بيتنا الطاهر (الجزء الثاني)

صحيحٌ أنّني كنتُ قد حضرتُ بالخفاء "حفلات" والدَيَّ، وعلِمتُ بأنّ ما يجري بعد العشاء هو سيّئ وغير أخلاقيّ ومُقزّز، إلا أنّني لِصغر عمري لَم أفهم تمامًا معناه. ولكنّني فهمتُ ما كانت تقصدُه المُدرِّسة وسبب غضبها ومُعاداتها لِما يحصل. بقيتُ غاضبة منها لمُعاملتها لي أثناء العام الدراسيّ الفائت وتدخّلها في حياتنا الشخصيّة. لكنّ شيئًا بداخلي قد تغيَّرَ إلى الأبد، بدءاً بنظرَتي إلى أبويَّ، إذ لَم أعُد أراهما كما صوّرا نفسَيهما لي، أو كما كنتُ قد سمعتُ عنهما مِن جهة الأخلاق والحبّ العظيم، لا بل صارا شخصَين أريدُ الإبتعاد عنهما قدر المُستطاع.

وفي تلك الفترة، أي خلال الفرصة الصيفيّة، تتالَت "الحفلات" وبقيتُ أبصقُ دواء السعال وأختبئ لأرى ما يحدثُ، إلى أن صرتُ أعرفُ عن ظهر قلب كلّ ما يتعلّق بالحياة الجنسيّة مِن دون أن أعلم أنّها جنسيّة.

خلال النهار، كنتُ أطلبُ مِن والدتي الإذن للذهاب إلى بيوت صديقاتي، لأنّني لَم أعد أطيقُ رؤيتها وبسمتها التي أرادَتها بريئة ومُزيّفة. وعند صديقاتي، كنتُ أروي لهنّ وبكلّ براءة ما يجري ليلاً في بيتنا. كان ذلك سرّنا وكنّ تنتظرني بفارغ الصبر لمعرفة كلّ جديد. ولكن مِن المعروف أنّ الأولاد لا يُجيدون حفظ السرّ طويلاً، وهكذا علِمَ أهلهنّ بموضوع محادثاتنا. صحيح أنّ الجميع كان يعرف ما يدور في بيتنا، إلا أنّ الأمر بقيَ حتى ذلك الحين مُبهمًا وبعيدًا عنهم. ولكن أن تأتي إبنة "الثنائيّ الفاحش" إلى عقر دارهم وتُعطي بناتهم دروسًا بالجنس... فلا!

وهكذا صارَت هناك نقمة عارمة ضدّي وضدّ والدَيَّ، ومُنعِتُ تحت أعذار شتّى مِن دخول دار أحد. حزنتُ للغاية لأنّ هذا كان يعني أنّ عليّ البقاء لوحدي في البيت طوال النهار، إلى ان تعود أمّي ومِن ثمّ أبي مِن عملَيهما، وأتحمّل حركاتهما المُبتذلة وكلامهم عن الدين والأخلاق والتقوى.

في تلك الأثناء، لَم تستسلِم المُدرّسة بل زادَت إصرارًا لإيقاف أبوَيَّ. لكنّها لَم تحسب حساب علاقتهما بأناس أقوياء، ومنهم مدير المدرسة الذي كان مِن روّاد تلك السهرات. لَم أرَه في بيتنا، ربمّا لأنّه لَم يكن يأتي بصورة دائمة، أو لأنّه كان يتخفّى أو كان يأتي قبل أن بدأتُ أحضر السهرات.

