جنون أمّي وحنان إمرأة غريبة

نقرأ دائماً في القصص، عن زوجة الأب الشرّيرة ولكن نادراً ما نسمع عن الأم التي تسيء معاملة أولادها وكأنّه أمر لا يريد أن يستوعبه عقلنا. ما حصل لي، يثبت أنّ الإنسان يُقاس بطيبة قلبه وليس بلقبه. أظنّ أنّ أمّي كانت مضطربة عقليّاً قبل أن يتزوّجها أبي، لأنّه مِن المعلوم أنّ المشاكل النفسيّة، تمدّ جذورها من الطفولة. ولكنّ والدي في البدء لم يلاحظ شيئاً، ربّما لأنّها لم تكن قد جنّت كليّاً.
بعد أن تزوّجا، سكنا منزلاً بسيطاً ولكن جميلاً وقررا بناء أسرة. وهكذا ولدتُ وفرحا جداً بي. أظنّ أنّ تلك الفترة، هي الوحيدة الجميلة في طفولتي. فبعد ولادتي بقليل، تمّ نقل أبي إلى فرع آخر مِن عمله وبات يذهب إلى شمال البلاد في أوّل الأسبوع ولا يعود إلّا في آخره. وبدأت أمّي تشعر بالوحدة والحيرة، فلم تكن تعلم كيف تتعامل مع مولودة جديدة. حاولَت طلب مساعدة أهلها ولكنّهم كانوا يعيشون بعيداً وكانوا جميعاً مأخوذين بأشغالهم. وبدأ كل شيء يزعجها من بكائي حتى إعطائي الطعام وصرتُ أشكّل لها مشكلة كبيرة.
لم يلاحظ أبي شيئاً لكثرة غياباته، فعندما كان يعود إلى البيت، كانت والدتي لطيفة معه ومعي. وحين كبرتُ وبدأتُ أمشي، وضعَتني أمّي في قفص للأطفال لمنعي من التنقّل، خوفاً من أن أكسر شيئاً. وهكذا بقيتُ محجوزة طوال الوقت وبما أنّها لم تكن تكلّمني كثيراً، لم أتعلّم إلّا كلمات معدودة وخاف أبي أن يكون لديّ مشكلة في النطق. ثمّ ساءت الأحوال بين والديّ، فكانت والدتي قد بدأت تنزعج من عمل أبي وتنتظره حتى يأتي لتوبّخه. كان المسكين يفعل ما بوسعه لجني المال لنا وهي لم ترى الأمر سوى من زاويتها. وعدَها بأنّ عودته النهائيّة باتت قريبة ولكنّها لم تقتنع منه وزاد صراخها ومضايقتها له، حتى أن أصبح يأتي مرّة أو إثنين في الشهر تجنبّاً للمشاكل. وأحسّت أمّي بالظلم ولم يكن لديها سوى إبنتها لتصبّ عليها غضبها، فبدأت تضربني كلّما فتحتُ فمي. فتعلّمتُ أن أسكت لكي أتفادى القصاص. لم يلاحظ أحد شيء، فعندما كانت تأتي الجارة لتزورنا، كانت أمّي تضعني في حضنها وتداعبني وكانت تلك اللحظات هي منفذي الوحيد قبل أن تعاود الصراخ فور ذهاب الزوّار. ثم لم نعد نرى أبي، الذي فضّل البقاء بعيداً عن زوجة لم يعد يحبّها وإعتبرتُ أنّ والدي قد هجرني وتركني مع المجنونة. ولكنّ الواقع كان مختلفاً، فكان بنيّته أن يأخذني منها فور ما يتمكّن من ذلك، أي عندما ينتهي عقده مع الشركة. وهكذا بقيتُ مع أمّي أتحمّل الإهانات والضربات وأصلّي ليلاً لكي ينتهي كابوسي. لم ترسلني أمّي إلى المدرسة ربّما خوفاً من أن يرى أحد كدماتي أو لكي لا تبقى وحيدة طيلة النهار وكبرتُ دون علم أو ثقافة. كل ما تعلّمته كان التنظيف والطهو والإمتثال للأوامر دون نقاش.
وبعد أن تحمّلتُ هذا العذاب لمدّة سبع سنين، جاءني الفرج أخيراً. كان والدي قد تزوّج مجدداً وعاد نهائيّاً من عمله وقرّر أن يأخذني من أمّي ولكنّها رفضَت أن تستغني عنّي، فبِمَن كانت ستصبّ إستياءها كلّه؟ لم تأبه حتى أن تفتح له أو تجاوب على مكالاماته وأوصدَت كل الأبواب والنوافذ وعشنا هكذا مدّة سنة بكاملها. لم نكن نرى سوى جارتنا التي كانت تأتينا بالطعام وتعود فوراً إلى منزلها خوفاً من جنون أمّي الذي بات واضحاً. وفي ذات ليلة، سمعنا الباب يُقرع بقوّة وصوت يقول: "إفتحوا... هذه الشرطة!". وخافَت أمّي جداً ومسكَتني وأخذَتني إلى الشرفة وحين خلعَت الشرطة الباب وجدوها تمسكني وتستعدّ للقفز. هدّأوا من روعها وأقنعوها بتركي وبعد أن أفلتَتني إستدارت ورمَت بنفسها من أعلى الشرفة وماتت على الفور. لم أعلم بالضبط ماذا شعرتُ في تلك اللحظة، لأنّني نظرتُ حولي ورأيتُ والدي، فركضتُ إليه وعانقته بقوّة قائلة: "لماذا تأخرتَ هكذا؟" أخذَني في ذراعيه وذهبنا إلى غرفتي وحضّرنا حقيبة صغيرة وتركنا المكان الذي عشتُ به أبشع أيّام حياتي. قادَني والدي إلى منزله الجديد وحين دخلنا المكان، رأيتُ إمرأة في إنتظارنا. ركضَت إليّ لتعانقني ولكنّني خفتُ منها وإلتجأتُ إلى أبي وأنا أبكي. إبتسمَ وقال لها:

