وافقتُ أخيرًا على زيارة أبي حيث يسكن مع زوجته، بعد مُقاطعة دامَت سنوات عديدة، وبعد أن توفّيَت أمّي. فكنتُ قد أقسَمتُ على عدَم رؤيته طالما هي على قَيد الحياة احترامًا لها ولِمُعاناتها معه. فوالدي لَم يكن رجُلاً صالِحًا على الاطلاق، بل العكس. هو فضَّلَ على أمّي وعلينا شهواته التي كانت مِن غير حدود. أحبَّ أبي النساء لدرجة لا توصَف، كلّ النساء ما عدا زوجته وأمّ أولاده. وهو بقيَ يستعملُ أمّي كطاهية ومُدبّرة منزل وجليسة أطفال، إلى حين وقَعَ أخيرًا بحبّ إحدى عشيقاته وقرَّرَ الزواج منها وتركنا. للحقيقة، شعَرنا بارتياح كبير لدى مُغادرته المنزل وأمِلنا ألا يعودَ أبدًا. وعلى مرّ السنوات تزوّجنا وأنجَبنا وعامَلنا أمّنا جيّدًا، إلى أن مرضَت وماتَت. قرّرتُ حينها أن أبلِغَ أبي بموت زوجته الأولى وطلَب الرحمة لنفسها، وانتهى الحديث الذي تبادَلناه خطّيًّا.
لكن بعد فترة قصيرة، تفاجأتُ بوالدي يتّصل بي هاتفيًّا وتردّدتُ للإجابة، فلَم أسمَع صوته مذ كنتُ صغيرة، فانتابَني الخوف. إلا أنّني أجَبتُ، ربّما لأثبتَ لنفسي أنّ ما جرى آنذاك لَم يعُد يؤثِّر بي. سألتُه على الفور عمّا يُريد، وبنبرة صوت جدّيّة وخالية مِن أيّة عاطفة، وهو قال: "أُريدُ التحدّث معكِ... فأنتِ ابنتي البكر ولطالما كان لكِ مكانة خاصّة في قلبي". أردتُ الصراخ عليه بسبب ما قاله، فأيّة مكانة يتحدّث عنها؟ ألَم يتركني، أنا ابنته البكر، مِن دون أن يودّعني حتّى؟ هل هو حاوَلَ ولو مرّة الاتصال بي أو السؤال عنّي وعن أحوالي؟ يا للماكِر الحقير! علِمتُ طبعًا أنّ هناك سببًا وراء مُحاولَة تقرّبه منّي، ولَم أكن واثِقة مِن أنّني أريدُ معرفة ذلك السبب. لكنّه تابَعَ:
ـ أودّ التعرّف على أحفادي.
ـ تعرَّف أوّلاً على أولادكَ! ماذا تعرفُ عنّا؟ أنا الوحيدة بين أخوَتي مَن بمقدورها تذكّركَ. هل سألتَ عنّا بينما كنّا نكبر؟
ـ بعثتُ لكم المال اللازم.
ـ تبًا لمالكَ!
ـ أنا أبوكِ ولا يجدرُ بكِ التكلّم معي هكذا!
ـ بالنسبة لي ولجميع اخوَتي، ماتَ أبونا يوم تركَنا مِن أجل إحدى عشيقاته. بالمُناسبة، ماذا تملك زوجتكَ الحاليّة مِن مزايا إفتقدَتها أمّي؟
ـ للحقيقة، لا شيء... هي كانت فقط... كيف أقولُ ذلك... أكثر إثارة. لن تفهمي ما أقصد.
ـ بل أفهم تمامًا! أنا امرأة مُتزوّجة وتلك الأمور ليست غريبة عنّي. أفهمُ أنّ عشيقتكَ، بمُجرّد أنّها أكثر إثارة مِن أمّنا، حملَتكَ على تركنا جميعًا. برافو! أتعلَم شيئًا؟ إنّكَ بالفعل مقزِّز للنفس! والآن تُريدُ التعرّف على أحفادكَ، بعد أن ماتَت أمّنا وبعد أن...
