ثأرتُ لأمي (الجزء الثاني)

شغلَتني خطّتي كثيرًا، لِدرجة أنّني وضعتُ دراستي جانبًا لأسبوعَين، راجيًا ألّا يؤثِّر ذلك على نَيل شهادتي. فمُعاقبة "الحبيبَين" والتخلّص منهما كان ذا أهمّيّة كبيرة لدَيّ. ولن أقبَل أن تصبَح سارة، خاطِفة الرجال، سيّدة البيت بعد أمّي، ولن أسمَحَ أن يعيش والدي سعيدًا بعد أن دمَّرَ حياة زوجته الأولى، أو ساهَمَ في موتها!

لكنّني لَم أكن قادِرًا على التنفيذ لوحدي، لِذا إستعَنتُ بزميلَين لي في الكلّيّة، ليلى وأخيها التوأم رياض. وهما تحمّسا كثيرًا للفكرة، بعد أن رويت لهما مُلابسات القضيّة وما في بالي. لا تنسوا أنّنا كنّا في بداية العشرينات ومُفعمين بالحيويّة والأفكار غير الاعتياديّة! للحقيقة، إختياري لِمُساعديّ لَم يكن صدفة وحسب، بل لأنّني كنتُ مُعجبًا بليلى وصديقًا لرياض، ووجدتُ أنّه مِن المنطقيّ أن يكونا جزءًا مِن العمليّة!

وذات ليلة، أدخلتُ زميلَيّ خلسةً إلى البيت، واختبآ في غرفتي التي لا يدخلُها أيّ مِن "العروسَين" قط، فكنتُ بالنسبة لهما غير موجود على الاطلاق، وذلك منذ البدء. إنتظَرنا أن تُطفأ الأنوار وأن ينام أبي وزوجته الفاسِقة، لتنتقِل ليلى إلى غرفة المرحومة أمّي وتبدأ بإطلاق الصراخات ومُناداة سارة بأعلى صوتها. وحين سمِعتُ باب غرفة أبي وسارة يُفتَح، أسرَعتُ بإعادة ليلى إلى غرفتي. سمِعتُ أصوات أقدام الثنائيّ في الرواق، فهما دخلا غرفة أمّي ليتفقّداها ثمّ قالَ والدي لزوجته: "قد يكون صوت الريح... هيّا بنا نرجَع إلى الفراش. وبعد ساعة تقريبًا عادَت ليلى وأخوها إلى بيتهما.

في اليوم التالي، وقَبل أن تصحو سارة، رحتُ إلى المطبخ ووضعتُ على الطاولة فرشاة شَعر أمّي، هي نفسها التي كانت تستعملُها المُمرّضة كلّ مساء لتسريح شعر مريضتها. ثمّ عدتُ إلى غرفتي وادّعَيتُ النوم. بعد حوالي الساعة، سمِعتُ سارة تصرخُ وتُنادي زوجها قائلة: "أنظُر! إنّها فرشاة شعرها! مَن وضَعَها هنا؟!؟ الأمس سمِعناها تصرخ واليوم أجِدُ الفرشاة!". ركَضَ أبي إلى غرفتي وفتَحَ الباب مِن دون أن يقرَع ليجدَني غارقًا في النوم. تابَعا حديثهما عن الأمر ثمّ حضّرَت سارة الفطور وجلَسا يأكلان بصمت.

عادَ صديقايَ كلّ ليلة تقريبًا لتكرار السيناريو نفسه، مع بعض التغييرات بما كانت تقوله "أمّي" مِن غرفتها. فصارَت ليلى تصرخُ: "لماذا يا سارة؟!؟ فلقد إئتمَنتُكِ على زوجي وبيتي... لماذا؟!؟ أو "يا زوجي الحبيب... كيف تتزوّج وتأتي بالخائنة إلى بيتي؟!؟ لن أدَعكما تنامان بسلام طالما أرقدُ تحت التراب!!!". وفي الصباح، كنتُ أضَعُ أغراض والدتي الخاصّة هنا وهناك في البيت.

بالطبع شكَّ الثنائيّ بي، لكنّهما لَم يجِدا أيّ دليل على تورّطي، وحين كانا يسألاني إن كنتُ أسمَع الصراخ الليليّ، كنتُ أُجيبُ بالنفي دائمًا.

ولِقلّة نوم سارة وأبي، صارا مشدودَي الأعصاب لِدرجة لا توصَف ويتشاجران طوال الوقت، إلى حين قرَّرَت سارة أنّها لَم تعُد تحتمِل الوضع وعليها الرحيل. فبدأت تُقنِعُ أبي بأن ينتقلا إلى مسكن آخَر وإلّا تركَته ورحَلت لوحدها. وقَعَ أبي في حيرة مِن أمره، فهو كان شبه مُتأكِّد مِن أنّ زوجته الأولى لَم تعُد مِن الموت لِتهديدهما، لكنّه لَم يجِد تفسيرًا للموضوع، خاصّة أنّ الصوت الذي كان يعلو ليلًا كان صوت امرأة، أيّ أنّه لَم يكن صوتي.

