يا لَيتني لَم أُسافِر وأترك إبنتي سامية مع أهلي! لكنّني كنتُ مضطرّة إلى ذلك بعدما جاءَتني فرصة ذهبيّة: العمل في أوروبا في مطعم عريق. فالحقيقة أنّني كنتُ قد دخلتُ معهدًا لدراسة الفندقيّة حيث تخرّجتُ بامتياز. وبعد نَيل شهادتي، عمِلتُ في مطاعم عدّة واكتسَبتُ خبرة جيّدة، إلى حين إتّصَلَ بي مديري القديم ليطلبَ منّي العمل في مطعمه الجديد الذي سيفتتحُه في باريس.
كانت سامية آنذاك في الثالثة عشرة مِن عمرها، ولَم أشأ أخذها معي قبل أن أتأكّد مِن بقائي في فرنسا، ناهيك عن عدَم رغبتي في إبعادها عن رفاقها ومحيطها بصورة مُفاجئة. كنتُ أنوي طبعًا زيارة بلدي كلّ ثلاثة أشهر، فابنتي هي كلّ ما لدَيّ بعد موت أبيها الذي رحَلَ باكرًا وتركَنا نتدبّر أمرنا بنفسنا. ساعَدَني أهلي قدر المُستطاع، إلا أنّهم لَم يكونوا أثرياء، بل حالتهم تُشبه حالتي. وعدوني بالإهتمام جيّدًا بابنتي، آملين أن تتحسّن أحوالي وأحوالهم بأقرب وقت.
سعِدتُ بأن أكون فردًا مِن مؤسّسي المطعم، فالعمَل مِن الصفر له طعم خاص. كان المكان جميلاً ومُجهّزًا بأحدث المعدّات وموقعه ممتاز سياحيًّا، وارتحتُ للعمل مع باقي أعضاء الفريق.
لكن السفَر وتَرك المطعم لَم يكن سهلاً، فتلك المرحلة كانت الأهم. لِذا لَم أرَ إبنتي أو أهلي إلا بعد حوالي السنة بقيتُ خلالها على اتّصال يوميّ بهم. وحين رأيتُهم شخصيًّا، كان اللقاء حارًّا طبعًا.
مكثتُ في البلد عشرة أيّام وعدتُ إلى باريس باكية. كنتُ قد وعدتُ سامية بأنّ فراقنا لن يطول، وأنّها ستلحقُ بي حين أتمكّن مِن جلبها وأنّ عليها التسلّح بالصبر، وهي أكّدَت لي أنّها تتفهّم ظروفي ودعَت لي بالتوفيق. فرحتُ لسماع ذلك لأنّه دلَّ على نضوج إبنتي، فكنتُ قد تركتُها مراهقة مزاجيّة وإذ بي أجدُها بعد سنة صبيّة عاقلة.
إستأنفتُ عملي وشيء واحد في ذهني: تدبير أموري لأؤمِّن لِسامية مكانًا يليقُ بها في العاصمة الفرنسيّة الباهظة. لِذا عمِلتُ ليلاً نهارًا وامتنعَتُ عن صرف أيّ قرش لا لزوم له. وبعد سنة أخرى، إستطعتُ السفر لأزفّ لابنتي الخبر السار وهو أنّها ستعود معي إلى فرنسا!
لكنّني تفاجأتُ بِرفضها القاطع، مع أنّها لطالما حلِمَت بذلك البلد الجميل والراقي، حيث يُعامَل الإنسان بِكرامة ويحصل على حقوقه كاملة. كانت سامية قد بدَّلَت رأيها، الأمر الذي لَم يكن يُناسبُني أبدًا، فلَم أكن أنوي قضاء حياتي بالذهاب والإياب، ناهيك عن رغبتي بالعَيش مع إبنتي وليس مِن دونها.
حاولتُ معرفة سبب موقفها، لكنّني تفاجأتُ بِصمت مُريب. عندها رحتُ أسأل أهلي الذين واكبوها يوميًّا منذ رحيلي. هم أيضًا لم يستطيعوا إعطائي مُبررًا مُقنعًا. وشعرتُ أنّ هناك سرًّا في الموضوع، فهذا السكوت الجماعيّ كان يُخبّئ أمرًا لا يُنذر بالخير.
قرّرتُ التحرّي عن إبنتي، لذلك إدّعَيتُ أنّني موافقة على بقائها، وأخذتُ أُراقبُ سامية عن كثَب وألحقُها خفيةً أينما ذهبَت.
أوّل شيء إكتشفتُه، هو أنّها تقضي وقتًا طويلاً على الهاتف، وتأخذُه إلى غرفتها أثناء وجودي معها في المكان نفسه. وبما أنّني كنتُ يومًا بسنّها وكانت لي أسرار، فهمتُ أنّ لِسامية صديقًا أو حبيبًا، مع أنّها كانت لا تزال في الخامسة عشرة فقط.
