواجه زوجي أو أن أجد وسيلة لإبعاد عديمة الأخلاق عنّا.

 

إختَرتُ الحلّ الثاني، لأنّني كنتُ أجهل مدى تعلّق عماد بسمر وخفتُ أن يُفضّلها عليَّ. صحيح أنّني كنتُ مستاءة منه كثيرًا وغاضبة إلى أقصى درجة، ولكنّني كنتُ لا أزال أحبّه وأريده إلى جانبي. إضافة إلى ذلك، لم أكن لأقبل أن تفوز به سمر بعد أن قضَيتُ سنوات أخاف منها علينا. كيف أنفّذ خطتي؟ باستغلال نقطة ضعف سمر وهي الرجال والأثرياء منهم، وكان عليّ إيجاد ذلك الرجل وبأسرع وقت.

معارفي لم تكن كثيرة، ولكنّني تذكّرتُ تلك المرأة التي كانت تحضّر لنا القهوة في المكتب الذي كنتُ أعمل فيه قبل زواجي. هي تركَت المكتب وفتحَت بانسيون علِمتُ أنّه كان مشبوهًا بسبب الذين كانوا يتردّدون عليه. كان لها ابن مشبوه أيضًا أتى مرّات عديدة ليأخذها مِن مكان عملها، ورأيتُه يقود إحدى السيّارات الكبيرة والفخمة واستغرَبتُ آنذاك كيف له أن يملك ثمنها.

إتصَلتُ باحدى زميلاتي السّابقات، وبعد أن تبادَلنا الأحاديث عن أحوالنا، فتحَتُ لها موضوع تلك السيّدة فأجابَتني:

 

ـ تعنين إخلاص؟ لا تزالين تذكرينها؟

 

ـ طبعًا فقد كانت لطيفة للغاية... سمعتُ أنّها صاحبة بانسيون.

 

ـ أجل... مِن مكتب محترم إلى مكان غير لائق... الحاجة تدفع الناس إلى البحث عن المال في كلّ الأماكن!

 


ـ مِن الجيّد أنّ البانسيون بعيد عن المناطق السكنيّة.

 

ـ لا! أبدًا! بل هو في الشارع الموازي للسّوبر ماركت، هو نفسه الذي كنّا نشتري منه أنا وأنتِ أثناء الاستراحة.

 

في اليوم نفسه قصَدتُ البانسيون وقلبي يخفق بقوّة، فلم أكن ممتنّة لدخول مكان كهذا ولم أكن أعلم ما كنتُ سأقوله لإخلاص.

إستقبَلَتني المرأة بذراعَين مفتوحَين وقبّلَتني قائلة:

 

ـ لم أنسَ كيف كنتِ تعطيني الإكراميّات يا آنستي!

 

ـ أصبحتُ سيّدة متزوّجة الآن وأنا بحاجة إليكِ يا إخلاص.

 

جلسنا وأخبرتُها عن مشكلتي. إستمعَت لي بصمت ثمّ سألَتني:

 

ـ ما المطلوب منّي يا صغيرتي؟

 

ـ إبنكِ... أنا متأكّدة مِن أنّه يُحبّ صنف سمر... لا تسيئي فهمي ولكن...

 

ـ أفهم قصدكِ... أعرف كيف هو ابني، وهو الذي أقنعَني بفتح هذا المكان الذي لا أفتخر به... لا عليكِ، دعي الأمر لي.

 

هل كانت إخلاص ستحلّ فعلاً مشكلتي وكيف؟ أخَذَت منّي كلّ التفاصيل اللازمة وتركتُها بعد أن شربنا القهوة.

مرّ أسبوعان تقريبًا حين دخَلَ عماد البيت مستاء جدًّا قائلاً:

 

ـ على سمر أن تعود إلى بيت أهلها.

 

ـ لماذا يا حبيبي؟ هي لم تعد بحاجة إلى العلاج؟

 

ـ صحيح... لقد تحسّنَت حالتها بصورة نهائيّة.

 

ـ غريب، ما أعرفه عن حالتها هو أنّها لا تتحسّن إلا بزرع كلية.

 

- أقول لكِ إنّها أصبحَت بخير! ما بكِ لا تفهمين؟!؟ قولي لها أن تجمع أغراضها وترحل!

 

ضحكتُ في سرّي وانتظرتُ أن تعود سمر من التسوّق لأزفّ لها الخبر.

لم تبدُ لي مستاءة بل العكس:

 

ـ كنتُ سأرحل على كلّ الأحوال... وجدتُ علاجًا أفضل بكثير!

 

كانت قد قالَت ذلك بصوت عالٍ ليسمعها عماد الذي اختبأ في غرفة النوم.

وفي الصّباح الباكر رحَلَت ضيفتنا وارتاحَ قلبي.

ذهبتُ إلى إخلاص التي رحّبَت بي ضاحكة:

 

ـ كنتِ على حق بأمرَين: سمر قليلة الأخلاق وابني يهوى هذا الصّنف.

 

قبّلتُها بحرارة، وعندما فتَحتُ حقيبة يدي لإعطائها بعض المال رفضَت المرأة بقوّة قائلة:" لا! أنتِ عزيزة على قلبي... ومساعدتكِ أقلّ ما أفعله للتي لم تنظر إليّ نظرة فوقيّة يومًا."

بقيَ عماد صعب المزاج لمدّة شهر ومِن ثمّ عادَ إلى طبيعته. صحيح أنّني انتصَرتُ على غريمتي واستعَدتُ زوجي، ولكن بعد أن مرَّت نشوة الفوز أدرَكتُ أنّني لم أعد أثق بزوجي. فلم أكن أعلم ما كان سيحصل لو لم أستعِن بإخلاص وابنها، هل كان استمرّ عماد بخيانتي، هل كان سيتزوّج مِن سمر خفيةً أو هل كان سيتركني ليكون معها؟

واختفى حبّي له فجأة ولم أعد أطيق أن يقترب منّي. حاولتُ كثيرًا أن أتغلّب على اشمئزازي منه، ولكنّني لم أقدر لأنّني كنتُ أتصوّره وهو يُفتّش عن بديلة لسمر.

شكرتُ ربّي أنّني لم أحمل مِن عماد، لأنّ ذلك ساعَدَني على طلَب الطلاق بكلّ راحة ضمير. وعندما سألَني زوجي عن السّبب، إكتفَيتُ بالقول:" إسأل سمر".

سَكَتَ ومِن ثمّ أجابَ:

 

ـ أنتِ على علم بـ...

 

ـ لا بل أكثر مِن ذلك يا عزيزي!

 

نظَرَ إليّ باندهاش، وقرأتُ في عَينَيه أنّه فهِمَ أنّ لي دخلاً بتركها له. عندها أضَفتُ مبتسمة:

 

ـ لا تستخّفّ أبدًا بالنساء يا عزيزي... خاصة الهادئات منهنّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button