تمارة الأفعى

حتى ذلك اليوم، كنتُ فتاة بريئة كأيّ فتاة في الرابعة عشرة، وكان همّي الوحيد الذهاب إلى المدرسة واتمام واجباتي وفروضي والعَيش مع والدة مُحبّة وحنونة. كنت وحيدة أهلي وكان أبي قد ماتَ منذ سنوات. هل كنتُ أشكُّ أنّ بعد أيّام قليلة كنتُ سأصبحُ سيّدة مُتزوّجة؟ بالطبع لا! لكنّ ماجد، إبن جيراننا، كان واقعًا في حبّي وينوي الإرتباط بي، ووصَلَ الأمر به إلى خطفي لتنفيذ ما في رأسه.

آنذاك وفي البلدات الصغيرة، كان خطف الصبايا للزواج منهنّ أمرًا يحصلُ مرارًا، وكان مِن المستحيل على الفتاة المسكينة العودة إلى ديارها بل عليها القبول بمصيرها كي لا تُلطِّخ سمعة أهلها إلى الأبد.

وهكذا أوقفَ ماجد سيّارته على حافة الرصيف، وترجّل وحمَلَني بالقوّة إلى داخل سيّارته ليقود بي إلى منزل أخته. في البدء ظننتُها دعابة، إلا أنّني بدأتُ بالبكاء عندما أخبرَني ذلك الشاب بما ينوي فعله بي. نمتُ في ذلك المنزل في القسم الخاصّ بتمارة أخت ماجد. وفي اليوم التالي أخذاني إلى رجل معدوم الضمير يخدم الله ويُطبّق الدين. كان مِن الواضح أنّني لَم أكن موافقة على الزواج، إلا أنّني صرتُ زوجة ماجد بغضون دقائق. في تلك الأثناء، فتّشَت أمّي عنّي في كلّ مكان، وكانت ستقصد الشرطة لولا تلقّيها اتّصالاً مِن تمارة تعلمُها فيه أين أنا، وأنّ لا مجال لاسترجاعي إذ كنتُ قد أصبحتُ ملك أخيها إلى الأبد.

وهكذا، بين ليلة وأخرى، كتَبَ ماجد وأخته فصلاً مِن حياتي مِن دون إذني، وبقيتُ أسألُ نفسي لوقت طويل ماذا فعلتُ ليحصل لي ذلك. فإلى جانب تزويجي بالقوّة، كنتُ قد وقعتُ على أسوأ إبنة حمى، تمارة، إمرأة حاقدة وشريّرة ومعدومة الأخلاق كما كنتُ سأكتشفُ لاحقًا. وما هو أسوأ، هو أنّها كنت تُديرُ أخاها الصغير كما تشاء، وهي التي أمَرته بِمنع أمّي مِن رؤيتي بِقصد عَزلي والسيطرة عليّ. بكيتُ كلّ دموعي حين علِمتُ أنّني سأقضي حياتي مع هذَين الوغدَين، وأنّ ما مِن أحد سيُخلّصني منهما. امّا المسكينة أمّي، فاحتارَت بين حبّها لي ورغبتها بالمحافظة على سمعتي وشرَفي. لِذا اكتفَت بالمجيء سرًّا إلى خلف البيت حيث أنا والنظَر إليّ مِن نافذة صغيرة. كنّا نتواصل بالإشارات وكان ذلك شبه كافٍ لإعطائي بعض القوّة ومَنعي مِن إنهاء حياتي.

 


فالجدير بالذكر أنّ بيت تمارة الذي ورِثَته مِن جدّها كان في الجهة الأخرى مِن البلدة ويقعُ وسط بستان كبير. لكن بعد فترة، إنتبهَت تمارة إلى زيارات والدتي السرّيّة، وأخبَرت أخاها بالأمر وهو قام بإقفال تلك النافذة بألواح خشبيّة. أتذكّرُ أنّني كرهتُ ماجد أكثر مِن قبل وتمنَّيتُ له الموت السريع والشنيع. لكنّه لَم يمُت بل أسرعَ بإعطائي إبنًا كي أكفّ عن التفكير بالهروب أو الموت.

لِحسن حظّي أنّ تمارة كانت تبقى معظم الوقت في قسمها مِن البيت، الذي كان له مدخل خاص، أي أنّها لَم تكن قادرة على دخول قسمنا إلا مِن بابنا، الأمر الذي أعطاني شيئًا مِن الخصوصيّة. لِذا استطعتُ التركيز على تربية إبني، وهي مُهمّة صعبة على فتاة بسنّي بعيدة عن أمّها، الإنسانة الوحيدة التي بإمكانها مساعدتها بالاهتمام بطفل رضيع. تدبّرتُ أمري لأنّني لَم أكن أريد أن يموت إبني، فكان يعني لي خلاصي وسلوَتي. ومع مرور الوقت، صارَ ماجد أكثر حنانًا معي، بعد أن اطمأنّ إلى أنّني باقية معه، فهو كان يُحبّني حقًّا وأظنُّ أنّه، لولا أخته، لكان قد أخَذَ وقته وانتظَرَ المدّة اللازمة للزواج بي.

