ما نفعله باسم الحب قد يكون عظيماً أو قد يكون وخيماً يدفع ثمنه كل مَن أشتركَ حتى لو رغماً عنه في تطوّر الأحداث. وقصّتي هي قصّة امرأة أحبَّت رجلاً وأرادَت إعطاءه أسمى علامات الحب: الأولاد.
وإذا أرَدتُ الرجوع في الزمَن إلى لحظة وقوعي في حب عماد أجد أنّني وُلدتُ وأنا مربوطة به لأنّه وبكل بساطة ابن عمّي وابن خالتي في آن واحد أي أنّ أبي عندما تعرّفَ إلى أمّي أُعجِبَ أخوه بأختها وبعد أشهر أقاموا فرحاً واحداً لجميعهم. وشاءَت الظروف أن تحملَ أمّي بي وأختها بعماد في الوقت نفسه. وهكذا ولِدنا تقريباً في آن واحد وهذا القرب لم يجعل منّا شبه أخوة بل العكس. وأتذكرّ أنّ الكلّ كان يجد حبّنا لطيفاً عندما كنّا صغاراً ويضحك عندما نجلس ماسكَين بأيدي بعضنا. ومرور الوقت لم يستطع إزالة هذا الشعور بل قوّاه خاصة في سنّ المراهقة حين تنشأ عند المرء أحاسيساً حميمة ولكنّنا قررنا الانتظار حتى نكبر ونتزوّج لنعيش حبّنا كما نريد.
ولكن صفو غرامنا تعكّر عندما زارنا في أحد الأيّام صديق قديم لأبي كان يمارس الطبّ في العاصمة. فبعد أن أخبَرَته أمّي أنّني أنوي الزواج مِن أبن أختها قال لنا الضيف:
ـ لا! هذا لا يجوز! أعني مِن الناحية العلميّة طبعاً.
ـ ولما لا؟
ـ الدمّ بينهما متجانس كثيراً وسيسبّب ذلك عند أطفالهما تشويهات جسديّة وخاصة صحيّة... إنّها مسألة جينات.
ـ العديد مِن الأقارب يتزوّجون ولا يواجهون تلك المشاكل.
ـ صحيح... ولكنّ ابنتك وعماد هما وليدة تقارب مزدوج أيّ أنّ دمكِ قريب مِن دمّ أختكِ ودم أب عماد قريب مِن دم أخاه.
ـ لم أفهم... كل ما قلتَه معقّد للغاية!
ـ أعلم ذلك... ما أقوله أنّه مِن الأفضل ألاّ يتزوّجا إلاّ إذا كانا مستعدّان لعدم الإنجاب.
وكنتُ قد حضرتُ ذلك الحديث دون أن أتدخّل وكأنّه لا يعنيني لأنّني لم أكن مستعدّة للتخلّي عن حبيبي أو تصوّر حياتي مِن دون أطفالاً منه. لذا انتظرتُ أن يغادر الطبيب لأقول لأهلي:
ـ هؤلاء الأطباء يهوّلون دائماً... لن يحصل شيئاً... سترون... سأنجب أولاداً أصحّاء تفتخرون بهم.
ولكنّ أهلي كانوا قد تأثّروا بما سمعاه وحاولا منعي مِن الزواج مِن عماد وذهبا إلى أهل حبيبي لإقناعهما بالضغط على ابنهم أيضاً. ولكنّ ذلك لم يكن نافعاً بل زادَ مِن تمسّكنا ببعضنا وبمشروعنا المستقبليّ.
وبعد فترة عقدنا قِراننا وانتقَلنا إلى بيتنا الذي أردتُه بعيداً عن أهلنا خوفاً مِن التدخّلات. وعشنا حياة جميلة مليئة بالحب والغرام حتى أن علِمتُ أنّني حامل. وصحيح أنّني كنتُ جدّ سعيدة في ذلك اليوم ولكنّني تذكّرتُ ما قاله الطبيب وشعرتُ بالخوف. وبمساعدة زوجي استطعتُ تخطّي تلك المرحلة المُحبِطة واستعديتُ لاستقبال طُفلتي.