- سيلزمها بعض الوقت... لقد عانت الكثير... خاصة الليلة... فلقد رمَت المجنونة بنفسها أمام أعين الصغيرة... حتى آخر لحظة أرادت أذيّتها.

وأخذَني والدي إلى غرفتي الجديدة وأُعجبتُ بالألوان الجميلة والألعاب الموضوعة على سريري. نمتُ جيّداً في تلك الليلة لكثرة تعبي وعندما إستفقتُ في الصباح، ذهبتُ إلى المطبخ لأحضّر الفطور كما عوّدَتني أمّي أن أفعل. ولكن نجاة زوجة أبي صرخَت بي:

- ما الذي تفعلينه؟

- أحضّر لكم الفطور... أنا آسفة... سامحيني أرجوكِ...

- حبيبتي... أعتذر إن كنتُ قد أخفتكِ... هذا ليس من واجبكِ، بل من واجبي أنا... إجلسي هنا معي وسيكون الإفطار حاضراً بعد بضعة دقائق.

إستغربتُ كثيراً لكل تلك اللطافة وتوقّعتُ أن تبدأ بالصراخ فور ذهاب أبي إلى عمله كما كانت تفعل أمّي. وبعد أن أكلنا ودّعنا أبي وأصبحتُ وحدي مع نجاة. جاءت نحوي ومعها كتاب مليء بالصور والألوان وإقترحَت عليّ أن أقرأه. أجبتُها:

- لكنّني لا أجيد القراءة... لم أذهب إلى المدرسة...

- يا للمسكينة... حسناً سأقرأه لكِ إذاً... تعالي نجلس على الأريكة.

- لا! أنا لا أجلس أبداً على أثاث الصالون بل على الأرض... هكذا علّمتني أمّي...

