نتوقّع عادةً أن تأتي التضحية مِن أقرب الناس إلينا، كالعائلة أو حبيب متيّم، ولا يخطر ببالنا أن يُقدِّم غريب نفسه مِن أجلنا، وذلك بدافع محبّة نابعة مِن قلب نقيّ نادر الوجود.
قصّتي مؤلمة، لكنّها تحمل عِبرًا قويّة غيرَّت نظرتي إلى الناس، أكانوا سيّئين أم خيّرين.
أنا من يُسمّونها "عاملة أجنبيّة" كي لا يقولوا خادمة قادمة مِن بلد دفَعَ بأهله إلى الإذلال بسبب قلّة موارده أو نهب حكّامه لثرواته. وحين تحضّرتُ لمغادرة المنزل الذي أبصرتُ فيه النور وكان شاهدًا على جوع دائم، وعَدتُ نفسي بأن أكون عاملة ناجحة ومُطيعة لأتمكّن مِن مساعدة الذين بقوا في العوز. ودّعتُ أهلي وبكينا كثيرًا، وأوصوني بأن أحترس مِن الأذى والمرض.
دخلتُ منزل أسيادي بعدما قضيتُ ساعات طويلة في الطائرة والمطارات وفي قسم الأمن، ومِن بعدها في المكتب الذي سهَّلَ مجيئي. كنتُ مُنهكة، لكنّني بذلتُ جهدي لأحافظ على ابتسامتي، وفي رأسي شيء واحد: النوم. لكنّ سيّدة المنزل لم تراعِ ظروفي، بل أمرَتني ببدء العمل على الفور ولم تسألني حتى إن كنتُ جائعة.
هناك تعرّفتُ إلى عاملة أخرى قادمة مِن بلدي كانت قد بدأَت العمل في ذلك المكان قبل حوالي الخمس سنوات. ولأنّ "ساندي" كانت تكبرني بعشرين سنة، إعتبرتُها على الفور أمًّا لي، وهي ابتسمَت لي وكأنّني ابنتها. وبالرّغم مِن فارق السن، سرعان ما تصادقنا وشعرتُ برفقتها بنوع مِن الأمان في بيت لا يعرف الرحمة.
فصاحبة المكان كانت إمرأة لا يسكن قلبها إلا الكره، وكانت تخال نفسها تعيش في قرن سابق حيث كان الإستعباد سائدًا. العمل لدَيها كان شاقًّا والمعاملة بشعة. فلَم يكن هناك دوام ثابت، وكان بإمكان سيّدتي تشغيلي مِن الفجر حتى أواخر الليل، وإيقاظي في أيّ وقت شاءَت ولأيّ سبب. ليس ذلك وحسب، بل كانت "تُعيرُني" لصديقاتها كي أنظّف منازلهنّ مِن دون مقابل. وبالطبع لَم يكن لدَيّ فرصة أسبوعيّة أو الحق بالخروج مِن المنزل الذي كان يقع في بقعة نائية وبعيدة عن كلّ شيء.
أمّا ساندي، فكانت قد عانَت مثلي قبل مجيئي، لكنّها بدأت تعتاد على الأمر. بيد أنّني لم أكن لأقبل بالعَيش هكذا فقط لأنّني فقيرة وغريبة، فكرامتي كانت أقوى مِن جوعي. لِذا أبدَيتُ رغبتي بالرّحيل، وطلبتُ مِن سيّدتي أن تُعيدني إلى المكتب الذي وظّفَني ليجد لي مكانًا أفضل. لكنّها صَرَخَت بي عاليًا، بينما قامَت ساندي بدور المترجمة بيننا:
ـ ماذا؟ لقد دفعتُ ثمنكِ غاليًا!
ـ ثمني؟ وهل اشتَرَيتِني؟ أنا موظّفة ولستُ عبدة لأحد! أريد الرّحيل! لا يُمكنكِ إبقائي عندكِ بالقوّة فلدَينا سفارة يُمكنني اللجوء إليها.
ـ لن تصلي إلى السفارة لأنّكِ ستذهبين فورًا إلى السّجن.
ـ إلى السّجن؟ لماذا؟!؟
ـ لأنّني سأقول إنّكِ سرقتِني. مَن سيُصدّقون برأيكِ؟ فتاة غريبة وفقيرة أم سيّدة محترمة؟
ـ يا إلهي! ولماذا تفعلين شيئًا كهذا؟!؟
ـ لأنّني لن أرضى بأن تأتي مخلوقة وضيعة مثلكِ وتقرّر بنفسها مصيرها. أنتِ ملكي!