وحضّرنا لها سريراً جميلاً وألعاباً زهريّة اللون وأحاكَت لها أمّي ثياباً مِن الصوف أيّ أنّنا كنّا جميعاً نتأمّل بالخير. وولِدَت غنوة وقالوا لنا الأطبّاء أنّها تتمتّع بصحّة جيّدة وخلتُ أنّنا تغلّبنا على ما حتّمَه علينا صديق أبي.
ولكن بعد 3 أشهر على ولادتها ماتت ابنتي الصغيرة. حدَثَ ذلك أثناء نومها ولم أكن أستطيع منع ذلك. وبالطبع صرختُ وبكيتُ ونهرتُ وكذلك عماد وبحثنا عن تفسير لما حصل. وكل ما قيل لنا أنّه كان ما يسمّى بالموت المفاجئ للرضيع وأنّ ذلك يحصل أحياناً ومِن دون سبب. ولِزَمني وقتاً للتغلّب على مصيبتي وقررتُ مع زوجي بعد سنة أن نعاود المحاولة لنستطيع مواصلة حياتنا ونسيان ولو بعض الشيء حبيبة قلبنا غنوة.
وحملتُ مجدّداً ولكن في تلك المرّة لم أكن متفائلة كالأولى وحاولتُ متابعة حمية صحيّة جدّاً معتقدة أنّ ذلك سيساعدني على إنجاب طفل سليم البنية. وولِدَ سامِر وكان طبيعيّاً ولم يجد أحد أيّ خطب به. وأخذناه إلى البيت وأحطناه بكل الاهتمام اللازم وطلبتُ حتى مِن أمّي وخالتي المجيء إلى بيتنا ومساعدتي بالاعتناء بطفلي.
ولكن بالرغم مِن كل ذلك لم يتخطّى سامِر الستّة أشهر ومات مثل أخته. حينها حمّلتُ نفسي كامل الذنب لأنّني شعرتُ أنّني قتلتُ طفلَيّ وغُصتُ بشبه جنون. وأخذَني عماد إلى طبيب نفساني للمعالجة وأعطوني المهدّئات وعشتُ وكأنّني شبح لا حياة فعليّة له.
ومرَّت أكثر مِن خمس سنوات أتعالج خلالها مِن فقدان فلذَتَي كبدي وحرصتُ كل الحرص ألاّ أحمل بعد ذلك عالمة بما سيحصل إن فعلتُ.
لِذا ذهبتُ إلى طبيبي النسائيّ الذي وضَعَ لي خطّة لمتابعة منع الحمل بواسطة أقراص آخذها بانتظام. أما بالنسبة لعلاقتي بعماد فبعد نفور منه عاطفيّ وجسديّ عادَ الهدوء إلى زواجنا واستطعنا ولو بعض الشيء استعادة الحب الذي جمعَنا منذ الأوّل. وكان مِن المفترض أن تنتهي مآسينا في ذلك الوقت ولكنّ أمراً غير متوقّع حصل ليجلب علينا المزيد مِن الحزن والتعاسة وكأنّ الذي مررنا به لم يكن كافياً.
ففي ذاك يوم لاحظتُ أنّ معادي انقطع وظننتُ أنّه خلل في الهرمونات كما يحصل أحياناً ولم يخطر على بالي أبداً أن أكون حاملاً لأنّني كنتُ آخذ أقراصي يوميّاً. ولكنّ وعند ذهابي إلى الطبيب للتقصيّ عن هذا التأخير أُجريَ لي فحوصات وتبيّن أنّني فعلاً حامل. وصرختُ مِن الدهشة والخوف والاستنكار وسألتُ كيف كان ذلك ممكناً فقالوا لي أنّ لابدّ أنّني نسيتُ في أحد الأيّام أخذ القرص.