أصابَت الهستيريا سارة، وبدأَت تخافُ مِن أيّ حركة أو صوت وتبكي طوال النهار، وسَئِمَ والدي مِن رؤيتها هكذا. أنا مُتأكّد مِن أنّه كان يحلمُ بِتركها، لكنّه خافَ مِن العَيش معي لوحده بعد الذي فعلَه. إضافة إلى ذلك، كانت سارة، على الأقلّ قَبل تنفيذ خطّتي، مُناسِبة له مِن جميع النواحي. لِذا هو قبِلَ أخيرًا بالرحيل معها إلى مكان آخَر.

عندها، عرضتُ عليه شراء حصّته منه لكنّه لَم يقبَل، فهو كان يعتبر أنّ تلك الحصّة هي بمثابة مُكافأة لتحمّله سنوات زواج مِن امرأة لَم يُحبّها يومًا. فأجَبتُه بهدوء وبرودة: "لا يهمّ... سأنتظرُ حتّى تموتَ بدوركَ، وأرجو ألّا يطول عمركَ كثيرًا". نظَرَ والدي إليّ باندهاش لكنّه لَم يجِب بل أدارَ ظهره وصرَخَ لِسارة: "هيّا، لمّي أمتعتنا لنرحَل مِن هذا المكان المُقرِف".

وحين صرتُ الساكن الوحيد في البيت، أقَمتُ حفلًا فيه ضمّ الأقارب والأصدقاء وزميلَيّ، وتذكّرنا جميعًا المرحومة أمّي التي كانت وبقيَت سيّدة المكان. سكَنَ العروسَان في شقّة فخمة وسط العاصمة، واستعادَت سارة عافيَتها وشهيّتها على الحياة الباذِخة، وبدأَت تصرفُ مال زوحها يمينًا وشمالًا.

مرَّت السنوات وصرتُ موظّفًا في شركة مُحترمة، وكان قد انقطَعَ الاتّصال كلّيًّا بيني وبين والدي، لكنّني عرفتُ كلّ شيء عن حياته مِن أصدقاء مُشتركين زوّدوني بالمعلومات لحظة بلحظة.

وجاءَ اليوم الذي نفَذَ فيه المال الذي ورثَه أبي مِن أمّي، وكذلك ماله الخاص بسبب نمَط حياته وزوجته. صحيح أنّه كانت لدَيه أعمالاً خاصّة، لكنّها كانت صفقات نصب لَم تعُد تُقنِع أحدًا. عندها، إضطرَّ وسارة لترك شقّتهما والانتقال إلى أخرى في حَيّ "غير لائق" بهما. علِمتُ أنّ المشاكل بدأَت بين الزوجَين بسبب خذلان سارة مِن والدي، ففي نظرها، هي كانت تستحقّ أكثر مِمّا صارَ يُقدّمه لها، ولَم تعُد ترى حاجة للبقاء معه. فكان الذهَب والحُلى التي اشترَتها خلال زواجها معه كافية لتعيش مِن دونه ولِما لا، لإيجاد رجُل آخَر أكثر "كرَمًا" منه.

وهكذا تركَت الفاسِقة أبي ورحَلَت، وهو بقيَ لوحده حيث هو. وبالطبع، إلتجأ إليّ مُستعمِلًا ورقة "أنا والدُكَ والدّين أوصاكَ بي"، فكرّرتُ عرضي له بشراء حصّته في البيت، وهو قبِلَ هذه المرّة لكثرة حاجته للمال. ساعدَتني عائلة أمّي بالمبلغ، لأنّهم كانوا يُريدون رؤية البيت يعودُ إلى مالكيه، والتأكّد مِن أن "النصّاب" لن يستفيد مِن إرث أمّي بعد ذلك على الاطلاق. قبَضَ والدي المال، وأوّل شيء فعلَه لكثرة غبائه ولقوّة شهوته، هو الاتّصال بسارة لتعودَ إليه. وهي، حالما سمِعَت بوجود المال مُجدّدًا، ركضَت إليه فتصالَحا وعاشا سويًّا مِن جديد في شقّة هي اختارَتها لأنّها "تستحقّ هكذا حياة".

