تغيَّرَ مصيري بلحظة

مَن منكم سبَقَ وتزوّجَ ويذكُرُ تمامًا فرحة وحماس التحضيرات للزفاف، وخاصّة عمليّة انتقاء أثاث البيت الزوجيّ، هذا لو كان حظّه كبيرًا وسكَنَ لوحده.

فيوم قال لي خطيبي ماهر إنّه وجَدَ ما أسماه "عشنّا الصغير"، طِرتُ مِن الفرَح، وركضتُ أركب سيّارته ليُريني شقّتنا الجديدة. أقولُ جديدة، لكنّها لَم تكن حديثة بل في مبنى قديم مِن حيّ شعبيّ. لَم أقل شيئًا، فقد كانت فكرة العَيش مع حبيبي أقوى مِن أيّ اعتبار آخر. على كلّ الأحوال، كان أمر إعادة تأهيل الشقّة سهلاً بالنسبة لي، بعدما نلتُ شهادتي في الهندسة الدّاخليّة، واعتبرَت الموضوع نوعًا مِن التحدّي لإثبات نفسي في هذا المجال. لذا، عملتُ بكّد وجهد لأجعل مِن شقّتنا مكانًا جميلاً وحديثًا، وما هو أهمّ رومنسيًّا. فكنتُ حقًّا أنوي العَيش مع ماهر بسعادة وهناء حتى آخر أيّامنا.

صحيح أنّني حسبتُ حساب المشاكل التي تعتَرضُ الزوجَين عادةً، لكنّني لَم أتصوّر أبدًا أن أكون قد أخطأت الإختيار. فحسب ما قالَه وأكَّدَه لي مَن عرَفَ وتعرّفَ إلى ماهر، كان زوجي أفضل الرجال.

بعد الزفاف مُباشرة، إنتقَلنا للعيش في شقّتنا الجميلة. لَم نذهب إلي أيّ مكان أو بلد لقضاء شهر العسل، بسبب أحوال ماهر المادّيّة الضيّقة التي دفعَته مِن البداية إلى اختيار مسكَنَنا في ذلك الحيّ الذي يعجّ بالناس. لَم أكن قادرة بعد على مُساعدته، فبالكاد كنتُ قد تخرّجتُ ووجدتُ مكتبًا للهندسة أتدرّب لدَيه. لكنّ المال لَم يكن يومًا ضمن اهتماماتي، بل الحبّ كان مِن أولويّاتي، وعزمتُ على لبس دور الزوجة المثاليّة على أكمل وجه، تمامًا كما فعلَت أمّي مِن قبلي، الأمر الذي جلَبَ لها ولجميعنا السعادة.

بعد زواجنا بحوالي الشهر، دقّت بابنا ساره، إحدى جاراتنا لترحّب بنا في المبنى. فرِحتُ بها، فهي كانت بمثل سنّي بينما باقي الجيران مِن جيل أكبر بكثير. علِمتُ مِن جارتنا أنّها تعيش مع والدتها فقط، بعد أن ماتَ والدها وسافَرَ أخوها وعائلته إلى بلد بعيد. إنبهرَت ساره بجمال شقّتنا، فالشقّة التي تعيش هي وأمّها فيها قديمة وبالكاد صالحة للسكن. ووعدتُها بأن ألقي نظرة على المكان بغية تحسينه، وجعلتُها تعِدُني بزيارتي قريبًا.

وذات يوم، عندما كانت ساره جالسة برفقتي نشربُ الشاي، عادَ ماهر مِن عمله في وقت أبكر مِن العادة بسبب شعوره بتوعّك. ولحظة رأى جارتنا، حدَثَ شيء بينهما لَم أستطع تفسيره، على الأقل في حينه. كان الأمر وكأنّ الزمَن قد توقّف بالنسبة لهما، وشعرتُ حقًّا بأنّ لا مكان لي بينهما. لكنّ تلك اللحظة انتهَت وعادَ كلّ شيء إلى طبيعته، الأمر الذي طمأنَني. فلَم أكن أغارُ على زوجي بصورة خاصّة، ربمّا لأنّه لَم يُعطِني يومًا سببًا لذلك، فهو لطالما كان رجلاً جدّيًّا ووفيًّا. لِذا، نسيتُ بسرعة ما خُيِّلَ لي، وعُدتُ إلى اهتماماتي، أيّ مستقبلي المهنيّ، ولِما لا، الإنجاب.

 


أطلَعتُ ماهر على نيّتي بالتحضر للإنجاب، لكنّه فضَّل أن نتريّث إلى حين نتمكّن مِن إعطاء ولدنا حياةً مُريحة مِن كلّ النواحي. وافقتُه الرأي، وتأجَّلَ الموضوع إلى السّنة المُقبلة.

