حاسّتي السادسة

في البدء لَم أتمكّن مِن تحديد ما يدورُ في بال مهند جارنا. صحيح أنّني لاحظتُ اهتمامه بنا، لكنّني ردَدتُ الأمر إلى كونه يعيشُ لوحده ويحتاجُ إلى رفقة بعد انتقاله إلى المبنى. أحبَّه زوجي وصارَ يدعوه لزيارتنا وقضاء بعض الوقت معنا في الأمسيات. كان ذلك الرجل إنسانًا مُثقّفًا ولائقًا ولَم يدخل بيتنا ولو مرّة فارغ اليدَين. إلا أنّ شيئًا ما أزعجَني به مِن دون أن أعرفَ ماهيّته، فكتمتُ الموضوع عن زوجي الذي كان دائمًا يُوبّخُني بسبب ما أسماه "خيالي المُفرَط". وهو لَم يكن على خطأ كلّيًّا، فلطالما سكنَني خوفٌ دفين مِن الناس ونواياهم، ربّما لأنّني تربَّيتُ على يَد أمّ ترى الشرّ في كلّ مكان. لِذا قرَّرتُ مُراقبة جارنا لمعرفة ما السبب الحقيقيّ وراء مصاحبته لنا، أو ماذا يخطّطُ لنا.

كيف أصفُ لكم مهند؟ كان في العقد الرابع مِن عمره ومتوسّط البنية. لا شيء فيه جدير بالذكر، إلا يداه. أجل، كنتُ مأخوذة بهاتَين اليدَين الناعمتَين والمكسوّتَين بشعَيرات سوداء، وكأنّهما مزيج مِن يدَي امرأة ورجل في آن واحد. كانت هناك أيضًا نظراته الخاطفة مِن خلف نظّارته. لَم يكن يُحدّقُ بشيء أو بشخص ما، بل بكلّ ما يدورُ مِن حوله، وكأنّه حيوان صغير وسط غابة مليئة بكائنات مُفترِسة، ويخشى أن تهجم عليه إحداها في أيّ لحظة. عدا ذلك، كان مهند يتصرّف كأيّ رجل آخر.

في تلك الفترة، كنتُ مُنهمكة بعمَلي الذي تطلَّبَ منّي التركيز العميق، فكنتُ في مفصل مِن حياتي المهنيّة أصفُه بالمصيريّ. لحسن حظّي أنّ وظيفة زوجي كانت تمكنُّه مِن العودة إلى البيت باكرًا ليهتمّ بابنتنا البالغة مِن العمر ثماني سنوات، وإلا إضطرِرتُ للتقصير بواجباتي. للحقيقة، لَم يتذمّر زوجي مِن تفانيّ في عمَلي، فكنتُ، ومنذ البدء، التي تُدخِل إلى البيت المال الوفير. ومِن دون ذلك المدخول، لكانت نوعيّة حياتنا مُختلفة تمامًا.

لَم يكن مهند مِن مُحبّي المقاهي والمطاعم، ففضّلَ الجلوس مع زوجي عندنا في البيت، وكان هذا الأخير يُحبّ رفقته بانتظار عودتي مِن عمَلي. وعندما أصِلُ البيت، كنتُ أجِد الرجلَين جالسَين في صالوننا، وابنتنا تدرسُ وتحلُّ فروضها على طاولة الطعام بالقرب منهما. ما كان شعوري حيال ذلك المشهد؟ مِن جهّة كان الرجل يُسلّي زوجي، ومِن جهّة أخرى وجدتُه مُتطفّلاً وتمنّيتُ لو يجد لنفسه أصدقاء آخرين.

ومع الوقت، لَم أعُد أطيقُ رؤية مهند، فهو صارَ بمثابة هاجس بالنسبة لي. بانَ ذلك مِن طريقة تكلّمي معه، إذ صِرتُ فظّة وعدائيّة تجاهه. وذات يوم، قال لي زوجي عندما رحَلَ "ضيفنا" :

 

ـ ما الأمر؟ ما بكِ تُقلّلين مِن احترام مهند؟

 

ـ لَم أقُل له شيئًا!

 

ـ ليس بالكلمات بل باللهجة والنبرة. ماذا فعَلَ لكِ هذا الرجل؟

 


ـ للحقيقة لستُ مُرتاحة له... شيء ما فيه يُثيرُ رَيبتي.

 

ـ إنّه رجل عاديّ. لا تبدئي بالتخيّل أرجوكِ!

 

ـ سمِّها حاسّتي السادسة... إنّه يُخفي شيئًا أو يُخطّط لشيء، صدّقني.

 

ـ المسكين هو وحيد ويريدُ رفيقًا. وهل هذا جرم؟!؟ إنّه مُهذّب ومُثقّف ولائق. لقد طفَحَ كَيلي مِن هواجسكِ!

