حاول أهلي إستغلالي حتى آخر لحظة

لطالما إستغلّني أهلي، فمنذ صغيري وأنا التي تقوم بالأعمال المنزليّة بدلاً من أمّي وأخواتي وهذا فور وصولي من المدرسة. فعندما كان يأتي المساء، كنتُ أجد نفسي متعبة، لدرجة أنني كنتُ أغفو فوق كتبي وأقلامي. والوحيد الذي كان يشفق عليّ بعض الشيء، كان أبي ولكنّه لم يقدر على مزاعلة أمّي التي كانت هي رأس العائلة.

وكبِرتُ هكذا وكأنني "سندريلا" بطلة الرواية المشهورة، مع الفرق أنني كنتُ إبنتهم الحقيقيّة. ومع الوقت، تعودتُ على الوضع، حتى أنني وجدتُه طبيعيّاً، وكل مرّة كانت إحدى صديقاتي تلقي ملاحظة حول الموضوع، كنتُ أجيبُها: "يعطوني كل هذه الأشغال لأنني أُجيد إتمامها أفضل منهم جميعاً ولأنني الأنشط والأسرع."

ومع بلوغي سنّ الرشد، أرادَت والدتي تزويجي إلى رجل قبيح وكبير في السّن ولكنّها لم تستطع بسبب رفضي القاطع ووقوف أبي إلى جانبي، فعدلَت عن قرارها وصبَّت غضبها عليّ أكثر مما مضى وحوّلَت حياتي إلى جحيم حقيقي. فلم أعد أخرج من البيت ومُنعتُ من إستقبال أصدقائي وفُرِضَ عليّ أشغال كثيرة أنهكتني.

وعندما أصبحتُ في الثامنة عشر من عمري، قررتُ أخيراً أن أضع حدّاً لهذه الممارسات وهربتُ مع إبن الجيران الذي كان من سنّي. كنتُ قد قلتُ لنفسي أنّ حياتي لا يمكن أن تكون أسوأ مما هي عليه، خاصة أنني كنتُ مغرمة به سرّاً منذ سنين عدّة. فعندما باح لي جاد بحبّه من على الشرفة، أجبتُه أنني أشاطره عواطفه وبدأنا نتقابل من دون أن يعلم أحد. وهكذا تركنا بيوتنا في ذات مساء وذهبنا لنتزوّج. قضينا الليلة في فندق صغير ومن ثم إنتقلنا للعيش في منزل جدّته الذي تركته له عند مماتها.

لا أدري ماذا فعلَ أهلي عندما لم أعد إلى البيت ولكنّهم لم يقلبوا الدنيا عليّ. أظنّ أنّهم أحسّوا بإرتياح كبير لغيابي.

في هذه الأثناء، تابعَ جاد مزاولة عمله عند حلاّق مشهور ووجدَ لي وظيفة معه، تقتصر على غسل شعر الزبائن وتمشيطه. أحبّوني هناك وأنا إندمجتُ بعالم الجمال وروائح الصبغات وأصوات المجفّفات. وفوق كل شيء، كنتُ أقضي نهاري مع رجل حياتي، بعيدة عن ذووي، حتى أنني بدأتُ أنسى وجودهم. والذي ساعدني على ذلك هو إحتضان أهل زوجي لي، فكانوا يعلمون بأيّة ظروف كنتُ أعيش وكانوا دائماً يشفقون عليّ. وبما أنني أصبحتُ كنّتهم، أحبّوا أن يعوّضوا لي بحنانهم وإنتباههم.

وكان أبويّ قد علِما طبعاً أين أنا ولكنّهما لم يتّصلا بي تحت ذريعة أنني خالفتُ إرادتهما عندما تزوّجتُ. ولكن بعد مرور أكثر من خمس سنوات، قرّر أبي أن يهاتفني. لماذا هذا التغيّر؟ بكل بساطة لأنّ جاد كان قد فتحَ صالونه الخاص بعدما باتَ بدوره مشهوراً وبدأنا نجني المال الوفير وبعد أن إستضفنا برنامجاً على الشاشة الصغيرة وبتنا على لسان الجميع. وعندما رأيتُ رقم والدي على الهاتف، كدتُ ألا أجيب ولكن عاطفتي غلبَت على نقمتي عليهم جميعاً. قال لي أنّه مشتاق جداً إلى "أميرته الصغيرة" وأنّ أمّي لا تنام الليالي منذ ما غادرتُ المنزل. لم أصدّقه طبعاً وجوابي كان قصيراً: "ماذا تريد؟". تفاجأ بردّي: "آه... تعلمين أنّ الأيّام صعبة على الجميع... ليس عليكِ فرأينا أنّ أحوالكِ جيّدة ولكن نحن... أقصد أنا بالكاد أستطيع الذهاب إلى العمل وتعلمين كم هي مصاريف أخواتكِ... أحياناً لا نجد ثمن الطعام..."