في تلك الأثناء، تزوّجتُ مِن ليلى وحمِلَت بولَد جاء إلى الحياة وسط فرحة عارِمة. كانت أمّي المرحومة ترعاني مِن حيث هي، فكلّ خطوة أخذتُها كانت ناجِحة وفي محلّها. فأنا أؤمِن بقوّة أنّ الأمّهات لا تمُتنَ إلّا بالجسَد لأنهنّ ملائكة، وتُتابِعنَ تفقّد "صغارهنّ" وحمايتهم. وأؤمِن أيضًا بأنّ الناس السيّئين يلقون عقابهم عاجلًا أم آجلًا، خاصّة الذين هم أمثال أبي وشريكته. فبعد أقلّ مِن سنة على عودة سارة لأبي، أصابَها داء السرطان واتّبعَت علاجًا كيميائيًّا أدّى إلى سقوط شعرها. إضافة إلى ذلك، هي صارَت هزيلة وفقدَت رونقها، الأمر الذي أزعَجَ والدي إلى أقصى درجة. ألَم يختَرها مِن بين عشيقاته لأنّها جميلة ومُثيرة؟ ألَم يبِع حصّته ليتمكّن مِن إعادتها له؟ وها هي في أسوأ حالاتها، أيّ أنّها لَم تعُد تعني له شيئًا. لِذا هو بدأ يخرج كعادته السابقة ليلتقي بنساء أخريات، وسارة علِمَت بما يفعله. للحقيقة، هو لَم يُحاوِل حتّى اخفاء الأمر عنها، بل صارحَها بما يقومُ به بكلّ وقاحة لأنّها، حسَبَ قوله، باتَت مُقرِفة وقبيحة. عِلمتُ بالأمر مِن الأصدقاء المُشتركين الذين تذكرتُهم سابقًا، والذين كانوا يعرفون مِن سارة كلّ ما يحصل في زواجها. وعرفتُ منهم أيضًا أنّ سارة قالَت لهم حرفيًّا: "الآن فقط أشعرُ بما شعرَت به زوجته الأولى... يا إلهي... إن مُتُّ فالله لن يرحمَني! فلقد اقترفَتُ أبشَع الآثام... أبشَعها!". ولَم يعلَم هؤلاء الأصدقاء أنّها قد تكون تتكلّم عن ظروف موت أمّي، بل ظنّوا أنّها تقصد فقط الخيانة... على الأقلّ هذا ما أعتقِده.

لَم تشفَ سارة على التمام بل لفترات قصيرة، ثمّ عاودَها المرَض في أنحاء عديدة مِن جسدها. أنا لا أقولُ إنّ داء السرطان هو عقاب إلهيّ، بل إنّه إحدى الوسائل لمُحاسبة مَن سرَقَ ونصَبَ وخانَ... وقتَلَ. فهناك مرضى لَم يقترفوا أيّ خطئية، بل إنّ مرَضهم سببه أمور بيولوجيّة بحت.

لن أطيل الشرح، فلقد ماتَت سارة بعد أن عانَت كثيرًا، إلّا أنّها قضَت فترتها الأخيرة بالصلاة والتقوى. هل أنّ ذلك كافٍ لِمحو ذنوبها؟ هذا ليس مِن شأني بل مِن شأن الله، فوحده يعلَمُ ما في قلوب الناس، ويعلَمُ إن كانت التوبة صادِقة أم لا.

سمِعتُ أنّ والدي لَم يحزَن كثيرًا على موت زوجته، بعد أن طفَحَ كَيله مِن رؤيتها مريضة وغير قادِرة على إشباع نزواته ورغباته. هو كان قد وجَدَ امرأة غيرها وكان حتمًا ينوي الزواج منها بأقرب وقت، لتحلّ مكان سابِقتها وتهتمّ بأموره مِن جميع الجوانب... إلّا أنّه سقَطَ ميّتًا خلال مراسِم ذكرى الأربعين لموت سارة! هل أنّها صدفة أم عقاب لأنّه تزوّجها يوم أربعين أمّي؟ لا أعلَم.

إختُتِمَت حلقة الحزن، وبدأتُ صفحة جديدة مع عائلتي الجميلة. ماتوا جميعًا وحان دوري لأعيش وأُحبّ، ولأكون والدًا صالِحًا لإبني وزوجًا مُحِبًّا ووفيًا لزوجتي. فالذي حصَلَ علّمَني الكثير، وما هو أهمّ أنّ حياة الانسان يمُكن أن تنتهي بأيّة لحظة وبأيّة طريقة، فعلينا أن نكون جاهزين لتلقّي حكم الله علينا، جاهزين طوال الوقت وليس فقط عندما نمرَض أو نشيخ.

اليوم ابني مُتزوِّج وسأصبحُ جدًّا قريبًا، ولا أزال أنتبِه لتصرّفاتي ومُعاملتي للآخَرين، وأتجنَّب اقتراف الخطايا قدر المُستطاع لأكون جاهزًا حين تأتي ساعتي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button