ركضتُ أبكي في المطبخ، ولحِقَت بي ساندي وأخذَت تُواسيني وتُقنعني بالعدول عن قراري، لأنّها تعلم ما قد يحصل لي. لكنّني بقيتُ مُصرّة وبدأتُ أخطّط للهروب. كلّ ما كان عليّ فعله، هو الوصول إلى سفارتنا التي كانت تبعد عن البيت مسافة كبيرة.
لم أكن أملكُ ولو قرشًا واحدًا، فالسيّدة لم تكن تعطيني راتبي نقدًا بل ترسلُه مباشرة إلى أهلي، ربّما كي لا أستقرّ أبدًا ماديًّا وأبقى مرتبطة بها. أمّا بالنسبة لجواز سفري، فبقيَ في مكتب التوظيف كنوع مِن التأمين. أي أنّ الكلّ كان قد عمِل جهده لحجزي حيث أنا واستغلالي قدر المستطاع.
وفي إحدى الليالي، أيقَظتُ ساندي لأودّعها. هي لم تكن نائمة لأنّها شعَرَت بي وأنا آخذ ملابسي القليلة وأضعُها في كيس، فنهضَت بسرعة قائلة:
ـ سأهربُ معكِ، لن أدعكِ ترحلين لوحدكِ، فأنتِ لم تخرجي يومًا مِن البيت ولا تعرفين البلد. نحن في جبل يبعد كلّ البعد عن العاصمة وقد تتوهين لوحدكِ أو يحصلُ لكِ مكروه.
ـ لكنّكِ لن تتمكّني بعد ذلك مِن العودة إلى هنا، أي أنّكِ ستخسرين وظيفتكِ.
ـ لا عليكِ.
تحضّرنا بسرعة وبصمت كامل كي لا نوقظ السيّدة، وركضنا خارج البيت كالمجنونتَين. ساندي لم تكن تملك أيّ مال هي الأخرى، لكنّها أكّدَت لي أنّ بإمكاننا إيقاف سيّارة على الطريق، فالناس لطفاء في تلك المناطق. لكنّ الوقت كان متأخّرًا جدًّا، ووقفنا حوالي الساعة على حافة الطريق مِن دون أن تمرّ سيّارة واحدة. خفنا أن يكتشف أحد غيابنا وأن تتصل السيّدة بالشرطة، لِذا ركبنا بأوّل مركبة مرَّت بالقرب منّا. جلَسَت ساندي في المقدّمة وأنا في الخلف.
طلَبنا مِن السائق أن يوصلنا إلى العاصمة حيث هي سفارتنا. قَبِلَ الرجل بسرور، واتّضحَ لنا أنّه يعمل كسائق أجرة في فترة الليل. ثمّ سألَنا ماذا نفعل على الطريق بوقت كهذا، فقلتُ له إنّنا هربنا مِن سيّدة شرّيرة. حاولَت ساندي منعي مِن الكلام لكنّني كنتُ بحاجة إلى إخبار أحد بمأساتنا.
لكنّ السائق أخَذَ منعطفًا أدخلَنا إلى منطقة نائية وأوقَفَ سيّارته. ثمّ سألَنا إن كنّا نملك المال اللازم لتسديد ثمن التوصيلة، فقلنا له إنّنا سندفع حالما نصل إلى السفارة، إن كانت قد فتحَت أبوابها، أو خلال النهار.
لكنّ الرّجل بدأ يصرخ ويُهدّد، وأرادَ تركنا في تلك البقعة المجهولة والمخيفة. توسّلنا إليه ألا يفعل، وبدأتُ بالبكاء لكثرة خوفي وحيرتي. فقد بدَت لي حياتي بائسة جدًّا وميؤوس منها، وتمنَّيتُ أن تنتهي مشاكلي إلى الأبد. لكنّني لم أتوقّع ما كان سيحصل بعد دقائق. فعندما رأى الرجل مدى حاجتنا للوصول إلى العاصمة قال لنا:
ـ حسنًا، لكن بشرط واحد: أريد ممارسة الجنس مع إحدكنّ وإلا تركتُكما هنا وجلبتُ لكما الشرطة.
صرخنا بأعلى صوتنا وفتحتُ الباب بسرعة وخرجتُ مِن السيّارة، لكنّ ساندي بقيَت جالسة. فتحتُ بابها وأمسكتُها بذراعها إلا أنّها قالَت:
ـ إذهبي إلى خلف تلك الأشجار وانتظريني هناك... لن يطول الأمر.
ـ هل فقدتِ عقلكِ؟!؟ تعالي معي! سنمشي حتى العاصمة.
ـ لن نصل في الوقت المناسب، فالسيّدة ستكتشف هروبنا بعد قليل، وستتصل بالشرطة التي ستجدُنا بسرعة وتزجُّنا في السجن. وهذا الوغد لن يتراجع عن التبليغ عنّا هو الآخر. إسمعي... أنا سيّدة متزوّجة أمّا أنتِ فلا تزالين عزباء... الأمر أسهل عليّ. هيّا، إذهبي خلف الشجر وسأناديكِ حالما ننتهي. إفعلي ما أقوله لكِ!