 


فعندما التجأَت المُدرّسة إلى مديرها لطلب مساعدته، وضعَت نفسها تحت المجهر وصارَت الإنسانة التي يجب التخلّص منها. لكنّ المُدير لَم يستطع طردها مِن دون سبب وجيه كي لا يلفت الأنظار إليه، فانتظرَ حتى تأتيه الفرصة المُنتظرة. علِمتُ ذلك مِن خلال مُكالمة هاتفيّة سمعتُها بينه وبين أبي الذي قال له:

 

- لا... لن يعرف أحدٌ... خصوصًا مِن خارج البلدة... مِن أين أتَت تلك الفضوليّة؟ أنتَ مديرها وعليكَ التصرّف... حسنًا... لماذا لا تأتي كما في السابق؟ هل صرتَ عجوزًا؟ ها ها ها! إنهِ مسألة المُدرّسة وأرِح قلبكَ وقلبنا. إلى اللقاء.

 

لا أدري لماذا، لكنّني شعرتُ بغضب تجاه ما كان يُحاك ضد التي كنتُ أكرهُها. هل لأنّها كانت وحيدة ضدّ مجموعة مِن أناس نسوا ما معنى الأخلاق؟ أردتُ إخبارها بالذي يُحاك ضدّها، لكنّني لَم أكن أملك الوسيلة وكنتُ لا أزال صغيرة جدًّا لهكذا مهمّة.

مرَّت الأيّام وعلِمتُ عبر الهاتف مِن إحدى صديقاتي أنّ المُدرّسة لن تأتي إلى المدرسة في السنة المُقبلة، لأنّها طُرِدَت بعد أن اكتشفَ المدير أنّها زوّرَت نتائج فحوصات آخر السنة، الأمر الذي لَم يكن طبعًا صحيحًا، فلِما تفعلُ ذلك مع تلاميذ صغار لا يُؤثّر عليهم النجاح أو الرسوب؟ أذكرُ أنّني بكيتُ في سريري، لأنّني فهمتُ أنّ الناس بلا ضمير، فقد كانت تلك أول مرّة في حياتي أعي فعلاً ما هو سواد قلب الإنسان. لَم يكن يجدر بفتاة في سنّي أن ترى وتسمع بهكذا أمور بل أن تعيش طفولة سليمة وهنيئة.

طَرد المُدرّسة أعطاها المزيد مِن الإندفاع لإكمال حملتها على أبويَّ، فلَم يعد لدَيها ما تخسره. لِذا عادَت ودقَّت بابنا. كنتُ ووالدتي لوحدنا، وفي تلك المرّة إبتسمتُ لتلك المرأة الشجاعة التي كان بإمكانها إيقاف الكابوس الذي أعيشُه. لَم تكن تريد أمّي إدخالها، لكنّ المُدرّسة أزاحَتها جانبًا ودخلَت عنوةً صالوننا حيث وقفَت وقالَت عاليًا:

 

ـ سيّدة سمَر، لقد نجَحتم بطردي لكنّكم لن توقفوني. جئتُ لأقول لكِ إنّني سأبلّغُ عنكم وأخلّص إبنتكِ والبلدة مِن قذارتكم!

 

ـ فكّري جيّدًا بالذي تقولينَه وتنوين فعله، فمعارفنا قويّة وقد تخسرين أكثر مِن وظيفتكِ!

 


ـ لستُ خائفة منكم! فالحقّ والله إلى جانبي!

 

ثمّ نظرَت المرأة إليّ وقالَت لي:

 

ـ لا تخافي يا صغيرتي، لن أتخلّى عنكِ.

 

في تلك اللحظة، شعرتُ بدفء كبير في قلبي، وعلِمتُ أنّ هذه الإنسانة هي أمَلي الوحيد لأعيش طفولة طبيعيّة. هل ستتمكّن مِن إقناع والدَيَّ بالكفّ عن الرذيلة؟

علِمتُ الجواب بعد أن عادَ أبي في المساء وأخبرَته أمّي عن زيارة المُدرّسة لنا. عندها قال والدي بنبرة جدّيّة للغاية:

 

ـ يبدو أنّ تلك المرأة لن تسكتَ إلا إذا أسكَتناها إلى الأبد.

 

ـ ماذا تعني؟ هل...

