المرحوم زوجي

كرهتُه لأقصى درجة وتمنَّيتُ له الموت مئة مرّة، لكن عندما ماتَ أيمَن فعليًّا، هدأ قلبي وقرّرتُ حفظ فظائعه لنفسي. لِذا، أخذتُ أروّجُ مِن حولي أخبارًا جيّدة لا بل مُمتازة عن زوجي، لأمحو أيّ شكّ مِن ذهن إبني الوحيد الذي كان لا يزال صغيرًا عندما مات أبوه.

وهكذا، شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، صارَ أيمَن بمثابة أسطورة، وبَكى عليه الجميع وترحّم عليه كلّ مَن عَرَفه أو سمِعَ عنه. حتّى أنا نفسي أصدّقُ أحيانًا كذباتي، بعد أن عدَّدتُها ألف مرّة، ولَم أعُد أعرفُ أين تكمنُ الحقيقة. ومِن زوجة عاديّة فقَدَت زوجها، إنقلَبتُ إلى أرملة مفجوعة لن تجدَ يومًا مَن يأخذُ مكان ذلك الإنسان القريب مِن الكمال. كيف توصَّلتُ لِكره إنسان أحبَبتُه مِن كلّ قلبي، بعد الذي فعلَه بي حالما تحسّنَت أحواله الماديّة. فالجدير بالذكر أنّ أيمَن كان فقيرًا حين تعارفنا، وأذكُرُ أنّني لَم أصدّقه عندما أكَّدَ لي أنّه سيصير رجلاً غنيًّا. كلّ ما أرَدتُه هو أن أعيش معه تحت سقف واحد وأن نبقى حبيبَين إلى الأبد.

بدايتنا لَم تكن سهلة، إذ كان ينقصُنا كلّ شيء. الفقر صعب، لكنّ الأصعَب هو العَيش مع رجل يتصوّرُ مستقبلاً لامعاً بعيداً كل البعد عن واقعه. فعلتُ جهدي لأوهمه بأنّني متأكّدة مِن نجاحه، لكنّني أسفتُ على نفسي وعليه وعلى حبّنا الذي اختفى وراء طموحات دائمة.

بقيَ زوجي يحلمُ إلى أن تحقَّقَ أوّل حلم بعد خمس سنوات. كان إبننا قد وُلِدَ للتوّ، ورأى أيمَن في تلك الولادة بُشرى خير. تحمّسنا كثيرًا، وفتَحَ لنا القدر ذراعَيه واقترَبنا شيئًا فشيئًا مِن الثراء. كَم كنتُ سعيدة حين تركنا بيتنا الحقير وانتقَلنا إلى مكان جميل في حَيّ راقٍ! لَم أتشاوَف على غيري، بل دعَوتُ لهم بالمثل، وهم هنّأوني على صبري الذي لَم يذهب سُدىً. إحتفلنا بِعيد إبننا الأوّل وسط جمع مِن الناس الذين، بالرّغم مِن عدَم معرفتي بهم، كانوا سيُواكبونا لوقت طويل. فهم كانوا شركاء زوجي في أعمال لَم أعرف ماهيتها، لأنّ أيمَن كان يتكتَّمُ على مصدر أمواله بطريقة مُبهمة، ولَم أسأله أيّ سؤال، خوفاً مِن أن أُزعِلَ الذي صارَ يشتري لي كلّ ما تطلبُه نفسي. حتى غيابه المستمرّ عن البيت كان مقبولاً منّي، فقد اعتقدتُ صدقًا أنّه يعملُ ليلاً نهارًا مِن أجل عائلته الصغيرة. والحقيقة كانت مُغايرة، فهو كان يجني المال السّريع غير الشرعيّ، ويصرفُه أيضًا على غيرنا. فحسب منطقه، كان يحقّ له أن "يرتاح بين ذراعَي المومسات طالما هو يُعطيني وابنه ما نحتاجُ إليه".

 


بقيتُ أجهلُ ما يفعلُه زوجي إلى جاءَت تلك المكالمة. فذات مساء، سمعتُ صوت امرأة تقولُ لي عبر الهاتف:

 

ـ هل أتكلّم مع زوجة أيمَن؟

 

ـ أجل، كيف أُساعدُكِ؟ فهو ليس في البيت الآن.

 

ـ أعلمُ ذلك، لأنّه عندي هنا وهو الآن يأخذُ حمّامًا.

