حبّ الطفولة

كان جهاد جارنا ولطالما كنتُ مُغرمة به، ولكنّ الحب هذا كان حبًّا ولاديًّا كما يحصل غالبًا في مرحلة الطفولة والمراهقة. كنتُ أعلم أنّ ذلك الصبيّ المُفعَم بالنشاط لم يكن يعلم حتى بوجودي فهو لم ينظر يومًا إليّ. وعلى مرّ السنين، باتَ جهاد بالنسبة لي فكرة لطيفة تحملني على الابتسامة كلّما خطَرَ ببالي، خاصّة أنّه رحَلَ إلى أوروبا ليُكمل دراسته. أمّا أنا فبقيتُ مكاني مع أهلي الأحبّاء، ودخَلتُ الجامعة لأدرس إدارة الفنادق.

إلتَمَّ حولي الشبّان لأنّني كنتُ شابّة جميلة وجذّابة، ولكنّني لم أعِر أيًّا منهم أهميّة، أوّلاً لأنّني كنتُ أريد نَيل إجازتي وثانيًا لأنّني كنتُ أقارنهم بجهاد. صحيح أنّني لم أتبادل معه ولو كلمة واحدة، ولكنّني كنتُ أبحث عند كلّ الذين ألتقيَهم عن ذلك الشعور الجميل الذي اسمه الحب.

تخرَّجتُ بامتياز، وكانت الحياة تفتح لي ذراعَيها واحتَرتُ مِن أين أبدأ. وشاءَت الصّدَف، أم القَدَر، أن أقرأ على الانترنت عن مطعم كبير يبحث عن إداريّين لفرعه في الخليج.

تشاوَرتُ مع أهلي بهذا الخصوص، ولم يُبديا أيّة ممانعة لسفري، فالجدير بالذكر أنّهما ربّياني على قيَم متينة وعزّزا ثقتي بنفسي إلى أقصى درجة. وهكذا ودَّعتُ بلدي الحبيب، وصعدتُ إلى الطائرة التي أخَذَتني إلى مستقبل تمنَّيتُ أن يكون واعدًا.

ومنذ لحظة لقائي بالقيّمين على الفندق، عرفتُ كيف أثبتُ نفسي وعزَمتُ على أن يكون إدائي هو الأفضل. وبعد ستّة أشهر، أصبحتُ مسؤولة عن بعض الموظّفين وأتقاضى أجرًا جيّدًا جدًّا.

وكم كانت دهشتي كبيرة عندما التقَيتُ بجهاد في ردهة الفندق! إحتَرتُ في أمري فهل كان يجدر بي التكلّم معه أم لا؟ فالرّجل لم يكن يعرفني وقد أبدو سخيفة أو متطفّلة. وجاءَني الجواب عن سؤالي بعد ثوانٍ، أي عندما سمعتُه يصرخ: "جمانة!".

تفاجأتُ كثيرًا لأنّني لم أكن أعلم أنّه يعرف حتى إسمي، ووقَفتُ مكاني أحدّق به كالمراهقة المتيّمة.

إقتَرَب جهاد منّي وقال:

 


ـ جمانة! ماذا تفعلين هنا؟

 

ـ أنا... أقصد أنّني... أعني... أعمل هنا.

 

ـ يا للصّدَف! أنا مار بالبلد فلدَيَّ محاضرة... كم أنّني مسرور بكِ... أخبريني، أريد أن أعلم كلّ شيء عن حياتكِ منذ تركتُ بلدنا، هيّا!

 

جلَسنا سويًّا وأخبَرتُه عن جامعتي وأصدقائي وعن ظروف سَفَري. ومِن بعدها سألتُه:

 

ـ تعرفني إلى هذه الدرجة؟

 

ـ طبعًا فنحن جيران!

 

ـ أعلم ذلك، ولكن كنتُ أظنّ أنّكَ لم تكن تدري بوجودي.

 

ـ هاهاها! ما ألطفكِ! بالطبع كنتُ أعلم بوجودكِ، ولكنّني كنتُ في سنّ يصعب به التعبير عن المشاعر.

 

ـ مشاعر؟

 

ـ سأخبركِ كلّ شيء عندما نتناول العشاء سويًّا الليلة... إتفقنا؟

 

بالطبع قبلتُ دعوته، فلم أكن أحلم حتى أن أكون جالسة مع الذي سَكَنَ قلبي طوال سنين.

وفي ذلك المساء، ذهَبنا إلى مطعم جميل وأكَلنا طعامًا لذيذًا وتحدَّثنا لساعات طويلة. هل كنتُ أسعد فتاة في العالم؟ أجل، إلى حين قال لي إنّه مسافر في الصباح ليعود إلى... زوجته.

