وضعتُ قلبي ومالي ووقتي في البيت الذي ورثتُه عن أهلي وكانت النتيجة هائلة. فبعد سنوات مِن العمل والتصميم، صارَ المكان وكأنّه مأخوذ مِن إحدى مجلات الديكور. نعم، كنتُ فخورة بنفسي وسعيدة بالعَيش في مسكن حسدَني عليه الكثيرون. فأن تعيش إمرأة لوحدها في منزل بهذه الروعة، وأن يكون ملكها الخاصّ، كان يُثير الغيرة والحيرة إلى درجة أنّني سمعتُ أحدهم يقولُ يومًا: "هذا البيت كثيرٌ عليها". لكنّني لم آبه للأمر بل زدتُ فخرًا واعتزازًا.
لكن عندما تعرّفتُ إلى مُهنّد وأحبَبتُه واتّفقنا على الزواج، تطلَّبَ الأمر الكثير مِن العناء لإقناعه بالإنتقال للعَيش معي في بيتي. فهو كان مِن الذين لدَيهم فكرة خاطئة عن الرجولة، ويعتقدون أنّ على المرأة أن تعيش في بيت زوجها وليس العكس. لكن كيف لي أن أتركَ مكانًا وضعتُ فيه سنينًا مِن العمل الدّؤوب؟ إضافة إلى ذلك، كان مسكني قريبًا جدًّا من مقرّ عمل مُهند، ويُوفّر عليه الوقت والوقوف طويلاً في زحمة السَير.
بالطبع أحبَّ مُهنّد بيتي، لكنّه أيضًا أدركَ مدى تواضع بيته، الأمر الذي أزعجَه ضُمنًا وأشعَرَه بالنقص تجاهي. هو لَم يقلُ شيئًا بل حفَظَ لنفسه مشاعره. أمّا أنا، فكنتُ سعيدة للغاية بأن أتقاسَم معه ثمرة تعَبي.
أمضَينا أشهرًا سعيدة، لكن سرعان ما سئِمَ زوجي مِن سماع الجمل نفسها مِن زوّارنا: "ما هذا المسكن الجميل!" أو "كم أنّكَ محظوظ يا مُهنّد، فلقد تزوّجتَ مِن لؤلؤة!". لِذا صارَ زوجي ينفرُ منّي، خاصّة لدى استقبالنا لأصدقائنا، وهو أبدى انزعاجه مِن هؤلاء الزوّار وطلَبَ منّي التخفيف مِن استضافة الناس. ظننتُ أنّه يودّ الحفاظ على حميميّة زواجنا والإحتفاظ بي لوحده، فنفّذتُ رغبته بكلّ سرور.
وسرعان ما بتُّ مصدر إزعاج شامل بالنسبة لزوجي، فبدأَ يُقاطعني حين أتكلّم ويهزأ منّي وينعتني بالجاهلة أو البلهاء، الأمر الذي لَم أتحمّله بتاتًا. هل كان يُواجه مشاكل في عمله أو ضمن عائلته؟ قرّرتُ عدم مُجابهته والصبر إلى حين يعود مُهند الإنسان الهادئ والمُحبّ الذي عرفتُه.
وبعد فترة ليست طويلة، إنقلَب زوجي كليًّا وصارَ يتصرّف وكأنّه ليس هو. فبعد أن طلَبَ منّي التخفيف مِن استقبال أصدقائنا، بدأ يجلب إلى البيت أناسًا كثر لَم أرَهم في حياتي، وكانوا يجلسون لساعات طويلة عندنا ويتصرّفون بطريقة مُزعجة، أي يضحكون بصوت عالٍ ويضعون أرجلهم على الكنبات والطاولات. وحين أبدَيتُ انزعاجي مِن الذي يحصل، أجابَني زوجي: "هذا أيضًا بيتي أم أنّني مُخطئ؟ فيحقّ لي دعوة مَن أشاء إليه". سكتُّ طبعًا وصلَّيتُ أن تنتهي هذه الفترة الغريبة بسرعة.
