لا أدري تماماً في أيّ وقت بالتحديد بدأِت غيرتي ولكنّني أعرف السبب: العوذ والحرمان. أعلم أنّ العديد مِن الناس حول العالم هم فقراء، ولكنّهم لا ينظرون إلى الآخرين وكأنّهم، وبمجرّد اقتناءهم المال أو الأشياء الجميلة، هم أعداءهم ولكن تلك كانت حالتي. فلم أستطع يوماً تحمّل رؤية أحداً سعيداً أو مرتاحاً وكنت أشعر بِغضب شديد حيالهم ورغبة في أيذائهم. وكبتُّ تلك الرغبة في داخلي لأنّه قيل لي أن ذلك لا يجوز، ولو إستطعتُ إخراجها ربما كانت رحَلت.
وكبِرتُ وأنا أراقب الجيران والعائلة والأصدقاء وحتى زملائي في المدرسة لأرى مَن منهم اشترى شيئاً جميلاً أو ترقّى أو أنتقلَ إلى منزل جديد لأصبّ عليه حقدي مِن خلال نظرات مليئة بالكره أو تمنيّات له بالفشل أو المرَض. فلم أكن أستوعب لِما أُصبنا نحن بالقلّة بينما كان الآخرون ينعمون بالثياب الجميلة والسيّارات الفخمة أو حتى الأكل اللذيذ. أمّا أهلي فلم يكونوا مثلي، لبل كنتُ أسمع أمّي تدعو للناس بالتوفيق دائماً وتتمنّى للغير خير ما يوجد. وكنتُ أعتبر هذا التصرّف ناتج عن نوع مِن غباء أو سذاجة فمَن يفرح لأنّ غيره في أفضل حال منه؟
وبعد سنين قضيتُها ببخّ سمّي حولي توصّلتُ إلى أن أخفي ببراعة مشاعري السلبيّة وراء إبتسامة بريئة مليئة بالمحبّة ولم يعد أحداً قادراً على معرفة نواياي الحقيقّية. وكنتُ قد طوّرتُ هذه القدرة بعدما قالت لي أمّي في ذاك نهار:
ـ حبيبتي... لِما أنتِ دائمة التشنّج هكذا؟
ـ أنا؟ أبداً... ما هذا السؤال؟
ـ لا أراكِ تضحكين أو تفرحين.
ـ وعلامَ أفرَح؟ على القلّة؟
ـ ها أنتِ قد دخلتِ الجامعة وتستطيعين بناء المستقبل الذي تريدينه لِنفسكِ.
ـ الجامعة... أجل... جامعة حكوميّة بينما تذهب الفتيات الأخروات إلى مؤسّسات خاصّة.
ـ ربّما لأنهنّ تستطعنَ ذلك... أمّا نحن...
ـ نحن فقراء! قوليها! فُ ـ ق ـ ر ـ ا-ء!
ـ الإنسان الفقير قد يكون غنيّ مِن الداخل.
ـ كفاكِ جملاً جميلة! المال والجاه هما كل شيء ولا أملك أيّ منهما.
ـ لو كان لديكِ أصدقاء ربما استطعتِ اجتياز هذه الفترة العصيبة ولكنّني لا أرى أحداً مِن حولكِ.
ـ كلّهم أغبياء! لستُ بحاجة إلى أحد!
ولكنّ كلام أمّي بما يخص الأصدقاء قد أثَّر بي، فقررتُ أن أشكّل مجموعة مِن الزميلات والزملاء لكي لا يعتقد أحد أنّني غريبة الأطوار. ولكيّ أكون مرتاحة معهم، إخترتُ الأفقر والأبشع والأقل ذكاء. هكذا لم أكن بِحاجة إلى كرهِهم لأنّهم بكل بساطة كانوا أدنى منّي مِن كل النواحي.