إمتلأت عينايَ بالدموع، وعملتُ جهدي لأبتسم وكأنّ الأمر يُفرحني، ولكنّ جهاد رأى خيبة أملي فقال:

 

ـ لكثرة فرحَتي برؤيتك نسيتُ أن أقول لكِ إنّني متزوّج... تزوّجتُ مِن سنين قليلة ولكنّني لم أكن محظوظًا... المسكينة مصابة بمرض عضال وتتألم كثيرًا.

 

ـ أنا آسفة... هل تحبّها؟

 

ـ لستُ أدري... فحبّي لها تحوَّلَ إلى شفقة، وهي تعلم ذلك مع أنّني أفعل جهدي لأقنعُها بالعكس... لو تعلَمين كم أشعر بالوحدة، ورؤيتكِ اليوم بعثَت في قلبي البهجة... آه يا جمانة لو أنّني...

 

ـ لو أنّكَ ماذا؟

 

ـ سأقولها! لو أنّني أفصَحتُ لكِ عن مشاعري آنذاك لكنتِ الآن زوجتي.

 

ـ لا تقل ذلك... فزوجتكَ لم ترِد لنفسها المرض، ولو أنّها متعافية لما كنّا جالسَين هنا الآن. عُد إليها وابقَ إلى جانبها.

 

ـ أنتِ على حق... هل لي أن برقم هاتفكِ؟ أريدكِ صديقة لي.

 

وسافَرَ جهاد، وأُصِبتُ بحزن عميق بعدما علِمتُ أن كان بإمكاننا أن نكون متزوّجَين لو تجرّأَ على اظهار عواطفه لي، ولكنّني أقنعَتُ نفسي بنسيان الأمر.

وبدأنا نتراسل ونتهاتف يوميًّا تقريبًا ولكنّني لم أسمح له أن يُكلّمني بأمور عاطفيّة وذلك احترامًا لزوجته، وباتَ جهاد محطّة ضروريّة تساعدني على إكمال نهاري والنوم والبسمة على وجهي. وكان جهاد يُطلعني على حالة زوجته الصحيّة التي كانت تسوء يومًا بعد يوم إلى أن أخبَرَني أنّها على الأرجح على شفير الموت. تأثّرتُ كثيرًا لهذا الخبَر، ولم أفرَح كما يجب عندما قال لي إنّه ينوي الزواج منّي بعد رحيلها، فلم أكن معتادة على بناء سعادتي على تعاسة الآخرين، وشعَرَتُ وكأنّني آخذ مكانًا ليس لي. ولكنّ جهاد طمأنَني قائلاً:

 


ـ زوجتي قالت لي مرارًا إنّ عليّ متابعة حياتي بعد موتها وأعطَتني بركتها... إنّها إنسانة عظيمة... دعينا مِن هذا الحديث الآن... ما رأيكِ لو أسافر إليكِ ونقضي بعض الوقت سويًّا؟ لقد اشتَقتُ إليكِ كثيرًا... إحجزي لي أجمل غرفة في الفندق، سنقضي بها أجمل الأوقات!

 

ـ سنقضي؟ تقصد أنا وأنتَ في الغرفة؟

 

ـ أجل حبيبتي، وما المانع؟ ستصبحين زوجتي قريبًا ولم نعد صغارًا!

 

ـ لا... لا... سأحجز غرفة لكَ وحدكَ

 

صحيح أنّني كنتُ مشتاقة جدًّا لجهاد، ولكنّني لم أكن مستعدّة للقيام بأيّ شيء معه حتى لو كان ذلك قبل ساعة واحدة مِن الزواج، وشعَرَتُ باستياء عمِلتُ على ازاحته كي لا يُؤثّر على لقائنا.

ولكنّ مَرَض زوجة جهاد استدعى نقلها بصورة مفاجئة مرّة جديدة إلى قسم الطوارئ، ولم يعد قادرًا على المجيء، فألغَيتُ الحجز والحزن يملأ قلبي.

 

كان هناك زميل لي إسمه وليد وكان مُعجبًا بي كثيرًا، إلا أنّني بقيتُ أصدّه لأنّه لم يكن يعني لي شيئًا، الأمر الذي أغضَبَه وحمَله على الرغبة بالانتقام منّي. وليتمكنّ مِن ذلك، أخَذَ يُراقبني على أمل أن يجد أيّ شيء ضدّي.

وكان وليد قد رآني جالسة في ردهة الفندق مع جهاد، ولحقَني عندما ذهبتُ لتناول العشاء، فجاء إليَّ وقال لي:

 

ـ لقد فُضِحَ أمركِ يا ملاك! مثَّلتِ علينا دور العفيفة!