 

ـ أجل. هناك مَن بِمقدوره القيام بالمهمّة. لا تخافي، لن يعرف أحدٌ أنّ لنا دخلاً بما سيحصلُ لها. سيبدو فقط حادثًا مؤسفًا.

 

وبالرغم مِن سنّي اليافع، فهمتُ أنّ أبي ينوي حَمل أحد على قتل المُدرِّسة. بكيتُ بِصمت خلف الحائط حيث كنتُ قد اختبأتُ، وأخذتُ قرارًا أثَّرَ مُباشرةً على مجرى حياتنا جميعًا.

ففي صباح اليوم التالي، أخذتُ الهاتف وطلبتُ الشرطة لأخبرُهم بكل ما أعرفُه، مِن السهرات التي كانت تجري في بيتنا إلى التهديد الصريح الذي تفوّه به أبي بشأن المُدرِّسة. وبعد ذلك، بدأت التحقيقات التي لَم تكن سهلة بسبب خوف أهل البلدة مِن التكلّم.

لكن ما مِن شيء يبقى خفيًّا لوقت طويل، فبدأَت الألسن بالكلام. وبعد أيّام قليلة، وأثناء إقامة أبويَّ إحدى "سهراتهما"، سمعنا طرقًا قويًّا على الباب ومِن ثمّ صوتًا رهيبًا عندما خلعَه رجال الشرطة. وتمّ القبض على جميع المدعوّين بمَن فيهم أبي وأمّي والجميع عراة تمامًا. لفَّهم الشرطيّون بشراشف ومناشف وقادوهم إلى القسم. أمّا في ما خصّني، فقد أخذَتني شرطيّة بعد أن هدّأت مِن روعي ونشّفَت دموعي.

أدلَيتُ بإفادتي بعد أن أكدّوا لي أنّ لا أحد سيعرفُ يومًا أنّني التي اتّصلتُ بهم، فكنتُ خائفة جدًّا مِن ردّة فعل والدَيَّ لو علما أنّني السبب بسجنهما.

جرَت المحاكمة بسرّيّة مُطلقة، بسبب أهميّة المُتّهمين ودخلوا السجن أو دفعوا مبالغَ كبيرة حسب درجة ذنبهم. وحدهما والدَيَّ حصلا على عقوبة كبيرة، لأنّهما مَن خطّط ونفّذ تلك السّهرات في بيتهما ولأنّهما كانا ينويان التخلّص مِن المدرِّسة. وثبُتَت تهمة النيّة بالقتل بفضل شهادة الذين طُلِبَ منهم تدبير مَن يقومُ بالمهمّة.

عادَت المُدرّسة إلى وظيفتها بعد أن اختفى المدير عن الأنظار، وأنا رحتُ أعيشُ عند جدّتي التي بقيَت تُردّدُ أنّ ابنتها لا يُمكن أن تفعل أشياء رهيبة كهذه. لَم أزُر يومًا والدَيَّ في السجن، وهما لَم يسألا عنّي بعد خروجهما بل سافرا بعيدًا غير آبهَين بي. وبعد مرور حوالي عشرين سنة على تلك الحادثة، لا أعرف مكانهما.

هل أخطأتُ بالتبليغ عنهما؟ أبدًا، فهما لَم يتصرّفا يومًا كأبوَين حقيقيَّين بل فكّرا فقط بنفسَيهما وملذّاتهما. وأنا كنتُ بالنسبة لهما غطاءً إجتماعيًّا يُكمِلُ صورة العائلة الفاضلة وهي غير فاضلة.

ماتَت جدّتي وهي تُردّد أنّ ما حدَثَ لابنتها وصهرها هو ظلم، ولَم تعرف أنّني التي أدخلتُهما السجن.

عندما كبرتُ قليلاً قصَدتُ المُدرّسة وجلستُ معها مطوّلاً، وشكرتُها على شجاعتها وسعيها لإنقاذي، وهي أثنَت على كبر أخلاقي وحسّي بالواجب.

... ونحن اليوم أعزّ صديقتَين.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button