الفقر ليس أمراً محتوماً

يا ليت رزَقَ الله والدَيَّ أولادًا أكثر، فقد ولِدتُ إبنة وحيدة وبقيتُ هكذا. في البدء، كنتُ سعيدة بأنّني تَفَرَّدتُ بانتباه وعاطفة أبويَّ، وبأنّ ليس عليّ مشاركة أحد ألعابي. لكن مع مرور السنين، بدأتُ أشعرُ بالوحدة، فصرتُ أبحثُ عن أخت لي بين رفيقاتي. إلا أنّ لا شيء يُوازي رابط الدم، وسرعان ما أدركتُ أنّ تلك الصديقات لسنَ سوى فتيات ستمرّ في حياتي لفترة وجيزة.

أحسستُ بدقة حالتي حين أصابَ المرض والدي ولمَ يعُد قادرًا على العمل، واضطرِرتُ لترك دراستي لتحصيل المال. كنتُ تعيسة جدًّا لابتعادي عن المكان الوحيد الذي كان يجلبُ لي السلوى والعلم، ورأيتُ أحلامي تتبخّر أمام عَينيَّ. كنتُ قد قرّرتُ أن أصيرَ محامية بارعة، وتخيّلتُ نفسي مرارًا وأنا أرافعُ في المحاكم لابسة زي المحامين الشهير.

وجدتُ عملاً في شركة للهندسة أصنعُ فيها القهوة للموظَّفين وأنظّفُ مكاتبهم بعد الدّوام. وأسِفَ والدي لهذا المصير الصعب، ولعَنَ نفسه لأنّه، ولو غير مباشرة، أجبَرَني على العمل باكرًا. أمّا أمّي، فكانت تنظرُ إليّ بعَينَين دامعتَين كلّما أعودُ منهكة في المساء، وتدعو لي بالخير.

بقيتُ على هذا الحال لسنوات، إلى أن أخَذَ الموت أبي وصرتُ لوحدي مع والدتي التي لَم تتحمّل غياب رفيق دربها. وسرعان ما غرِقَت باكتئاب حاد أوصلها هي الأخرى إلى الفراش. فهي لَم تعدُ تحبّ العَيش، وتركَت نفسها تتلاشَى شيئًا فشيئًا.

إحتَرتُ لأمري، وشعرتُ أن لا جدوى مِن كل ما فعلتُه وأفعلُه، فلَم أذق طعم الراحة الجسديّة والنفسيّة لفترة طويلة وكأنّني لم أكن أستحقّ أن أعيش كسائر الناس.

حياتي العاطفيّة كانت معدومة تمامًا، فلَم يكن لدَيّ الوقت أو الرّغبة بالإرتباط، إلا أنّ شابًّا كان مهتمًّا بي ويُحاول اقناعي بالزواج منه. لكنّ مالك كان إنسانًا يُعاني مثلي مِن القلّة، ولَم أشأ أن أزيد مِن بؤسي مع أنّني لَم أنزعج مِن مجاملاته واهتمامه بي. فهو كان يعمل في الشركة نفسها ينقلُ الملفّات مِن مكتب لآخر.

شخص آخر كان مهتمًّا بي، وهو إبن صاحب الشركة الذي قدِمَ قبل أشهر قليلة إلى مقرّ العمل ليأخذ مكان أبيه حين يتقاعد هذا الأخير.

إستغربتُ أنّ انسانًا ثريًّا ومتعلّمًا مثل زياد قد يُعجَب بفتاة مثلي، لِذا فضلّتُ تجاهل تلميحاته العديدة ودعواته للخروج سويًّا. وسرعان ما باتَ إعجاب زياد بي محطّ كلام الموظّفين وسخريتهم.

وصلَت تلك الأصداء إلى أذنَي مالك الذي استاء كثيرًا، فلَم يكن لدَيه أدنى فرصة أمام زياد الذي كان يفوقه علمًا وثراءً، وصارَ يُزعجُني بتلميحاته القاسية واتّهمنَي بأنّني أركضُ وراء المال كسائر النساء. حاولتُ إفهامه أنّني لستُ مهتمّة به أو بابن المدير، لكن مِن دون جدوى.

وصارَت حياتي في الشركة لا تُطاق، لِذا بدأتُ أقضي أيّامي مُنعزلة في غرفة مواد التنظيف. كان كلّ شيء أفضل مِن سماعي كلامًا جارحًا وساخرًا مِن باقي فريق العمل.