ـ بعد ماذا؟
ـ بعد أن صِرتَ رجُلاً كبيرًا في السنّ.
ـ أنا مريض... أو بالأحرى أموتُ... سرطان في الكبد... أُريد منكِ المُسامحة ورؤية أحفادي، فأنا أعلَم أنّ أولادي لن يكترِثوا لمصيري. لا ترفضي طلَبي، فأنا أموت! لا تفعلي ذلك مِن أجلي بل مِن أجل روحكِ، فالله أوصاكِ بإكرام والدَيكِ.
أقفلتُ الخط غير عالِمة بما سيكون قراري، فمِن جانب كنتُ أكرهُ ذلك الرجُل الوضيع، ومِن جانب آخَر هو كان على حقّ بالنسبة لإكرامه حتّى لو كان سافِلاً قذِرًا. يا إلهي... لو كانت أمّي على قَيد الحياة لنصحَتني ووجّهَتني! إستشَرتُ اخوَتي فرفضوا جميعًا التعاطي مِن قريب أو بعيد مع أبيهم، ووجدتُ نفسي وحيدة أمام خياري أيًّا كان. هاجسي الأكبَر، إلى جانب اللقاء بأب بالكاد أتذكّره، هو رؤية زوجته سامية، الأفعى التي استطاعَت أخذه منّا بعد أن كانت عشيقته. كيف لها أن تحرم أطفالاً مِن والدهم وتعيشُ بسلام وتنام بهناء؟ لا! لن أذهَب إلى هناك!
إلا أنّ اتّصالات والدي كثُرَت وكذلك توسّله، فكان وضعه الصحّيّ يتدهوَر يومًا بعد يوم. إضافة إلى ذلك، سمِعَني أولادي أتكلّم مع أبيهم عن الموضوع، فصاروا مُصرّين على التعرّف على جدّهم الذي لَم يسمعوا عنه سوى كلمات خاطِفة ومُبهمة. لِذا قال لي زوجي إن عليّ رؤية العجوز ولو مرّة، فذلك سيكون بمثابة علاج نفسيّ لي، وفي آن واحِد فرصة لأولادنا للتعرّف على جدّهم كَي لا يقولوا لنا إنّنا كنّا السبب بإبعادهم عنه. لكنّه رفَضَ مُرافقتي، فتلك كانت أمور عائليّة لا دَخل له بها.
قرَعتُ باب منزل أبي ويدي ترتجِف، وهو فتَحَ لي ونظَرَ إليّ باندهاش، وامتلأت عَيناه بالدموع. لَم أتأثّر أبدًا بالأمر، فهو كان بمثابة رجُل غريب بالنسبة لي، رجُل غريب سبَّبَ لنا الأذى لمدّة طويلة. عانَقَه أولادي ونادوه "جدّو"، الأمر الذي حمَله على الابتسامة والامتنان لي.
جلَسنا جميعًا بالصالون ولَم أرَ سامية، فسألتُه عنها وهو أجابَ: "هي في المطبخ، أين تُريدينها أن تكون؟"، ثمّ ناداها عاليًا وسمعتُ صوت أقدامها وهي تركضُ إلى الصالون.