وإمتلأت عيون نجاة بالدموع وأقنعَتني أنّها لا تمانع أبداً إن جلستُ على الأريكة وبدأت تروي لي قصّة جميلة. شعرتُ بالسعادة ولكنّني خفتُ من أن تنتهي تلك السعادة بسرعة وأغمضتُ عينيّ لكي أحفظها في عقلي. رأت سعاد ما كنتُ أفعله، فظنّت أنني غير مهتمّة بالقصّة، فسألتني إن كنتُ أريد قصّة أخرى فأجبتها:

- أريد قصص العالم كلّه! ولا أريد أن تكفّي عن الكلام... أروي لي...

ضحِكَت زوجة أبي وعانقتني بحنان. وبعد وصولي بشهر واحد، أدخلوني المدرسة وبدأتُ أتعلّم القراءة والكتابة والحساب ورغم فرق العمر بيني وبين رفاقي، لم أغب يوماً لكثرة فرحتي. كنّا قد أصبحنا عائلة سعيدة، كتلك التي نراها بالأفلام: يعود أبي في المساء ويروي لنا نهاره، ثمّ نتناول العشاء سويّاً وبعد أن يلعب معي قليلاً، كنتُ أقبّله وتأخذني نجاة إلى الفراش وتروي لي قصّة جميلة قبل أن أغمض عينيّ.
لكن تلك السعادة لم تدم، فبعد أقل من سنة، مات أبي في عمله من نوبة قلبيّة وإنهار كل شيء من حولي. أتذكّر جيّداً ذلك النهار حين جاءت نجاة وأخبرَتني وهي تبكي بحرارة بالذي حصل. ركضتُ أختبئ تحت السرير ولم أخرج منه حتى الليل. إضافة إلى حزني العميق، إنتابني خوف شديد. فما الذي كان سيحصل لي؟ نجاة ورغم لطفها وحنانها لي، لم تكن أمّي، بل زوجة أبي ومِن الطبيعي أن تكفّ عن الإهتمام بي بعدما مات الذي يربطنا ببعضنا. فهي لم تكن أبداً مجبرة على الإعتناء ببنت غيرها وكانت ستريد متابعة حياتها من دوني. وبعد أن رحل المعزّين جاءت نجاة إلى غرفتي وجلسَت على الأرض قرب سريري لتكلّمني وأنا مختبئة تحته. قالت لي:

- أعلم ما يدور في رأسكِ... إسمعي ما سأقوله لكِ... أحببتُ أباكِ كثيراً وأحببتكِ أوّلاَ لأنّكِ منه... ولكنني أحببتكِ أكثر حين رأيتكِ وإزداد حبّي لكِ خلال السنة التي قضيناها سويّاً... أصبحتِ جزءاً من حياتي والإبنة التي لم أنجبها... حين تعرّفتُ إلى أبيكِ، كنتُ أرملة وخلال زواجي الأوّل لم أستطع الإنجاب، فرأيتُ فيكِ فرصة لأكون أمّاً لطفل... لن أترككِ إن كان هذا خوفكِ... أعدكِ بذلك، بل أقسم لكِ أنّني سأقضي حياتي كلّها أرعاكِ وسأبذل جهدي لإسعادكِ... أخرجي من تحت السرير لأضمّكِ إلى صدري ونبكي سويّاً، فأمامنا محنة صعبة وعلينا التكاتف لإجتيازها...

وخرجتُ من مخبأي وركضتُ إليها وعانقتها بقوّة وبكينا مطوّلاً على الذي جمعنا، قبل أن يرحل. وبعد فترة وجدَت نجاة عملاً بفضل إجازتها في التعليم في المدرسة التي أذهب إليها. وكبرتُ معها بفضل حبّها لي وأصبحتُ الآن مدرّسة مثلها وأخذتُ مكانها بعدما تقاعدَت. وحين جاء حبيبي ليتعرّف إليها ويطلب يدي منها قدّمتُها له قائلة:

- أعرّفكَ على أمّي.

حاورتها بولا جهشان  

المزيد
back to top button