 

ـ ماذا تقصد؟ وكيف تسمح لنفسكَ أن تكلّمني بهذه الطريقة؟

 

ـ سأسمح لنفسي بما أشاء لأنّكِ بلا حشمة!

 

صفعتُه بقوّة وأسكَتُه ولكنّه تابعَ:

 

ـ إصفَعي كما تشائي فهذا لن يُغيّر شيئًا... رأيتُكِ معه وهذا يكفي!

 

ـ وما المشكلة في ذلك؟ إلتقَيتُ بجاري القديم وتناوَلتُ العشاء معه قبل أن يعود إلى البلد الذي يسكن فيه مع زوجته المريضة!

 

ـ هاهاها! هل تحسبيني مغفّلاً؟ مهلاً... أنتِ المغفلّة! صدَّقتِ قصّته؟

 

ـ ماذا تعني؟ تكلّم!

 

ـ هذا الرّجل زبون دائم عندنا، يأتي إلى هنا... مع عشيقاته وهو يعيش في هذا البلد وليس متزوّجًا ويستمتع جدًّا بعزوبيّته!

 

ـ أصمت أيّها الكاذب! يُراسلني ويتصل بي مِن خطّ أوروبّيّ! كم أنّكَ مؤذٍ!

 

ـ قد يكون خطًّاً اشتراه أثناء إحدى سفراته... أسأل نفسي كيف وظّفوكِ هنا وأنتِ بهذا الكمّ مِن الغباء!

 

ومع أنّني ادّعَيتُ عدَم تصديق كلام وليد، فقد كنتُ أعلم في قرارة نفسي أنّ أمرًا مريبًا كان يجري. لِذا خطَرَ ببالي أن أختبِرَ جهاد، فاتصلتُ به:

 

ـ حبيبي... حين تتحسّن حالة زوجتكَ ولو قليلاً أريدكَ أن تأتيَ إليّ وسنفعل كما طلبتَ منّي... سنقضي وقتنا كلّه في الغرفة.

 

ـ عظيم! كنتُ سأتصل بكِ لأقول لكِ إنّ زوجتي خَرَجَت مِن غرفة العناية الفائقة إلى غرفة عاديّة وإنّ أمّها إلى جانبها، لِذا أستطيع المجيء بأقرب وقت... لنقل غدًا، ما رأيكِ؟

 

وافَقتُ طبعًا، وبعد أن أخبَرني أنّه حجَزَ تذكرة الطائرة ويُحضّر حقيبته قلتُ له:

 

ـ على أي طيران أنت آتٍ؟

 

ـ لماذا تسألين حبيبتي؟

 

ـ أريد أن ألاقيكَ عند وصولكَ إلى المطار... لطالما أرَدتُ فعل ذلك، فالأمر بغاية الرومانسيّة!

 

ـ لا داعٍ لذلك... إنتظريني في الفندق.

 

ـ لا... لا... قل لي ما هو رقم رحلتكَ، يا... حبيبي

 

ولأنّه شعَرَ بأنّ كذبته ستُفضَح بين لحظة وأخرى، بدأ يصرخ بي ويتّهمني بأنّني لا أثق به وأنّني أبعده عنّي... ولكنّني بقيتُ مصرّة. عندها أقفَلَ جهاد الخط بوجهي ولم يأتِ ولم أسمع منه بعد ذلك. تبخَّرَ الرجل، أي اختفى كما ظهَرَ.

لم أبكِ لأنّني اشمأزَّيتُ منه كثيرًا، فقد كان يُريد استغلالي وقضاء بضع ليالٍ معي ثمّ رميي تحت ذريعة ما. إخترَعَ قصّة الزوجة المريضة ليستدرّ شفقتي ويحملني على مواساته، ومِن ثمّ لوَّحَ لي بالزواج بعد أن تموت زوجته الوهميّة كي استسلم له. لكنّ تربيَتي الحسنة وكره زميلي لي ساعداني لتجنّب الوقوع في فخّ ذلك النّتِن.

وبعد أن فهمتُ حقيقة جهاد البشعة، تأكّدتُ مِن أنّه لم يكن يُحبّني عندما كنّا صغارًا بل أنّه بالكاد كان يعرفني، وعندما رآني بالفندق اغتنَمَ الفرصة للاستفادة منّي.

هل أثَّرَت تلك الحادثة على باقي حياتي؟ نعم ولكن بطريقة إيجابيّة، فلقد تحرَّرتُ مِن جهاد وذكرياتي عنه واستطَعتُ أن أحبّ أخيرًا. كيف لم أخَف مِن أن يستغلّني رجل آخر؟ لأنّ أمثال جهاد قلائل، ومَن يتغلّب على هكذا شخص لن يقوى عليه أحد بعد ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button