 

ـ ما هذه الدّعابة؟!؟

 

ـ هو لا يعرفُ أنّني أخذتُ رقمكِ مِن هاتفه وأنّني أكلمُكِ الآن... فالحقيقة أنّني سئمتُ مِن الإختباء. إسمعي، زوجكِ لا يُحبّكِ، بل يسخرُ منكِ أمام "الشلّة"، وأظنُّ، لا بل أنا متأكّدة مِن أنّكِ عبء عليه. لِذا، مِن الأفضل أن ترحلي وابنكِ وأن تتركيه لي.

 

ـ أيّتهَا الفاجرة! لا أعلمُ مَن دفعكِ لِتدمير عائلتي، إلا أنّني لَن أدَعَكِ تملئين رأسي بالأكاذيب. زوجي يُحبّني بالفعل ويُقدّرُ تضحياتي معه.

 

ـ حسنًا، سأطبعُ قُبلة على "ياقة" قميصه وسترَين أحمر الشفاه عليها عندما يعودُ إليكِ.

 

أقفلَت المرأة الخطّ وأنا بدأتُ أغلي مِن الغضب، وأخذتُ أنتظرُ عودة زوجي لأتأكّد مِن الخبر. وكَم كانت خَيبتي كبيرة عندما رأيتُ آثار أحمر الشفاه على قميصه! لَم أقُل له شيئًا، بل خلدتُ إلى النوم لأبكي حبّي لإنسان خائن.

في الصباح، سألتُ أيمَن عن أشغاله المسائيّة، وهو اخترَعَ لي كذبة خالَني سأصدّقُها كالتي سبقَتها. رحتُ أجلبُ له القميص وصرختُ به:

 

ـ ما تفسيركَ لهذا؟

 

لَم يُجِبني بل راح يتحضّرُ للخروج. بقيتُ لوحدي مُحتارة ثمّ لحِقتُ به إلى غرفة النوم، وسألتُه إن كان يُعاشرُ غيري، فقال:

 

ـ أتعلَمين؟ مِن الجيّد أنّكِ أثرتِ الموضوع... أجل، لدَيّ عشيقة... وعشيقات!

 


ـ ماذا؟!؟ وتقولُ لي ذلك مِن دون أيّ خجَل؟

 

ـ ومّما أخجَل؟ هذا حقّي! لقد تَعِبتُ لأصل إلى ما أنا عليه وهذه مُكافأتي. إضافة إلى ذلك، لقد أصبَحتِ مملّة للغاية، وأقومُ بواجباتي الزوجيّة معكِ رغمًا عنّي. وكلّما نحن في السرير، أضطرُّ للتفكير بسواكِ لإتمام الأمر.

 

ـ يا إلهي...

 

ـ لا تبدئي بالنحيب! أُعطيكِ وإبنكِ ما تحتاجان إليه، فلا داعٍ للتذمّر. أو تفضّلين أن أُطلّقكِ؟

 

للصّراحة، لَم أصدّق في البدء أذنَيَّ، فالأمر كان فظيعًا لِدرجة غير معقولة. لكن عندما نظرتُ إلى عَينَي أيمَن، أدركتُ أنّه يعني ما يقوله، فانتابَني غضبٌ لَم أعرف أنّني أمتلكُه، وأخذتُ أصرخُ كالمجنونة وأضربُه بكلّ قوايَ وأقولُ له:

 

ـ لقد سانَدتُكَ لسنوات وعشتُ معكَ في الفقر والحيرة أيّها الحقير! أهكذا تُكافئني؟ سيُعاقبُكَ الله وسيأخذُ لي حقّي! سيأخذُ لي حقيّ!!!

 

لَم يتأثّر زوجي بما فعلتُه أو قلتُه، بل ابتسمَ وخرَجَ مِن البيت قائلاً:

 

- تعرفين أين سأكون الليلة، فلا تنتظريني.

 

لَم أعُد أرى زوجي في البيت، وصارَ إبننا يسألُ عنه وأنا أُجيبُه بأنّ أباه مشغول للغاية تارةً ومسافر تارةً أخرى، بينما الحقير هو بين أحضان عشيقاته. سألتُ نفسي لماذا لم يُطلّقني، وأدركتُ بعد التفكير أنّه أبقاني مِن أجل الإهتمام بابنه، أي كحاضنة أطفال فقط. لَم أُخبر أحدًا بالذي يحصل لي بسبب كبريائي أوّلاً، وثانيًا كي لا يقطع عنّي زوجي المصروف، فلَم يكن لدَيَّ أيّة شهادة أو خبرة لإيجاد عمل أعيشُ منه.