وقفَت أمامنا سيّدة في العقد الخامس مِن عمرها، فنظَرتُ إليها بتركيز لأرى كيف تكون سارقات الرجال، إلا أنّني وجدتُها عاديّة الملامح والقوام، لا بل هزيلة وخجولة وبالكاد نظرَت إلينا. وتابَعَ زوجها: "هيّا، إلقي التحيّة على ابنتي وأولادها"، فاقتربَت منّا لتُصافِحنا الواحِد تلوَ الآخَر. بقيَت سامية واقِفة إلى حين قال لها أبي: "يُمكنُكِ الجلوس معنا إن لَم يكن لدَيكِ أعمال في المطبخ... لكن أظنّ أنّ قالب الحلوى الذي تُعدّينه لضيوفنا لَم يجهز بعد... أليس كذلك؟". أومَأت المرأة برأسها وركضَت إلى المطبخ. سمِعنا أصوات أوانٍ وحركة سريعة داخل المطبخ وفهمِتُ أنّني أخطأتُ الظنّ بسامية. فالتي رأيتُها لَم تكن سارِقة رجال، بل امرأة مكسورة مِن قِبَل زوج طاغٍ. وأعترِفُ أنّني حزِنتُ مِن أجلها وفرِحتُ لأمّي لأنّها لَم تكبُر مع هكذا رجُل.
جاءَت سامية بقالِب الحلوى الذي كان بالفعل لذيذًا فشكرتُها عليه، ثمّ هي غابَت مُجدّدًا مِن دون أن تجلس معنا أو تأكل مِمّا حضّرَته. سألتُ أبي عنها وهو قال:
ـ إنّها امرأة جيّدة، فهي تُجيدُ الاهتمام بالمنزل، كما ترَين.
ـ وماذا عن حالتكَ الصحّيّة؟ قلتَ لي إنّكَ مُصاب بداء السرطان.
ـ أجل، أجل... أيّامي معدودة للأسف... وأردتُ تصحيح أخطائي قبل أن أرحَل.
وبدأ والدي بسَرد مسيرته مع المرَض بصورة مُطوّلة، وانتظرتُ أن ينتهي مِن الكلام لأدخل الحمّام قبل أن نرحَل، فطريق العودة كان طويلاً. توجّهتُ إلى الرواق الفاصل بين الحمام وغُرَف النوم كما أشارَ لي أبي، وإذ بسامية تسحبُني مِن ذراعي إلى داخل إحدى الغُرَف واضعة أصبعها على فمها وكأنّها تقولُ لي إنّ عليّ التزام الصمت. ثمّ قالَت لي هامسةً:
ـ لا تُصدّقيه... هو ليس مريضًا، بل أنا.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، فصحّته مُمتازة! إنّه يُمثِّل دور المريض أمامكم... أنا المُصابة بالسرطان وهو يرفضُ صرف قرش واحد عليّ. لكن عندما اجتمَع إخوَتي معه وهدّدوه، خطَرَ بباله الاتّصال بكم لحملكم على دفع ثمَن العلاج.
ـ أمرٌ لا يُصدَّق!
ـ ها هي نتائج تحاليلي المخبريّة، أنظري! لقد حضّرتُها حين علِمتُ بمجيئكم.
ـ لماذا تقولين لي الحقيقة، ألا تُريدين أن تُعالَجي؟
ـ بلى ولا... لا أحَد يُحبّ أن يموت لكنّ حياتي معه هي بمثابة جحيم يوميّ... ولن أُحمِّل ضميري بالنصب على الناس، فلَم أتربَّ هكذا. آه... يا لَيتني لَم ألتقِ به على الاطلاق! لَم أكن أعلَم في بادئ الأمر أنّه مُتزوّج ولدَيه أطفال، بل هو أكّدَ لي أنّه عازب... لكن قبل موعد زواجنا بأيّام، صرَّحَ لي بوضعه وكنتُ قد وقعتُ في حبّه، ناهيكِ عن فضيحتي بين الناس.
ـ لَم أكن أعرفُ ذلك بل حسِبتُ...