لكنّ ماهر بدأ يتغيّر يومًا بعد يوم، فهو صارَ يجلسُ لوحده ويُحدّقُ في الفراغ وكأنّ شيئًا يشغلُ باله. حاولتُ معرفة السّبب، لكنّه أكَّدَ لي أنّ كلّ شيء على ما يُرام. وبالطبع صدّقتُه، فلَم يكن هناك مِن سبب للشكّ بكلامه، لأنّ زوجي لَم يكذب عليّ يومًا أو يُخفِ عنّي شيئًا.

ومِن ثمّ صارَ ماهر يتغيّبُ عن البيت، ويُرجئ موعد عودته بعد العمل. لَم يُقدِّم لي أعذارًا، بل اكتفى بالبقاء خارجًا حتى الليل. أين كان يذهب... ومع مَن؟ لَم أعرف الجواب.

ومنذ تلك الفترة، تتالَت الأحداث بسرعة فائقة، لِدرجة أنّني لَم أستطع إستيعاب ما يجري، وشعرتُ أنّني في قلب حلم مُزعج للغاية.

ففي إحدى الليالي، دقَّت على بابي ساره وطلَبت رؤيتي. أدخَلتُها بحماس، فكنتُ جالسة لوحدي وأشعرُ بالملل العميق. لكنّ جارتي بدَت قلقة للغاية، لِدرجة أنّها لَم تتفوّه بكلمة بل بقيَت تنظرُ إلى ساعتها.

وعادَ ماهر أخيرًا إلى البيت، ولَم يتفاجأ بساره أو حتى يُلقِ عليها التحيّة، الأمر الذي اعتبرَتُه قلّة احترام لجارتنا. لكنّني لَم أفهم سبب تصرّفه إلا عندما جلَسَ معنا في الصالون وقال لي بصوت هادئ:

 

ـ أنا وسارة مُتحابّان.

 

ـ ماذا؟!؟ لا بدّ أنّكَ تمزح. ساره! قولي شيئًا! ما هذه الدّعابة الثقيلة؟

 

ـ أقول لكِ الحقيقة وأنا آسف جدًّا. لكنّني وقعتُ في حبّها لحظة رأيتُها هنا في هذا الصالون. ومنذ تلك البرهة، لَم أنفكّ عن التفكيّر بها، وعلِمتُ أنّها تُشاطرُني شعوري. لذلك عليّ أن أطلعُكِ على نيّتي في الطلاق لأنّني أريدُ أن أتزوّج ساره.

 

لَم استوعِب جيّدًا ما حدَث وبدأتُ بالضحك عاليًّا. إلا أنّ جدّيّة وجهَي زوجي وجارتي أعادَتني إلى الواقع المرير. بدأتُ بالبكاء لكنّني لَم أتوسّل أو أهدّد، فهذا لَم يكن مِن شيَمي. كان الموقف مُحرجًا للغاية والسّكوت السّائد مُزعجًا. لِذا قلتُ لِماهر:

 

ـ ماذا تُريدُ أن نفعل؟

 

ـ أريدُكِ أن تتركي الشقّة، فساره تريدُ العَيش هنا، بالقرب مِن أمّها.

 

ـ أتركُ لها زوجي... وبيتي؟ ما رأيكَ لو أتركُ لها ملابسي أيضًا؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ لقد حوّلتُ هذا البيت إلى مكان جميل وحديث ووضعتُ فيه آمالي وتوقّعاتي ومهارتي!

 

ثمّ نظرتُ إلى سارة وصرختُ بها:

 

ـ أنتِ، عودي إلى بيتكِ الآن! لا أريدُ رؤية وجهكِ القبيح! أيّتها الأفعى! أريدُ التكلّم مع زوجي... بينما لا يزالُ زوجي! هيّا!

 


رحلَت ساره بِصمت، وحاوَلَ ماهر تأنيبي على طريقة مخاطبة حبيبته. قلتُ له:

 

ـ أنتَ أصمت! تُدافع عنها أيضًا؟ لا أصدّق أذنيَّ!

 

ـ نُريدُ الشقّة.

 

ـ وتتكلّم بصيغة المثنّى؟ وإن رفضتُ؟

 

ـ سأجبرُكِ على ذلك بشتّى الطرق. أنا مَن اشتراها فهي مِن حقيّ.

 

ـ وترميني هكذا؟ بكلّ بساطة؟

 

ـ عودي إلى أهلكِ.

 

ـ ولِما لا تسكنُ مع عشيقتكَ عند أمّها، إن كانت العودة إلى الأهل بهذه البساطة والمنطق! لن أرحَلَ إلى أيّ مكان!