 

لَم يهمّني كلام زوجي على الإطلاق، لكنّ مهند كان قد قرَّرَ مواجهتي لمعرفة ما الذي لا أحبُّه فيه. فهو قرَعَ باب بيتنا يومًا كان زوجي فيه غائبًا. لكنّه كان قد أتى لرؤيتي فأجلستُه وسألتُه عمّا يُريدُ فأجابَ:

 

ـ أعلَم تمام العلم أنّكِ لا تحبّيني على الإطلاق، وأنا مُستعدّ للتوقّف عن المجيء إن كان ذلك يُريحُكِ.

 

ـ أنتَ على حقّ... فلِسبب أجهلُه، لا أرتاحُ لوجودكَ عندنا. إلا أنّ زوجي يُحبّ رفقتكَ يا مهند، فلا مانع لي بأن تواصل صداقتكَ معه. فقط لا تطلب منّي أن أُرحّبَ بكَ وأُجلسَ معكَ.

 

تفاجأتُ بنفسي أقول هذه الكلمات، فهي كانت عبارات صريحة للغاية. لكنّني عدتُ ووجدتُ أنّ قولها أراحَني.

بعد تلك الجلسة، لَم يعُد لدَيّ مانع لوجود مهند عندنا، إلا أنّني بقيتُ على حذري منه.

وفي إحدى الأمسيات، وحين عدتُ إلى المنزل بعد يوم مُرهِق مِن العمَل، وجدتُ زوجي لوحده. سألتُه عن مكان ابنتنا فأجابَني بكلّ بساطة:

 

ـ إنّها مع مهند، لقد أخذها إلى دار السينما للترفيه عنها، فالمسكينة تملُّ لوحدها... قلتُ لكِ مرارًا إنّ علينا إنجاب أخت أو أخ لها...

 

ـ ماذا؟!؟ تركتَها ترحل مع رجل ناضج؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟!؟

 

ـ إهدئي، مهند إنسان...

 

ـ إذهب الآن إلى دار السينما لاسترجاع ابنتنا وإلا فعلتُ ذلك بنفسي، وتعلَم أنّني سأصرخُ على الرجل وأشتمُه!

 

ـ إنّكِ حقًّا مجنونة! لَم أعُد أتحمّل جنونكِ هذا! لن أذهب إلى أيّ مكان وكذلكَ أنتِ!

 

وفي تلك اللحظة سمعنا جرَس الباب، وركضتُ أفتحُ لمهند ولابنتي التي أخذتُها مِن يدها إلى غرفتها لأسألَها مئة سؤال عن الذي قد فعلَه مهند لها. هي لَم تفهَم قصدي وبانَت على ما يُرام، فحمَلتُها على وعدي بعدَم الذهاب مع أيّ أحد إلى أيّ مكان وإخباري بكلّ الذي يحصل لها مهما كان التكلّم عنه صعبًا. عدتُ إلى الصالون وطلبتُ مِن مهند، بصوت أردتُه ناعمًا، الإبتعاد عن ابنتي. نظَرَ إليّ زوجي بغضب شديد وانتظرَ حتى رحَلَ ضيفنا، ليبدأ بالصراخ عليّ وتهديدي بتركي إن استمرَّيتُ بالتصرّف بعدائيّة وجنون. لَم يهمّني أبدًا كلامه، فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّ مكروهًا سيحصلُ بسبب مهند هذا.

 

نامَ زوجي في تلك الليلة على الأريكة ليثبتَ لي أنّه لا يمزَح بل أنّه جدّيّ للغاية، وأنا نمتُ كالملكة في السرير الكبير. في الصباح، هدأ مزاج زوجي وقال لي بنعومة:

 

ـ حبيبتي، لِما لا تثقين بقدرتي على الحكم على الناس والأشياء؟ ألأنّكِ تتقاضين أجرًا أكبر في العمَل؟

 

ـ ما هذه الترّهات؟!؟

 

ـ أنا رجل مُتّزِن وعاقل ولي خبرة بالناس والحياة. وأقولُ لكِ إنّكِ مُخطئة بشأن مهند.

 


ـ ما بكَ تُدافع هكذا عن مُهند؟!؟

 

ـ أنا لا أُدافعُ عنه بالتحديد، بل أرفضُ أن تصير حياتنا رهن تصوّراتكِ. اليوم تكرهين مهند وقد تكرهين باقي الناس في الغد، مَن يدري؟

 

ـ ماذا تُريد؟

 

ـ أُريدُكِ أن تثقي بي مِن دون نقاش.

 

ـ حسنًا... لكن لفترة قصيرة وسنرى لاحقًا.