ـ أجل، الكلّ اتّهمَني بأنّني دمّرتُ عائلة، وتمنّيتُ لو أستطيع شَرح ما حصَل لأيّ منكم، والآن جاءَت الفرصة المُناسبة. كَم أّنّه بغيض! فهو لا يُفكّر سوى بنفسه ويُعاملُني وكأنّني خادِمة لدَيه. تصوّري أنّه حرمَني مِن الإنجاب فقط لأكون تحت تصرّفه على مدار الساعة. أردتُ تطليقه، إلا أنّ إخوَتي منعوني مِن ذلك ووعَدوني بالتبرّؤ منّي، فبقيتُ مع ذلك الوحش. إرحلي أرجوكِ وانسي أنّكِ جئتِ إلى هنا يومًا.
ـ أريدُ مُساعدتكِ يا سامية...
ـ إرحلي، فهو قد يشكّ بشيء لو تأخّرتِ، هيّا!
عدتُ إلى الصالون وتابعتُ حديثي مع أبي بشكل طبيعيّ... إلى حين هو فتَحَ موضوع علاجه وقال إنّه لا يملكُ المال الكافي، فسيموت قريبًا. عندها أجبتُه:
ـ حسنًا يا أبي... أعطِني نتائج الفحوصات لأريها لصديق زوجي، فهو طبيب مُختصّ.
ـ لدَيّ طبيب... ما أحتاج إليه هو المال... المال لأتمكّن مِن العَيش قليلاً وأستمتِع برؤية أحفادي الأحبّاء... كَم أنّكم جميلون... ألا تُريدوني أن أعيشَ سنة أو اثنتَين؟
ـ أبي... دع أولادي جانبًا... أعطِني نتائج فحوصاتكَ وحسب.
ـ أرى أنّكِ لا تُصدّقيني... لَم أتصوّر ذلك مُمكنًا... ربّما مِن الأفضل أن أموتَ في أقرَب وقت.
ـ أعطِني ما أطلبه منكَ وستنال أفضل علاج.
ـ عودي بعد أسبوع.
ـ بل الآن.
ـ ستكونين سبَبَ موتي! أتسمعَون أيّها الأولاد؟!؟ أمّكم قتلَتني!
عندها أخذتُ أولادي ورحلتُ مِن دون أن أودّع النصّاب. وحين صرنا في السيّارة، شرحتُ لهم حقيقة الوضع كَي لا يظنّوا أنّني أرفضُ مُساعدة والدي.
بقيَ أبي يتّصلُ بي يوميًّا ليحصل على المال، إلى أن ملّ وفهِمَ أنّني لن أدفَع.
حاولتُ مُساعدة سامية مادّيًّا عن طريق معارف مُشتركة، إلا أنّها رفضَت بتهذيب، فتلك المرأة لَم تكن تُريدُ أن تعيش بل أن تموت لتتخلّص مِن مُعذِّبها بصورة دائمة. حزِنتُ كثيرًا عليها وصلّيتُ مِن أجلها لأنّها كانت، شأن أمّي، ضحيّة وقعَت بين مخالب مُفترِس أنانيّ.
أخَذَ الله أبي بعد حوالي الثلاثة أشهر مِن زيارتي له، وبعد أن أٌصيبَ بأزمة قلبيّة. حضَرتُ مراسم الدفن فقط لأُقنِعَ سامية بقبول عرضي بعدما اختفى الطاغي مِن الوجود. للحقيقة، إعتبرتُها بمثابة أمّي وهي شعرَت وكأنّني ابنتها. قبِلَت سامية أخيرًا أن أتكفّل واخوَتي بتكاليف علاجها، بعد أن أخبرتُهم قصّتها وأقنعتُهم بمدّ يَد العون لها.
لحسن حظّها، كان مرَض سامية لا يزال في بدايته، وكانت الجلسات الكيميائيّة قليلة وكذلك الأشعّة، فسارَت على درب الشفاء بسرعة.
اليوم تعافَت سامية تمامًا بعد خمس سنوات مِن دون وجود أيّ خليّة سرطانيّة لدَيها... وتعرّفَت على رجُل صالِح حين كانت تذهَب لتلقّي علاجها... وفرَحها بعد أشهر قليلة!
حاورتها بولا جهشان