 


وفي إحدى الأمسيات، وأنا عائدة مشيًا إلى البيت، هاجَمني شخص مِن الوراء وأسندَ إليّ ضربة على رأسي. فقدتُ وعيي ولَم أستفِق إلا في المشفى حيث اكتشفتُ أنّ جسمي مليء بالكدمات، أي أنّني لم أتلقَّ ضربة واحدة فقط، ما كان يعني أنّ مَن هاجَمني بقيَ يضربُني حتى بعدما فقدتُ وعيي. جاءَت الشرطة وطرَحَت عليّ أسئلة عديدة عن وجود أعداء لي. في البدء، لم يخطر ببالي أحد، لكنّني تذكّرتُ غضب واستياء مالك. إلا أنّني خفتُ أن أشتكي عليه، فمَن يقوم بهكذا عمل لن يتردّد عن قتلي في المرّة القادمة.

بالطبع خطَرَ ببالي ترك عملي، لكنّه كان مورد رزقي الوحيد، ومِن دونه لَم أكن لأتمكّن مِن دفع ثمَن أدوية والدتي ومأكلنا وإيجار البيت وفواتيره العديدة.

لِذا عُدتُ إلى الشركة بعد أن شفيتُ وسط استغراب الجميع لِما حصَلَ لي.

حاولتُ قدر المستطاع تفادي مالك، لكنّه ركَضَ إليّ للإطمئنان عليّ، الأمر الذي أثارَ اشمئزازي لأقصى درجة. زياد هو الآخر جاء مُطمئنًا، وطلبتُ منه عدَم إعارتي أيّة أهميّة بعد ذلك، فقد يكون هذا الإهتمام سبب تعرّضي للهجوم. حاولَ إبن المدير أن يعرف المزيد منّي، إلا أنّني لَم أفصح له عن شكوكي. عندها وعدَني بأنّه سيكون أكثر تحفّظًا في إبداء اعجابه بي، مؤكّدًا بأنّه ينوي فعلاً الإرتباط بي رسميًّا إن سمحتُ له بذلك. نظرتُ إلى عَينَيه وهو يقول لي ذلك، ووجدتُه حقًّا جدّيًّا، الأمر الذي أدهشَني. فحتى ذلك الحين كنتُ أظنُّه ينوي تمضية الوقت معي فقط. هل يُعقل أنّ يكون شابّ مثله واقعًا بحبّي؟ لكنّني بقيتُ مُصرّة على موقفي وأكثر مِن السابق.

مرَّت الأسابيع بهدوء بعد أن عُدتُ إلى عُزلتي في غرفة مواد التنظيف. لكنّني كنتُ قد فقدتُ بهجتي بعد أن امتلكَني الخوف والهمّ، وصلَّيتُ بأن أجد وظيفة أخرى بأسرع وقت لأترك مكانًا يوجد فيه مَن بإمكانه ضرب فتاة بريئة. وكي أتفادى الأذيّة مِن جديد، صرتُ أعود إلى البيت مع إبن جيراننا الذي كان يمرّ بالشركة ليأخذني بطريقه.

لكن ذات يوم، إستدعاني المدير إلى مكتبه وقال لي بعد أن أغلَقَ بابه:

 

ـ أرى أنّكِ وجدتِ عريسًا.

 

ـ ماذا تقصد؟ لا، لَم يحصل ذلك.

 

ـ أقصدُ الشاب الذي ينتظرُكِ كلّ مساء أمام مدخل الشركة.

 

ـ إنّه جاري وقد ربينا سويًّا، فهو بمثابة أخي.

 

عندها بدَت على وجه المدير علامات الإستياء وتغيّرَت نبرة صوته فجأة:

 

ـ ألَن تتزوّجي وتريحينا؟

 


ـ وما دخل حالتي الإجتماعيّة بتأدية عملي يا سيّدي؟ وهل أتعبُكَ؟

 

ـ كفاكِ تمثيلاً! هل تظنّين أنّني لَم ألاحظ لعبتكِ؟ أعرف إبني جيّدًا وكَم أنّه يهوى التحدّيات، ولا بّد أنّكِ لاحظتِ ذلك أيضًا.

 

ـ لَم ألاحظ شيئًا.

 

ـ عرفتِ كيف تتلاعبين بمشاعره أيتّها الماكرة! طبعًا! إبني فرصتكِ الوحيدة للخروج مِن فقركِ وجهلكِ! لن أسمَحَ لذلك أن يحصل، أتسمعيني؟!؟

 

ـ لا أخجل مِن فقري أو جهلي يا سيّدي، فالظروف هي التي أجبرَتني على ترك علمي، والعمل باكرًا لأؤمّن لوالدَيّ الطبابة والدواء. إضافة إلى ذلك، أنا لا أحبّ زياد ولا أريدُه ولن أريدُه يومًا.