وجلَبَ مُهنّد في أحد الأيّام هرّة إلى البيت، واستغربتُ الأمر إذ أنّه لَم يكن مِن مُحبّي الحيوانات بل العكس. لَم أمانع وجود هذه الهرّة، لكن اتّضحَ لي أنّها لَم تكن أليفة بل برّيّة، أي انّها قضَت وقتها بتمزيق الأثاث واستعمال أحواض الزّرع لقضاء حاجتها. فصارَ المكان مُتّسخًا وتعمُّ فيه رائحة كريهة للغاية. طلبتُ مِن زوجي إرجاع الهرّة إلى حيث جاءَ بها لكنّه كرَّرَ لي الجملَة نفسها: "هذا أيضًا بيتي أم أنّني مُخطئ؟". إلا أنّني لَم أقَع بفخّه مرّة أخرى وأصرَّيتُ على أن ترحَل الهرّة. عندها قرَّرَ زوجي أن ينتقل إلى التصعيد... وبصورة وحشيّة!
طيلة تلك الفترة لم أُدرك مدى انزعاج مُهنّد مِن بيتي، بل خلتُه يُحاول حقًّا التأقلم وطرد أفكاره المُسبقة مِن رأسه، خاصّة أنّه عادَ إنسانًا مُحبًّا وزالَت منه علامات العداء. كنتُ سعيدة وقرّرتُ أنّ الوقت حان لنستقبل فردًا جديدًا في عائلتنا، أي أن أحمَل. وبالطبع بدأتُ أجهّز غرفة للجنين، على الأقل في رأسي وعلى الورق حتى يتمّ حَملي وأبدأ بالعمل.
إستشَرتُ مُهند بموضوع الحَمل وهو فرِحَ للفكرة. وبعد أسابيع، إكتشفتُ بسرور أنّني أحمل في أحشائي ثمرة حبّنا. كانت حياتي كما أُريدُها أن تكون وقلتُ لنفسي آنذاك إنّه لم يعُد ينقصُني شيء.
إلا أنّني لَم أكن أعلم أنّ الذي تزوّجتُه يُعاني مِن خطب في نفسه وعقله، وأنّ هاجسه صارَ البيت. فهو لَم يكترث حقًا لمجيء طفلنا، بل كان يُركّز فقط على تدمير أعزّ ما لدَيّ ليستعيد رجولة، ظنًّا منه أنّني سلبتُها منه. وببرودة أعصاب رهيبة، كان مُهنّد قد ذهَبَ إلى محطّة الوقود وملأ عدّة غالونات خبّأها في صندوق سيّارته... بانتظار الوقت المُناسب. كيف لإنسان أن يكون بهكذا وحشيّة؟ لستُ أدري.
لَم يكن مُهنّد يُريد إيذائي بل فقط حرق البيت وتحويله إلى كومة ركام ورماد ليقف ويتفرّج عليه ويشفي غليله. لِذا أرسلَني في أحد الأيّام إلى منزل عمّته في القرية بحجّة أنّ تلك المرأة عجوز للغاية ويجب أن تراني مِن وقت لآخر، فمَن يدري متى تُفارق الحياة؟ وعدَني زوجي بأن يُوافيني في المساء ونقضي سويًّا هناك فرصة نهاية الأسبوع.
رحتُ القرية سعيدةً، فكنتُ أحبُّ عمّة زوجي، وكنتُ أريدُ تنشّق هواء نقيًّا مِن أجل الجنين الذي كان في شهره الخامس.
لكنّ مُهنّد لَم يأتِ في المساء ولَم أستوعب مدى مسؤوليّته في حرق بيتي إلا لاحقًا. فحين وصلَني خبر الكارثة التي حلَّت بمسكني ركضتُ أتّصل بزوجي ليذهب إلى المكان ويتفقّد الأضرار، إلا أنّه لَم يُجِب. وبعد أكثر مِن ساعة مِن المُحاولة، أدركتُ أنّه ربّما أُصيبَ بمكروه. فنسيتُ أمر البيت واستقلّيت سيّارة أجرة لأفتّش عن زوجي. وقبل وصولي العاصمة، جاءَني اتّصال مِن المشفى لإبلاغي عن وجود زوجي هناك... محروقًا! يا إلهي! لكن لماذا كان مُهنّد في البيت حين هبَّت ألسن النار؟ فهو يكون عادةً في عمله في تلك السّاعة. هل مرَّ بالبيت لأخذ بعض الأمتعة قبل اللحاق بي؟
وصلتُ المشفى كالمجنونة، لكنّني تفاجأتُ بوجود الشرطة حول سرير زوجي. دخلتُ صارخةً بهم بأن يتركوه وشأنه فأنا صاحبة البيت... أو ما تبقى منه. عندها قال لي أحد المُحقّقين:
ـ سيّدتي لقد وجدنا زوجكِ داخل البيت وإلى جانبه بقايا ما يُشبه غالون وقود، ولقد اعترفَ لتوّه بأنّه أحرَقَ عمدًا المكان لكنّه تعثّرَ أثناء هروبه ولحِقَت به النيران.