وكانت هناك فتاة أستلطفها أكثر مِن الباقين واسمها زهرة. كانت لطيفة ولكن فقيرة وقبيحة وكان وجودها بِقربي يريحني. لِذا أصبحنا نترافق دائماً ونتبادل الدروس وكنتُ شبه سعيدة معها. ولكنّ زهرة كانت على خلافي إنسانة طيبّة وصادقة وخصَلَها هذه غطّت على بشاعتها وأنسَت الناس أنّها لا تملك شيء سوى قلبها. لِذا وقعَ حامد في حبّها. وعليّ توضيح مَن كان ذلك الشاب بالتحديد: كان الوحيد الذي أعجَبَني مِن كل الشبّان لبل الناس الذين صادفتُهم بِحياتي. والسبب وراء صمتي وعدَم الإفصاح له أو لِغيره عن مشاعري نحوه هو أنّني لم أعتقد أنّه سيكون مهتمّاً بإنسانة مثلي لأنّه كان مِن عائلة معروفة فقدَت ثروتها ولكن حافظَت على جاهها.
وكان حامد وسيماً جدّاً وتحيطه فتيات كثيرات على أمل أن يختار إحدَهنّ. ولكن كان ذلك الشاب يبحث عن الخلقيّات وليس على الشكل ووقعَ إختياره على زهرة. وعندما قالَت لي صديقتي أنّه بعثَ لها مع زميل له بِرسالة يبوح لها بها عن إعجابه شعرتُ بإستنكار قويّ غير قادرة على فهم ما يحصل. هل يُعقل أن تحظى تلك القبيحة بِقلب حامد وأنا لا؟ عندها إستفاقَت نقمتي على الدنيا وأصبحَت زهرة هي المسؤولة عن تعاستي منذ لحظة ولادتي. وأقسمتُ أنّني لن أدعَها ترى ولو يوماً جميلاً طالما لم أسترجع ما اعتبرتُه حقّي أيّ قلب حامد.
ولكي أصل إلى مرَادي كان عليّ لعب دور الصديقة الحميمة التي تستمع بإمعان وتُعطي نصائح صائبة. وقلتُ لِزهرة أنّ حامد هو شاب عصريّ ومعتاد على الفتيات الجميلة والأنيقة والمنفتحة وإن كانت تريد أن يحبّها فعلاً عليها أن تتطوّر قليلاً وتقلّد الأخروات. وكنتُ أعلم أنّها لو فعَلَت ما طلبتُه منها ستخسر حبيبها ولم أتردّد لإغرقها قدر المستطاع في مأزق صعب الخروج منه. لِذا استثمرتُ كل ما كنتُ قد جنَيتُه مِن الدروس الخصوصيّة التي أعطيتُها خلال فصل الصيف في تحسين مظهرها. ولكي أتأكّد مِن النتيجة رافقتُها إلى محلات الثياب وساعدتُها على شراء فستاناً جريئاً ومِن ثمّ قلتُ لها:
ـ إسمعي... إن كنتِ تخالين أنّ حامد سيحبّكِ مِن دون أن تقدّمي له شيئاً فانتِ مخطئة.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعني أنّه ككل الرجال... عليه رؤية البضاعة قبل أن يشتريها.
ـ لستُ بضاعة!
ـ لا تتوقفي عند تفاصيل صغيرة! أعني أنّ عليكِ أن تعطيه نفسكِ لكي يتعلّق بكِ.
ـ لا أستطيع فعل ذلك!
ـ أنظري إلى نفسكِ في المرآة! لستِ جميلة بل أنتِ قبيحة! وليس لديكِ مالاً أو جاهاً.
ـ أعلم ذلك...
ـ وكيف تريدينه أن يحبّكِ إذاً؟
ـ هو يريدني كما أنا... هذا ما قالَه.
ـ وصدّقتيه؟ كلّهم يقولون ذلك في الأوّل ومِن ثمّ تبتسم لهم فتاة ويلحقون بها...
ـ وما أدراكِ أنتِ؟ لم أرَكِ يوماً مع شاب.
ـ أعرف ذلك لأنّني أقرأ كثيراً وأراقب ما يحصل مِن حولي على خلافكِ... لا تزالين غشيمة في هذا المجال... إسمعي منّي ولن تندمي... إذهبي معه إلى مكان هادئ وقبّليه ومِن ثمّ إذا أرادَ المزيد فلا تتردّدي... وأؤكّد لكِ أنّكِ ستصبحين زوجته بعد فترة قصيرة.