بكيتُ كثيراً لأنّني كنتُ أعلم أنّ جنيني سيموت. عندها عرَضَ عليّ الطبيب إجهاضي قائلاً:
ـ الإجهاض مسموح في حالتكِ إذ نحن متأكدّين أنّ ذلك ضروريّ... لا تتأخّري بأخذ قراركِ.
وركضتُ إلى عماد باكية وأخبرتُه بالذي يحصل لي وبعد أن سكَتَ مطوّلاً قال:
ـ يبدو وكأنّه عقاب... لم نفعل شيئاً... سوى أن نحبّ بعضنا...
ـ لو سمعنا مِن أهلنا...
ـ هل أنتِ نادمة على الزواج منّي؟
ـ لا! أبداً! ولكنّنا كنّا قد امتنعنا عن الإنجاب.
ـ امتنعنا في الفترة الأخيرة وأنظري ما حدث... ماذا ستفعلين؟
ـ لستُ أدري.
وجلستُ أيّاماً طويلة أفكرّ في الأمر واستنتجتُ أنّني لن أقدر على قتل طفلي الثالث وأنّ ذلك الجنين قد يكون لديه فرصة ليعيش خلافاً للذَين سبقوه. وقرّرتُ أن أتابع حملي وأصليّ أن يبقيه الله لي.
فترة حملي كانت تعيسة جداً لأنّني كنتُ أترقّب فعلاً أن يموت ابني وحضّرتُ نفسي وكل مَن حولي لهذا الاحتمال الشنيع. ولم أشترِ له حتى الألعاب أو الثياب. وحين جاء وقت الولادة أصرّيتُ ألاّ يكون أحد حاضراً سوى زوجي. وولِدَ زياد وأخذناه إلى البيت ومَنَعتُ أيّ كان مِن المجيء لمساعدتي لأنّني أرَدتُ تجنيبهم التعلّق به.
ولكنّ زياد لم يمت بل اكتشفنا أنّه لا يرى بسبب قرابة دمنا وأنّه لن يرى أبداً. وشعرتُ بالذنب تجاهه لأنّه لن يكون مثل الآخرين ولأنّه سيتعذّب خلال حياته. وبالرغم أنّنا لم ننوِ إنجابه فكنّا السبب بجلبه إلى الدنيا. لِذا قرّرتُ أن أخضع لعمليّة استئصال الرحم والمبيض خوفاً مِن تكرار المصيبة ما كان يجب فعله بعد موت طفلي الثاني.
وبعد أن تعافَيتُ قررتُ أن أعلّم ابني كيفيّة العيش شبه طبيعيّاً مِن دون بصر. لِذا استشرتُ أخصّائيّين واشتريتُ كتباً وتعلّمتُ الكثير عن حالة زياد. وعندما كبر قليلاً أدخلتُه إلى مدرسة مختصّة ليتأهّل للعيش دون صعوبات. وفي هذه الأثناء ساءَت علاقتي الزوجيّة إلى أقصى درجة لأنّني اعتبرتُ أنّ عماد هو السبب بالذي حصل لنا وبالرغم أنّني كنتُ أعلم مدى مسؤوليّتي لم أعد أستطيع أن أحبّه كالسابق.
هو أيضاً شعَرَ بامتعاض تجاهي وبعد أن تكلّمنا في الأمر قرّرنا ألاّ ننفصل لأنّ زياد بحاجة إلى أبوَيه الإثنَين لتخطّي صعوبات الحياة وأنّنا كنّا أنانيَّين كفاية بمجرّد إصرارنا على الإنجاب حين تزوّجنا.
اليوم بلغَ زياد عامه العاشر ويعلم قصّتنا كاملة ولكنّه وبفضل المدرسة الخاصة ومساندتنا له لا يشعر أنّه مختلف عن باقي الأولاد ولا يحمّلنا مسؤوليّة ما حصل له. لا أستطيع القول إن كنتُ نادمة على إنجابه لأنّني أحبّه أكثر مِن أيّ شيء في العالم ولكن كلّما أنظر إليه تمتلئ عيوني بالدموع لأنّني أعلم أنّ معركته مع الحياة لم تبدأ بعد.
حاورتها بولا جهشان