مُلاحقتي لها جاءَت بِنتائج مُرضية مِن حيث تأكيد شكوكي، لكن مُحزنة لجهة معرفتي بأنّ ابنتي لا تذهبُ يوميًّا إلى المدرسة بل تتظاهرُ بذلك. فهي تنزلُ مِن الباص المدرسيّ أمام المدرسة، لكنّها تعودُ أدراجها وتصعدُ بباص آخر يقودُها إلى قلب المدينة. أضَعتُ أثرها لكثرة الزحمة، لِذا قرّرتُ إنتظارها في المرّة القادمة ليس أمام المدرسة بل في الشارع المُكتظّ الذي تترجّلُ فيه.
طيلة فترة تحرّياتي بقيَ أهلي يتصرّفون معي على طبيعتهم، أي كأيّ أهل فرحين بوجود إبنتهم بينهم. لكنّهم سألوني مرارًا أين أذهبُ صباحًا، فاخترَعتُ لهم حججًا لَم أعرف إن كانت قد أقنعَتهم. لَم نتناول أبدًا موضوع سامية والسفر، وتصرَّفتُ وكأنّني لَم أعد أريدُ أخذها معي. شيء واحد في داخلي قال لي إنّ لِعائلتي دخلاً بما يجري.
واستطعتُ أخيرًا معرفة أين تذهب سامية عندما تهربُ مِن المدرسة! ففي ذلك اليوم رأيتُها تدخلُ مكانًا لبيَع المجوهرات وبقيَت هناك ساعات طويلة. كنتُ أنتظرُ في مقهى مُقابل، وأسفتُ لأنّ تكون إبنتي تُهمِل دراستها للعمَل وجني المال في سنّ مُبكر. لَم أفَهم دوافعها، فكنتُ أبعثُ لها المال الكافي مِن فرنسا وباليورو، وهي لَم تكن بحاجة إلى مال اضافيّ لتتعلّم وتشتري الملابس وكلّ ما تحتاجُ إليه. هل كانت علاماتها في المدرسة هي السبب؟ كنتُ أعرفُ أنّها فالحة، ولكن هل كذبوا عليّ جميعًا؟ خرجَت سامية أخيرًا مِن محلّ المجوهرات واتّجهَت نحو موقف الباص. خطَرَ بِبالي أنّ أُفاجئها لكنّني عدَلتُ عن قراري. كان مِن الأفضل أن أتكلّم معها حين نكون في البيت، وفضّلتُ قصد ذلك المحلّ والتحدّث مع أصحابه.
فحين صعدَت إبنتي في الباص وغابَ عن نظَري، دخلتُ محلّ المجوهرات. هناك رأيتُ صبيّة أنيقة إستقبلَتني وكأنّني زبونة. أوقفتُها عن الكلام وطلبتُ رؤية مدير أو مالك المحل. أشارَت لي الصبيّة بأنّه وراء الباب الموجود في آخر المحل، وطلبَت منّي الإنتظار ريثما تُخبره بنيّتي رؤيته. لكنّني لَم أنتظر، بل كنتُ على عجلة مِن معرفة تفاصيل عمَل ابنتي لدَيه، والعودة إلى البيت لإقناع سامية بالرجوع إلى دراستها.
فتحتُ باب ما ظننتُه مكتبًا، وإذ بي أتفاجأ بأنّه غرفة نوم وسطها سرير كبير للغاية ورجل مُلقىً عليه وكأنّه نائم. شعرتُ بالحرَج لأنّني دخلتُ مكانًا لا دَخل لي فيه. وحين كنتُ أنوي الخروج، لفَتني شيء جعَلَ قلبي يدقّ بسرعة: ربطة شعر إبنتي على منضدة السرير. وقفتُ لِثوانٍ أستعيدُ برأسي مشهد خروج سامية مِن المحل وصعودها بالباص: أجل، كان شعرها مسدولاً على كتفَيها، على عكس ما كان عليه حين خرجَت صباحًا مِن البيت ودخلَت محلّ المجوهرات.
وانتابَني غضبٌ لا مثيل له! كانت إبنتي في تلك الغرفة بالذات وعلى ذلك السرير ومع... ذلك العجوز المُقرف! ركضتُ نحو الرجل النائم وأمسكتُه بِكتفَيه وهزَزَتُه بكل قوايَ صارخةً به: أيّها المُجرم! أيّها المُقرف! ماذا فعلتَ بِصغيرتي؟!؟
إستفاقَ الرجل مذعورًا وبدأَ هو الآخر بالصراخ لكن مِن شدّة خوفه. دخلَت الصبيّة الغرفة، فاستدَرتُ نحوها وسألتُها بِغضب شديد:
ـ هل كانت سامية موجودة في هذه الغرفة؟!؟
ـ لستُ أدري... أقصد... لا أستطيع...
ـ أجيبي وإلا سجنتُكِ!!!
حاوَلَ صاحب المحل إسكات موظّفته بِحركات وجهه، إلا أنّ ذكري للسجن أخافَ الصبيّة فأجابَت:
ـ أجل، أجل. هي تأتي شبه يوميًّا وتقضي مع السيّد ساعات هنا، وتخرجُ ومعها الحلى. إنّها ساقطة! ساقطة!