والمسكينة سمعَت منّي لأنّها كانت ساذجة وأنا شريّرة. وبعد لقاءَين مع زهرة في كافيتيريا الجامعة دعاها حامد إلى العشاء في مكان لطيف. وقبل أن تذهب لِلقائه تأكّدتُ جيّداً مِن أنّها ستفعل ما أملَيتُها به. ألبستُها الفستان المُغري وصفّفتُ شعرها ووضعتُ على وجهها المساحيق ومِن ثمّ أوصيتُها بأن تفعل ما يريده حامد وألاَّ تمانع أبداً لأنّه سيتركها إن قَاومته. وجعلتُها تُقسم لي أنّها ستشرب الكحول لكي ترخّي أعصابها. وبعثتُها إلى مصيرها راجية الله أن تكون بالسذاجة اللازمة. ولم أنَم طوال الليل لِكثرة فضولي وفي الصباح الباكر قصدتُ منزل زهرة للإستفهام. وجدتُها في غرفتها تبكي. حاولتُ تهدئتها ولكنّها بكيَت وقتاً طويلاً قبل أن تقول لي:
ـ لقد سمعتُ منكِ... بعد العشاء ونحن في طريقنا إلى البيت قبّلني حامد.
ـ حسناً... و؟
ـ وقبّلتُه... ومِن ثم عَرضَ عليّ أن نذهب إلى منزل جدّه المهجور.
ـ عظيم... و؟
ـ وذهبتُ معه وهناك... هناك... حصل ما حصل!
وإنهالَت الدموع على خدَّيها. ومِن ثمّ تابعَت:
ـ كنتُ قد شربتُ الكحول كما أوصَيتِني... ولم أستطع التحكم بمشاعري.
ـ هل مارستا الجنس؟
ـ أجل... ولكنّ عندما إنتهينا قال لي حامد أنّه إستمتع بالذي فعلناه ولكنّ أمله فيَّ خاب لأنّني سهلة ولن أكون يوماً أمّ أولاده... أنا سهلة؟ أنا؟ قلتِ لي أنّ عليّ إرضاءه وفعلتُ... لماذا تصرّفَ معي هكذا؟
ـ ربما لأنّه معدوم الأخلاق... ألَن يراكِ مجدّداً؟
ـ لا... لا يريد ذلك لأنّه ظنّ أنّني أختلف عن الفتيات الذي يعرفهنّ... يا إلهي ما الذي فعلتُه بِنفسي؟؟؟ لقد ارتكبتُ إثماً كبيراً... ماذا سيحصل لي الآن؟ سيخبر حامد أصدقاءه بالذي حصل وساصبح محطّ كلام وسخرية الجميع!
ـ أجل... هذا ما سيحصل على الأرجح... أتمنّى لكِ الصبر.
ـ أهذا كل ما ستقولينه لي؟
ـ أجل... أنا نصحتُكِ ولكنّني لم أجبركِ على فعل أيّ شيء... ربمّا أنتِ حقّاً سهلة.
وتركتُها تبكي وتصرخ مِن العار واليأس وترجوني أن أبقى معها ولو قليلاً. ولكنّني أجبتُها:"ليس لديَّ الوقت لأستمع لِنحابكِ". وكان ذلك صحيحاً لأنّني كنتُ قد بدأتُ أفكّر بكَيفيّة الحصول على حامد بعدما أزّحتُ تلك الغبيّة مِن طريقي.
ولكن حين وصاتُ الجامعة في اليوم التالي علِمتُ أنّ زهرة كانت قد رمَت نفسها مِن نافذة غرفتها وماتَت. وفي تلك الحظة أدركتُ أنّني قتلتُها وذرفتُ أوّل دمعة صادقة في حياتي. هربتُ إلى المنزل وحبستُ نفسي هناك حتى انتهاء السنة الدراسيّة. لم أكن أريد رؤية كل ما يذكّرني بالمسكينة زهرة. ومن ثم غيّرتُ اختصاصي الى علم النفس لأفهم ذاتي والآخرين.
وبالرغم مِن مرور أكثر مِن عشرين سنة على موت زهرة فَذكراها لا يزال يلاحقني حتى اليوم.
حاورتها بولا جهشان