ـ هذا غير ممكن! زوجي يحرقُ بيتنا؟ ولماذا؟
عندها أجابَني زوجي بصوت خافت بسبب ألمه وخجله مني:
ـ لأنّني أكره ذلك المكان.
ـ تحرقُ جنى عمري وتعَبي؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ سنتكلّم بالموضوع عندما تتعافى. أيّها المحقّق، أتنازل عن حقّي بمقاضاته.
بقيتُ أزورُ زوجي في المشفى وانتظرتُ خروجه للتكلّم معه جدّيًّا. إلا أنّه كان قد استعادَ وقاحته فقال لي:
ـ أنا سعيد لأنّنا سنعود إلى بيتي، فذلك المكان كان يُحبطُني.
ـ لماذا لَم تقل شيئًا بدلاً مِن أن تدّعي أنّكَ سعيد؟ لقد دمرّتَ بيتي الجميل، البيت نفسه الذي وُلِدتُ وترعرعتُ فيه، وكدتَ أن تموت! أنتَ مجنون!
ـ هيّا إلى بيتي... هناك سنكون سعيدَين.
ـ لن أكون سعيدة معكَ بعد الآن، فأنتَ إنسان غشّاش وحقود ومُجرم. أنت لا يهمّكَ تعَبي وافتخاري بإنجازاتي، كلّ ما يهمّكَ هو رجولتكَ المزعومة. إنّ الرجل الحقيقيّ يفتخرُ بزوجته ويدفعُها إلى الأمام ولا يُدمّرُ كلّ ما تحبُّه. ستعود لوحدكَ إلى بيتكَ وأنا إلى أهلي بانتظار ترميمي لِما أحرقتَه. أشكرُ الله أنّ فوج الاطفاء وصَلَ بسرعة ولَم يُدمَّر الكثير.
ـ وطفلنا؟!؟
ـ سنتركُ القرار للمحكمة!
وبالطبع فزتُ بحضانة إبننا، لأنّ القاضي رأى أنّ وجوده مع أب لا يتردّد عن حرق بيت لمجرّد استيائه مِن العَيش فيه، أمر لا يقومُ به سوى المجانين. ولقد عوقِبَ مُهند على فعلته مِن قِبل السلطات حتى بعد أن أسقطُّ حقيّ.
وبعد بضع سنوات، تزوّجتُ مُجدّدًا وأنا أعيش اليوم بسعادة وهناء مع عائلتي الجديدة التي انضمّ إليها طفل ثانٍ. كنتُ قد رمّمتُ بيتي وعادَ تقريبًا إلى شكله السّابق. ولَم ينزعِج زوجي الثاني مِن العيش معي، بل كان سعيدًا به وبي، وأسماني "صاحبة الأنامل السحريّة والذوق الرفيع".
أمّا بالنسبة لمُهند، فهو أيضًا تزوّجَ لكنّه طلَّقَ بعد أشهر ليعود وتزوّجَ لِثالث مرّة. إنّه إنسان مُضطرب لن يعرف السعادة مع أحد، لأنّه لا يُفكّر سوى بنفسه، ولا يتردّد عن القيام بما هو غير مقبول للحصول على مُبتغاه. فلقد علِمتُ أنّه كان يُعنّفُ زوجته الثانية فقط لأنّها لَم تكن ماهرة بالطهو! وأظنّ أنّ حريق بيتي، بالرغم مِن بشاعته، قد أنقذَني مِن مُهنّد، فمَن يدري ما كان سيفعله بي لو استاءَ منّي؟
حاورتها بولا جهشان