أنجَبتُ إبني الثاني بعد أن انتظمَت حياتي، وكنتُ حقًّا سعيدة بعائلتي الصغيرة. كنتُ أتتبّع أخبار والدتي عبر الهاتف، حين كنتُ قادرة على ذلك، أي عندما كان ماجد في عمله وتمارة في شقّتها. وكَم حزنتُ عندما علِمتُ أنّ والدتي أُصيبَت بشلل نصفيّ وعليها تدبّر أمر نفسها. أرَدتُ جَلبها إلى البيت والإهتمام بها، وكان سيقبلُ زوجي بذلك لولا تدخّل أخته الشريّرة التي هدّدَتني بِقطع خط الهاتف لو بقيتُ مُصرّة على ما في بالي. رضختُ للأمر الواقع، لكنّني صمّمتُ على التغلّب يومًا على تلك الأفعى... ونجحتُ بذلك!

كنتُ قد لاحظتُ، بسبب مكوثي في البيت على مدار الساعة، حركة دائمة في الطابق السفليّ حيث شقّة تمارة. وتساءَلتُ مرارًا كيف لإنسانة بغيضة وحقودة مثلها أن يكون لها هذا العدد مِن المعارف والأصدقاء. لَم أكن أراهم يدخلون أو يخرجون مِن مسكنها، بل كنتُ أسمعُ أصواتهم وصدى خطواتهم. سألتُ ماجد عن الأمر، إلا أنّه لَم يكن يعلم أنّ ضيوفًا يأتون إلى أخته لأنّه كان غائبًا خلال النهار، وقال لي إنّني أتصوّر هذه الأمور، فبالنسبة له كانت تمارة إمرأة لا تحبّ الإختلاط بالناس وتفضّلُ البقاء لوحدها لتقرأ في الكتب الدينيّة وتطبّق تعاليم الله. ضحكتُ في سرّي لدى سماع ذلك، فكيف لِتمارة أن تكون قريبة مِن الله بعد الذي فعلَته بي؟ كنتُ متأكّدة مِن أنّ هذه التقوى المُعلنة هي ستار لأشياء لا صلة لها بالدين.

لِذا قرّرتُ مُراقبة أخت زوجي عن كثب. ويوم سمعتُ أصواتًا في شقّتها، نزلتُ إليها بسرعة بحجّة شرب القهوة معها والتحدّث قليلاً بسبب وحدتي. إلا أنّ تمارة، وبعد أن تأخّرَت لِفتح بابها، أبقَتني خارجًا واعتذرَت عن استقبالي لأنّها مشغولة بِتنظيف المكان. إدّعَيتُ أنّني عدتُ إلى شقّتي، إلا أنّني بقيتُ في الحديقة مُختبئة خلف شجرة ضخمة. إنتظرتُ حوالي الساعة، وإذ بسيّدة تتركُ بسرعة المكان وتلاها بعد دقائق رجل غادَرَ هو الآخر بسرعة. لَم أعرف كيف أفسّرُ ما رأيتُه، لِذا عدتُ في اليوم التالي وفي كلّ يوم في الساعة نفسها لأراقب ما يحصل. وفي وفي كلّ مرّة، كان يُغادر الشقّة، وبطريقة خافتة، أناس لَم أرَهم في حياتي. لَم يتطلّب الأمر كثيرًا لأستوعب أنّ أخت زوجتي التقيّة كانت تستقبلُ عشّاقًا غير شرعيّين في منزلها. لماذا تفعل ذلك؟ مقابل المال طبعًا، ففي إحدى المرّات رأيتُ أحد الرجال يُعطيها مالاً قبل أن يختفي وتُغلقُ هي الباب وراءه بسرعة.

وبالرغم مِن فظاعة الأمر، فرِحتُ للغاية إذ كنتُ قد حصلتُ أخيرًا على ما يُمكنُني استعماله ضدّ تلك الأفعى لأجلب والدتي إلى بيتي... تاركة أمر مُحاسبتها لله وحده.