في الفترة التي سبقَت موت أيمَن، ساءَت الأمور بيننا لِدرجة غير معقولة، حتى أنّني تمنَّيتُ الموت لنفسي لكنّني لَم أقدم على الإنتحار مِن شدّة خوفي على ابني، فقد كنتُ واثقة مِن أنّه سيُذَلّ ويُعامَل معاملة سيّئة مِن قِبَل أبيه وعشيقاته اللواتي بدأنَ تأتَين إلى البيت وقضاء الليل مع زوجي بينما أنامُ في غرفة صغيري. لِذا صبرتُ وتحمَّلتُ الإهانات والشتائم وأحيانًا العنف الجسديّ. كنتُ قد أصبحتُ بالنسبة لزوجي محطّ إفراغ غضبه مِن أيّ شيء، أكان كبيرًا أم صغيرًا. وعلى مدار الساعة، صِرتُ أطلبُ مِن خالقي أن يُعاقِب جلادي ويُنهي عذابي... بأيّة طريقة.

هل سمِعَ الله دُعائي أم أنّ فجور أيمَن بحدّ ذاته هو الذي أودى به إلى الهلاك؟ لستُ أدري، لكنّ النتيجة كانت مُرضية، بالرّغم مِن ظروف موته التي أصفُها بالمُخزية إلى أقصى درجة.

ففي إحدى الليالي، وبعد أمسية صاخبة كالجلسات العديدة التي كان يُقيمُها زوجي مع "شلّته". بقيتُ كعادتي مع إبني في الغرفة إلى أن هدأت الموسيقى وانقطعَت أصوات الضحك والفجور. عندها خرجتُ إلى المطبخ لأحضّر لنفسي كوبًا مِن الشاي، وتفاجأتُ بإحدى عشيقات زوجي تخرج مذهولة مِن غرفته وتكاد تقَع أرضًا. أرَدتُ تجاهلها، فهي كانت قد عاشرَت أيمَن لتوّها في السرير نفسه الذي كنتُ أنامُ فيه، إلا أنّها أمسَكَتني مِن ذراعي صارخة:

 

- لقد ماتَ! ماتَ أيمَن أثناء... أعني عندما كنّا... حاولتُ انعاشه لكنّه ماتَ! أنا راحلة مِن هنا! يا إلهي!

 

بقيتُ وحدي غير عالمة بما عليّ فعله. ثمّ دخلتُ غرفة النوم ببطء وكأنّني خائفة مِن رؤيته ميّتًا... أو على قَيد الحياة. لا أعرفُ ما أسوأ الأمرَين.

وجدتُ أيمَن مُمدّدًا على ظهره عاريًا تمامًا وعيناه مفتوحَتَان وكأنّه يُحدّقُ في السقف. لَم أحزَن عليه بل اشمأزّيتُ مِن ذلك المشهد المُقرِف وغير المُشرّف. خطَرَ ببالي أن أستدعي الطبيب على الفور والجيران والأهل ليرَوه هكذا ويعرفوه على حقيقته، وليَعلموا إلى أيّ مدى كان مُجحفًا بِحقّي، إلا أنّني تذكّرتُ إبني. لَم يكن يحقُّ لي ترك هكذا ذكرى له، فصحّته النفسيّة كانت أهمّ مِن كرامتي ورغبتي بالإنتقام.

لِذا، فتحتُ خزانة زوجي واخترتُ له ثياب نوم جميلة وملابس داخليّة وألبستُها إيّاها. لَم أشعر بشيء وأنا أقوم بِذلك، وكأنّني أتعاملُ مع دمية لا حياة لها. وبعدما أزلتُ آثار فجور أيمَن مع عشيقته، إتّصلتُ بالطبيب. كان زوجي قد ماتَ مِن جرّاء ذبحة قلبيّة أثناء نومه... بالقرب منّي، حسب تقرير الطبيب الشرعيّ واستنادًا لِشهادتي. ماتَ الطاغي والفاسق ولَم أستطع حتى ردّ إذلاله لي، الأمر الذي ولَّدَ لدَيّ مرارة كبيرة.

وهكذا صارَ أيمَن بالنسبة للناس زوجاً محبّاً وحنوناً ووفيّاً بذَلَ جهده لإسعاد عائلته، وأنا بقيتُ الزوجة العاديّة التي لا يتكلّم عنها أحد. لكنّ الوضع أفضل هكذا، أعني بالنسبة لابني، فتصوّروا لو علِمَ أنّ أباه ماتَ وهو "يحتفلُ" مع إحدى ضيفاته الماجنات.

اليوم صارَ إبني مُراهقًا وسيمًا وذا قلب كبير، يهتمُّ بي ويخافُ عليّ، تمامًا كما قلتُ له إنّ أباه كان يفعل. ففي آخر المطاف، لَم أخسَر كلّ شيء بل ربحتُ رجلاً حقيقيًّا في بيتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button