لدى سماعي هذه الكلمات الشنيعة، إستوعبتُ أنّ إبنتي تفعلُ ما تفعلُه بإرادتها ومِن أجل الذهب والماس. إلى أيّ مدى كان الرجل مُذنبًا؟ لَم أكن أعلَم بعد، لِذا تركتُ كتفَيه ووعدتُه بالرجوع مع الشرطة لأنّ إبنتي قاصرة. وركضتُ خارجًا أبكي مِن كلّ قلبي.
عندما دخلتُ البيت لَم تكن سامية قد عادَت بعد، ووجدتُ والدتي في المطبخ تُغسل الأواني. أقفلتُ باب المطبخ ورائي وقلتُ لها:
ـ ماما... سامية لا تذهبُ إلى المدرسة كلّ يوم، بل إلى مكان آخر.
ـ ما هذا الهراء! إنّكِ تتصوّرين أمورًا لا وجود لها.
ـ بل تذهب إلى محل للمجوهرات.
سقَطَ الوعاء مِن بين يدَي والدتي وبدأَت شفتاها ترتجفان. عندها تأكّدتُ مِن أنّها على علم بما يحصل. ومرّة أخرى أخذتُ أصرخُ بِغضب:
ـ تعلَمين أنّ حفيدتكِ تُمارسُ البغاء وترضَين بذلك؟!؟ ماذا حصَلَ لكِ يا أمّي، ماذا حصَلَ لكم جميعًا؟
ـ هذا ليس بغاءً... بل تُصادقُ سامية أحدًا ما.
ـ تُصادقُه في غرفة النوم؟!؟
ـ إسمعي! كفّي صراخًا ولِنتكلّم! الفتاة إختارَت ذلك الرجل وهي سعيدة معه. كان بإمكانه طبعًا أن يكون شخصًا أكثر شبابًا، لكن كان بإمكانه أيضًأ أن يكون فقيرًا. أيّهما أفضل؟
ـ ما هذا المنطق؟!؟ إبنتي تبيعُ جسدها مُقابل الحلى وهذا بغاء! هل كنتِ لِتسمحي لي ولو بِمواعدة أحد حين كنتُ بسنّها؟ كان ممنوعًا عليّ التكلّم مع شاب حتى على الهاتف!
ـ لقد تغيّرَت الأيّام... وابنتكِ ليست صغيرة، بل هي جميلة للغاية وألف رجل مُستعدّ لتنفيذ جميع رغباتها.
ـ إنّها في الخامسة عشرة! ما بالكِ؟ هل فقدتِ عقلكِ؟!؟ آه! فهمتُ الآن! إنّكِ وغيركِ تستفيدون مِن الذي تجنيه سامية! ما بكِ لا تردّين؟؟؟ أجيبي!
ـ الذنب ذنبُكِ... تركتِها ورحلتِ.
ـ بل تركتُها مع أهلي! مع الذين أثقُ بهم وربّوني على احترام القيَم والدين! لقد رحلتُ لأؤمِّن لإبنتي مُستقبلاً أفضل بعد أن ماتَ والدها! الذنبُ ليس ذنبي! لقد حوّلتم فتاة بريئة إلى مومس! سينتقمُ منكم الله!
خرجتُ مِن المطبخ، وركضتُ إلى غرفة إبنتي حيث حضّرتُ لها حقيبة وانتظرتُ عودتها. عندها قلتُ لها:
ـ إكتشفتُ سرّكِ... ستعودين اليوم معي إلى باريس وإلا...
ـ وإلا ماذا؟
ـ وإلا سجنتُ عشيقكِ. نعم، أستطيعُ سجنه ولوقت طويل لأنّكِ قاصر. وأستطيع سجن جدّتكِ وأخوالكِ أيضًا.
ـ لن تفعلي ذلك!
ـ جرّبيني!
ونظرتُ إليها نظرة شرسة وهي علِمَت حينها أنّني جادّة للغاية. وفي المساء نفسه طرنا إلى فرنسا مِن دون أن نودّع أحدًا. هناك، أخذتُ سامية إلى أخصّائيّة نفسيّة التي شرحَت لها تداعيات ما فعلَته بنفسها. ثمّ أدخلتُها مدرسة جيّدة وصارَ لها رفاق مِن سنّها. وحين عرّفَتني إبنتي على صديقها الجديد، إبتسمتُ لها لأنّهما كانا فعلاً يعيشان سنّهما، وشعرتُ بتلك البراءة وهي تلمَع في عَينيَهما. كانت سامية قد وضَعت وراءها الجنون الذي انتابَها وأهلي، وعادَت إلى طبيعتها، أي مُراهقة كباقي المُراهقات.
لَم أعُد إلى البلد حتى اليوم وأكتفي بإرسال بعض المال لِذويّ. لا أعرفُ إن كنتُ قادرة على رؤية أيّ منهم، فالذي فعلوه بالأمانة الغالية التي تركتُها بين أيديهم لا يُغتفَر.
حاورتها بولا جهشان