شعرتُ بالغضب والحزن والحيرة. كنتُ السّبب بالذي يحصل، وندمتُ لأنّني لم أبقَ في ذلك المنزل. فالذي كنتُ سأمرّ به لم يكن شيئًا أمام تضحية ساندي. بدأتُ بالبكاء، وتراجعتُ ببطء بينما بدأ السّائق بخلع سرواله. لم تبكِ ساندي، بل بقيَت تبتسم لي إلى أن غبتُ عن نظرها. إختبأتُ خلف الشجر وسدَدتُ أذنيَّ وبدأتُ أصلّي بكلّ قوّتي.
بعد دقائق سمعتُ بوق السيّارة فركضتُ لأرى صديقتي. كانت المسكينة صامتة تنظر أمامها وعلى وجهها ملامح الإشمئزاز العميق.
ركبتُ السيّارة ووضعتُ يدي على كتف ساندي، وقادَ بنا الرّجل لساعات حتى وصلنا العاصمة. نزلنا أمام مقرّ سفارتنا واختفى السّائق. لم نتبادل الكلام، بل جلستُ وساندي على سلالم السفارة ننتظر موعد بدء العمل، ممسكتَين بيدَي بعضنا. حاولتُ التكلّم مع ساندي إلا أنّها أومأت لي بألا أفعل، لكنّني تمتمتُ لها: "أنا آسفة".
دخَلنا السفارة مع قدوم الموظّفين، وشرَحنا لهم ظروف هروبنا وهم وعدونا بالتحرّي عن الموضوع، وأكّدوا لنا أنّنا بأمان على أرض السفارة وأنّ لا أحد يُمكنُه المسّ بنا، على الأقل ليس قبل أن تُرفع شكوى ضدّنا.
لكنّ الشكوى لم تأتِ، فقد خافَت السيّدة حتمًا مِن تداعيات الأمر على سمعتها وفضّلَت تركنا وشأننا. إستعَدنا جواز سفرنا مِن المكتب الذي حاوَلَ إبقاءنا في البلد لاستغلالنا مرّة أخرى. فالجدير بالذكر أنّهم كانوا على علم بسوء معاملة السيّدة لعاملاتها لكنّهم بقوا يُزوّدونها بالمزيد.
صعدنا الطائرة التي كانت ستقلّنا إلى بلادنا، وعندما جلسنا على مقاعدنا قرّرَت ساندي أخيرًا التكلّم بالذي حصل في تلك الليلة الرهيبة:
ـ لا أريد شكركِ بل فقط صمتكِ.
ـ لن أشكركِ كفاية يا صديقتي، وصمتي هو أقلّ ما يُمكنُني فعله مِن أجلكِ... لقد ضحَّيتِ بنفسكِ لتحافظي على شرفي مع أنّني كنتُ السبب.
ـ لا، بل فعلتُ الصواب بالهروب معكِ، وكان يجدر بي ترك ذلك البيت اللعين منذ سنوات إلا أنّني لا أمتلكُ شجاعتكِ. لقد صادفنا رجلاً مجرّدًا مِن الإنسانيّة، لكن كان مِن الممكن أن نلتقي بآخر أكثر طيبة، فلستِ مذنبة بل كان حظّنا سيئًّا. لن أقدر أن أصف شعوري حيال الذي حصل لي، لكن فكرة أنّني جنّبتُكِ هذه المصيبة تكفي لتعزيتي. مع الوقت، سأنسى هذه التجربة القبيحة وأعتبرُها تضحية مِن أجل أخت أو إبنة.
ـ ما مِن أحد كان ليفعل ما فعلتِه يا ساندي، أنتِ سيّدة رائعة بكل ما للكلمة مِن معنى. هل تسمحين لي بأن أبقى على تواصل معكِ؟
وصلنا البلد وعادَت كلّ منّا إلى عائلتها وإلى فقرها. إتّصلتُ بساندي بضع مرّات، ومِن ثمّ انقطَعت أخبارها حين سافرَت مِن جديد بحثًا عن العمل.
أظنّ أنّها لم تكن تريد تذكّر ما حصل، وفضّلَت الإبتعاد عنّي وعن كلّ ما يُعيدُ إلى ذاكرتها تلك الحادثة الأليمة.
أمّا أنا، فبقيتُ حيث أنا إلى أن تزوّجتُ وأخذَني زوجي إلى بلد حيث الناس أرحم. ولا يمرّ يوم مِن دون أن أتذكّر ساندي وأشكرُها في قلبي وأذكرُها بصلواتي.
حاورتها بولا جهشان