 

ـ حسنًا، سنرى إن كنتِ سترحلين أم لا.

 

خرَجَ ماهر مِن البيت بغضب، وأنا جلستُ أفكّر كيف لإنسان كان يُحبُّني منذ أكثر مِن ثلاث سنوات أن يُعاملني بهذه القذارة بسبب افتتانه بغيري. أين ذهَبَ الحبّ والإحترام والتضحية التي كان يتكلّم عنها طوال الوقت؟

في الصّباح الباكر عادَ ماهر ومعه ساره... وحقائبها! كان قد أتى بها لتعيش في البيت معنا! بدأتُ بالصّراخ والتهديد، لكنّهما لَم يأبها لي بتاتًا، فكان الأمر وكأنّني غير موجودة. إستقرَّت ساره في غرفة الضيوف، ولحِقَ بها ماهر بعدما أفرَغَ أمتعته مِن الخزانة ونقلَها إلى تلك الغرفة. يا إلهي، ما هذه الوقاحة!

ركضتُ أخبرُ أهلي بالذي يحصل لي، لكنّهم ألقوا اللوم عليّ، فحسب قولهم الذنب كان حتمًا ذنبي، فرجل رائع مثل ماهر لا يُمكنه التصرّف هكذا مِن دون سبب.

وهكذا وجدتُ نفسي وحيدة بوجه الجميع أدفعُ ثمن خطأ لَم أرتكبه.

وصارَت الحياة في البيت لا تُطاق، إذ بتُّ أسمع أصوات العروسَين في الليل، فهما كانا قد تزوّجا وينعمان بحياة زوجيّة صاخبة للغاية. وأمام عنادي بعدَم ترك المكان، قرّرَ ماهر التصرّف.

ففي إحدى الأمسيات، وبعد أن عُدتُ مِن عملي، وجدتُ غرفتي خالية مِن الأثاث والثياب وكلّ ما يخصّني. وعندما سألتُ ماهر عن أمتعتي، ضحِكَ وقال: "لا أعلم... ربمّا تبخّرَت!" بدأتُ بالبكاء، فلَم يعُد لي شيء على الإطلاق، ورحتُ أمكثُ عند قريبة لي ريثما أجدُ حلاً. وبعدما أفرغتُ قلبي إلى تلك المرأة الطيّبة التي استقبلَتني، قالَت لي:

 

ـ لماذا تصرّين على البقاء في مكان لستِ مرغوبة فيه ومع أناس لا يحترمونكِ؟ تريدين إثبات نفسكِ لهما؟ إفعلي ذلك بإسعاد نفسكِ مِن خلال عملكِ وصداقاتكِ، ومَن يدري ربّما مِن خلال رجل يعرف كيف يُحبّكِ! فأنا متأكّدة مِن أنّ ماهر لَم يكن يُحبّكِ وإلا لَما وقَعَ في حبّ أخرى بلحظة واحدة. إسمعي ما أقولُه لكِ ولا تعودي، بل إبقي هنا إلى حين يشفى جرحكِ وتصبحين قادرة على التخطيط لمستقبلكِ. أجل مستقبلكِ، فالحياة التي عرفتِها أمسَت مِن الماضي الآن، وعليكِ التطلّع إلى الأمام وإلا حرقتِ قلبكِ إلى الأبد. هنيئًا لماهر وساره بالشقّة! فالسّعادة ليست رهن جدران وأثاث وستائر، بل هي بالناس الذين يسكنون المكان. وسعادتكِ أنتِ ليست هناك، بل في المكان الذي ستختارينَه مع الذين سيُسعدونَكِ. هيّا، إمسحي دموعكِ، فذلك الفاسق لا يستحقّ دمعة واحدة منكِ!

 

سمعتُ مِن قريبتي ولَم أرجَع إلى الشقّة، ولَزِمَني وقت طويل لأتخطّى مصيبتي. لكنّني نسيتُ حزني تدريجيًّا بعدما انكبَّيتُ على عملي. صرتُ مهندسة محبوبة وموهوبة، وبتُّ أتقاضى أجرًا مكّنَني مِن الإنتقال إلى شقّة ظريفة زيّنتُها بذوق رفيع.

أنتظرُ الآن الرّجل الذي سأقضي معه باقي حياتي، لكن حتى ذلك الحين، سأركزّ على علاقتي مع الذين وقفوا إلى جانبي في محنتي، فهذا هو الحبّ الحقيقيّ.

ما أخبار ماهر وساره؟ للحقيقة فإنّهما يعيشان بهناء مع ولدَيهما وقد نسيا حتمًا أنّني كنتُ يومًا جزءًا مِن حياتهما.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button