 


وهكذا استطعتُ الطلب مِن تمارة بأن توافيني يومًا إلى شقّتي لنتكلّم عن الستائر التي أنوي تغييرها. فلَم أكن قادرة، حتى ذلك الحين، على تغيير أيّ شيء أو أخذ أيّ قرار مِن دون موافقتها. صعدَت إليّ وبدأنا نجولُ في الشقّة لأفسّر لها ما أنوي فعله. وعندما عُدنا إلى الصالون قلتُ لها:

 

ـ سأغيّر الستائر حين أشاء وأختار القماش الذي أريدُه... وسأجلبُ أمّي لتعيش معنا، فهذا هو بيتي وليس بيتكِ.

 

ـ ما هذا الكلام!؟! هل تريدين أن أخبر زوجكِ عن مدى وقاحتكِ؟

 

ـ وهل تريدين أن أُخبر أخاكِ عن زوّاركِ؟

 

سكتَت تمارة لبضع ثوان ثمّ قالَت:

 

ـ وماذا تعرفين عنهم؟ إنّهم مجرّد أصدقاء ولا عَيب في استقبال الأصدقاء.

 

ـ صحيح أنّ لا عَيب في ذلك، ولكن العَيب هو أن تحوِّلي شقّتك إلى مقرّ دعارة.

 

ـ ماذا!؟! سأقطعُ لسانكِ لو...

 

ـ بل أنا التي ستقطعُ لسانكِ لو تدخّلتِ في حياتي! سئمتُ منكِ ومِن فجوركِ! لقد دمّرتِ حياتي حتى الآن ولَن أسمَحَ لكِ بالتمادي في ذلك!

ـ

ما هذا التغيّر الملحوظ؟ لطالما كنتِ إنسانة مُطيعة.

 

ـ لقد كبرتُ يا تمارة، ولَم أعد تلك الفتاة الخاضعة... صرتُ أمًّا ولدَيّ بيت أديرُه... ناهيك عن حبّي لأمّي المسكينة المُلقاة وحيدة في بيتها والعاجزة عن القيام بأبسط الأمور بسبب كرهكِ لي.

 

ـ ماذا تريدين؟

 

ـ لا أريدُ رؤيتكِ بعد الآن، أفهمتِ؟ وإيّاكِ أن تدوس رجلاكِ هذا المكان الشريف أيتّها الفاجرة!

 

ـ حسنًا.

 

ـ لَم أنتهِ بعد... وستكفّين عن استقبال عشّاقكِ وإلا اتّصلتُ بالشرطة لتقضي باقي حياتكِ في السجن، هذا بعد أن أُخبر أخاكِ بمدى قلّة أخلاقكِ.

 

نظَرَت تمارة إليّ بشرّ عميق وقالَت:

 

ـ سأؤذيكِ... إنتبهي لنفسكِ جيّدًا.

 

ـ لن تفعلي شيئًا... فأنا أخبرتُ هاتفيًّا شخصًا مُقرّبًا منّي كلّ ما أعرفُه عنكِ، وأوصَيتُه بأن يُبلّغ الشرطة لو حصَلَ لي أيّ مكروه... لِذا عليكِ أن تتمنّي لي الصحّة الدائمة والعمر الطويل.

 

ـ لَم أنتهِ منكِ بعد!

 

ـ بلى... بلى... صدّقيني.

 

كنتُ قد رأيتُ في أحد الأفلام كيف استعمَلَ البطل خدعة إخبار أحد عمّا يعرفُه لِحماية نفسه، فاستعملتُها مع تمارة، في وقت لَم أُخبر أحدًا بشيء، لكنّ هذه الطريقة كانت كافية لإخافة أخت زوجي وإبعادها عني.

جلبتُ أمّي أخيرًا إلى بيتي واستطعتُ الإهتمام بها كما يجب. وبعد فترة قصيرة، إنتقَلَت تمارة إلى مسكن آخر بحجّة أنّ شقّتها سبّبَت لها حساسيّة كبيرة بسبب الرّطوبة التي تعمّ المكان. كانت بالفعل تنوي مُتابعة أعمالها مِن دون أن أتمكّن مِن إيقافها. لكن حصَلَ أن فُضِحَ أمرها بعد سنوات قليلة مِن قِبَل جيرانها الجدد، فلا شيء يبقى مخفيًّا على الدّوام.

تحسّنتُ حياتنا جميعًا بعد رحيل تمارة، وشعرتُ بشيء مِن الحبّ تجاه زوجي بعد أن اعتبرتُه أمرًا واقعًا عليّ تحمّله وتقبّله. ماتَت والدتي بعد سنوات جرًّاء ذبحة قلبيّة حادّة.

اليوم أصبَحَ ولَدايَ رجالان، وتزوّجا وصارَ لهما عائلة خاصّة بهما، وأنا أعيشُ مع ماجد قصّة حبّ جميلة. نسيتُ عذابي وحزني وخوفي أخيرًا، وأنعمُ بحياة يحسدُني عليها الكثيرون.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button