 

وليختبرَني زوجي قبل أن يأخذ أيّ قرار بشأن مصير زواجنا، إذ بدأَ ينزعجُ بشكل كبير مِن موقفي العدائيّ مِن مهند، أجبرَني على القبول بما كنتُ أرتعبُ منه: أنّ يأخذ مهند ابنتنا إلى المُتنزّه. كيف يجرؤ على تعذيبي هكذا؟!؟ ولماذا عليّ القبول بأن يأخذ رجل غريب إبنتي إلى أيّ مكان؟

لَم أنَم طوال الليل وأنا أُقنِعُ نفسي بأنّ مهند رجل هادئ وخلوق، وأنّه صارَ بمثابة قريب لنا بعد أن بتنا نعرفُه جيّدًا. وقبل بزوغ الضوء، قصدتُ غرفة صغيرتي وأيقظتُها هامسة لها:

 

ـ خذي هذا الهاتف الجوّال واخفيه معكِ عند ذهابكِ المُتنزّة. يُمكنُكِ الاتّصال بي في أيّة لحظة إن شعرتِ بأيّ أمر مُزعِج، مهما كان! أتسمعيني؟ مهما كان! إتبعي حدسكِ فهو يعرفُ كيف يُنبّهُكِ. 

 

ذهبَت إبنتي مع مهند آخذة معها قطعة منّي. يا إلهي... هل أنا أتصوّر الأمور وأبني عليها الأحكام، أم أنّ حدسي كأمّ هو صحيح وفي محلّه؟

لَم أوجّه الكلام لزوجي وهو فعَلَ كذلك، وجلَسنا سويًّا بانتظار عودة مهند وابنتنا. السكوت كان قاتلاً واستطعتُ سماع دقّات قلبي المهموم ودقّات ساعة الحائط التي كانت تسير ببطء رهيب. ما لَم أُفصِح عنه لزوجي هو أنّ ابنتي كانت قد نسيَت أخذ الهاتف المحمول الذي بقيَ تحت وسادتها، والذي اكتشفتُه مذعورة حين رتّبتُ غرفتها قبل وقت قصير.

رنَّ جرس الباب أخيرًا وركضتُ كالمجنونة. كان مهند واقفًا أمامي مُمسكًا بيَد صغيرتي، فتنفّستُ الصعداء وقلتُ لنفسي إنّ زوجي على حقّ.

لكن بعد ثوان قصيرة، تفاجأتُ بابنتي تركلُ مهند بقوّة هائلة وتصرخُ عاليًا: "ماما! بابا! حاولَ العمّ مهند مدّ يدَه تحت فستاني!".

وقَفَ زوجي بلحظة وصارَ عند الباب مُحاولاً فهم ما حصَلَ. وإذ بي أصفَعُ مهند بكامل قوايَ، وأنتشِلُ ابنتي مِن جانبه صارخةً لزوجي: "أرأيتَ!؟! هل تُصدّقني الآن؟!؟"

نظَرَ إليّ زوجي وأعترفُ أنّني خفتُ، ليس منه، بل على الذي علِمتُ أنّه سيفعله بمهند. وكنتُ على حقّ، إذ أنّه بدأ يضربُ ذلك الشاذ بكلّ قواه وخفتُ أن يقتله ويدخل السجن بسببه. أسرعتُ بطلَب الشرطة وعمِلتُ جهدي للفصل بين الرجلَين.

أُخِذَ مهند إلى التحقيق حيث اعترَفَ بميوله للفتيات الصغيرات، وأنّ هدفه الأوّل والأخير كان النَيل مِن ابنتي. وبعد التحرّيّات، تبّينَ أنّها لَم تكن المرّة الأولى التي حامَت الشبهات حوله. إلا أنّه بقيَ يُفلتُ مِن العقاب بسبب خوف الناس مِن التكلّم. كان يجب أن يكون مهند وراء القضبان منذ محاولته الأولى، فماذا لو أذى بالفعل ابنتي؟

منذ تلك الحادثة، صارَ لزوجي ثقة عمياء بي وحكمي على الناس. إعتذَرَ منّي بحرارة، واعترفَ أنّه كان ينوي تركي في أحد الأيّام لأنّه ظنّني مجنونة. لَم تُصَب ابنتنا بأيّ أذى جسديّ أو نفسيّ، والحمد لله.

لماذا يرفضُ البعض رؤية ما هو ظاهر؟ فلماذا رجل ناضج يُبدي اهتمامًا بولَد أو فتاة صغيرة؟ إنتبهوا أيّها الأهل، فبراءة الصغار لا تقوى على شرّ هؤلاء الشاذّين ومرَضهم، وقد تقَع مُصيبةٌ لا عودة عنها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button