- كم؟

- مبلغ صغير...

وأعطيته المال الذي طلبه ولم أتلقّى أي شكر من والدتي أو أخواتي. وبدأ والدي يتّصل بي كل شهر، ليطلب ما صار أشبه بمعاش وأنا ألبّي النداء. لم أقل شيء لجاد، لأني كنتُ أعلم ما سيقوله لي ولأنّه كان يظنّ أنني تخلّصتُ من تأثير أهلي عليّ. أنا أيضاً خلتُ هذا ولكن إتضحَ لي أنّ مخالبهم كانت مغروزة بعمق بي. وبما أنني كنتُ أستعمل مالي الخاص لتغطية مصاريف أهلي، لاحظ زوجي أنني لم أعد أشتري لنفسي الثياب والمساحيق وكل ما كنتُ معتادة أن أبتاعه ولكنّه لم يقل شيئاً، بل بدأ يراقبني لمعرفة السبب. ورآني بصحبة والدي وأنا أعطيه رزمة مال. وبعد بضعة أيّام، جلس بقربي ومسكَ يدي وقال لي:

- أعلم بالذي يحدث... أعني أنّكِ تصرفين كل ما تجنيه على أهلكِ... لا تنكري، فقد رأيتكِ تفعلين هذا... ومن ثمّ أجريتُ بعض التحريّات حول أوضاعهم وهذا قبل أن أتكلّم معكِ بالموضوع لكي لا أظلمَ أحد... وما علمتُه لن يعجبكِ...

- أنتَ تخيفني... تكلّم!

- المال الذي تحرمين نفسكِ منه، إستعملوه لشراء سيّارة جديدة ولتمويل سفرة سياحيّة، ذهبَت إليها أمّكِ وأخوتكِ، فلقد أمضوا أسبوعين في أوروبا وتسوّقوا هناك، بينما أنتِ لم تعودي قادرة على شراء حذاء لنفسكِ.

- قال لي أبي أنّهم في ضيقة ماليّة... هل أنت متأكدّ؟

- أجل فإضافة إلى ما قاله لي الناس والجيران، رأيتُ صور السفرة على صفحة الفايسبوك الخاصة بإحدى أخواتكِ. حبيبتي... يجب أن تضعي حدّ نهائي لإستغلالهم لكِ.

بكيتُ لأنني لم أفهم يوماً لماذا إختاروني أنا لكي أكون ضحيتهم ولماذا كل هذا البغض تجاهي. ماذا فعلتُ لهم؟ وإنتظرتُ حتى يأتي أبي في موعده الشهري لكي أفصحَ له عن كل ما في قلبي:

-كيف تستطيع الكذب بهذه السهولة وعلى إبنتكَ؟!؟ كيف يمكنكَ أخذ مال أجنيه من عرق جبيني وصرفه على الملذّات؟ أي نوع من الرجال أنتَ؟؟؟ و لا تقل لي أنّ أمّي هي التي تجبركَ على فعل هذا فلن أصدّقكَ... لا بدّ أنّكَ فاسد مثلها، لكي تقوم بإستغلال ونهب إبنتكَ. أنتم أناس مريضين ولا أريدكم في حياتي! لا تتصل بي مجدداً، حتى لو كنتَ على شفير الموت. من الآن وصاعداً أعتبرُ نفسي يتيمة الأبويَن وإبنة وحيدة.

وأقفَلتُ الخط بوجهه ولم أسمع صوته مجدداً ومن بعدها تابعتُ حياة طبيعيّة مع زوجي.

وبعد بضعة سنوات، علمتُ أنّ والدتي توفَّيت ولكنني لم أشعر بأي أسف أو حزن ولم أذهب حتى إلى جنازتها، فبالنسبة لي لم تكن يوماً أمّاً لي، بل وحش حاول على مدى سنين إلتهامي قدر المستطاع.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button