 

ـ تدّعين أنّكِ لستِ مهتمّة بشاب وسيم ومتعلّم وثريّ وتريدين أن أصدّقكِ؟ ألَم تفهمي الدرس؟

 

ـ أيّ درس؟

 

ـ في المرّة القادمة لن أرسلكِ إلى المشفى وحسب، بل إلى المقبرة!

 

ـ يا إلهي! أنتَ مَن هاجمَني؟

 

ـ لا، فأنا لا أوسّخ يدَيّ بقذارة مثلكِ، لقد أرسلتُ أحد رجالي للقيام بالمهمّة. لن تصبحي فردًا مِن عائلتنا الكريمة والشريفة يومًا.

 

ـ عائلة كريمة وشريفة؟ مِن أين جئتَ بتلك الصفات يا... سيّدي؟ قُل عائلة خبيثة ومُجرمة! أتعلم شيئًا؟ أبي، رحمه الله، كان إنسانًا كريمًا وشريفًا وأفتخرُ بالإنتماء لعائلتي، فالفقر ليس مُعيبًا. سأتركُ هذه الشركة على الفور، ولن ترى وابنكَ وجهي مِن جديد، ليس لأنّني خائفة منكَ بل لأنّني لا أريدُ أن أتواجد معكَ في المكان نفسه، فأنتَ تلوّثُني وأريدُ أن أبقى إنسانة طاهرة.


خرجتُ بسرعة مِن مكتب ذلك الإنسان المُنحطّ، وإذ بي أرى زياد واقفًا وراء الباب. كان قد سمِعَ حديثنا بأكمله. فقال لي:

 

ـ أرأيتِ؟ هذا ما يحصل عندما يحتكّ الإنسان بأناس مِن غير مقامه. لَم يعد لدَيكِ سوايَ.

 

ـ بلى، لدَيّ نفسي وأمّي، وأنا لا أحبُّكَ. حياتي أمامي وهي مليئة بالخيارات وأنتَ لستَ منها. فمَع أنّ الفقر ليس مُعيبًا، هذا لا يعني أنّه حالة دائمة. لقد أعطانا الله القدرة على إيجاد شتّى الطرق للعَيش بكرامة، والعقل للتدبير. لستُ مثلكَ، بل أريدُ أن أتخطّى المحنة التي أنا فيها وعدَم قبول حالتي على أنّها محتومة. ماذا فعلتَ بحياتكَ حتى الآن؟ إنّكَ تخطَّيتَ الثلاثين مِن عمركَ ولا تزال تنظر إلى الوراء. أريدُ أن أنظُرَ إلى الأمام وأحاول تغيير الأمور إلى الأفضل.

 

ـ ستفشلين.

 

ـ ربمّا، لكنّني سأكون قد حاولتُ، على الأقل.

 

ـ ستبقين فقيرة وستتزوّجين مِن فقير وستنجبين أولادًا فقراء. هذا هو مصير مِن هم مثلنا.

 

ركضتُ خارج ذلك المكان البغيض وأنا أبكي، لكنّني أدركتُ بسرعة أنّ كلّ ما جرى لي أعطاني، مِن دون أن أدري، قوّة عظيمة. قوّة لتغيير ما أسماه زياد "مصيري" والوقوف بوجه الطاغي والمتشائم.

وبدأتُ أبحثُ عن عمل جديد، ولَم أعد أريدُ تنظيف المكاتب بل أن أشارك غيري بعمله. ولكن كيف لي أن أفعل ذلك مِن دون شهادات؟ بمتابعة علمي طبعًا. الأمر الذي لَم يكن سهلاً... وتعبتُ كثيرًا.

في البدء عملتُ سنتَين في محلّ للملابس أثناء النهار وفي دار للعجزة في المساء. وبعدما جمعتُ ما يكفي، إلتحَقتُ بمدرسة ليليّة لأكمل دراستي. كان الأمر مُمتعًا لأنّني وجدتُ الدراسة أسهل مِن قبل، وكنتُ متحمّسة جدًّا لدخول الجامعة. شجّعَتني والدتي كثيرًا، ولاحظتُ أنّ حماسي أعادَ لها صحّتها، فما الإنسان مِن دون هدف أو أمل؟

دخلتُ أخيرًا الجامعة واختَرتُ طبعًا المحاماة، وعملتُ بكدّ لأوفّق بين عملي ودراستي. للحقيقة، لَم أنزعج مِن هذا الكمّ مِن الجهد، فكلّما أصابَني الإحباط، كنتُ أتذكّر زياد وتشاؤمه وطبعًا الإهانة التي تعرّضتُ لها مِن قِبَل مديري السابق، بعد أن ضربَني وشتَمَني وهدّدَني بالموت.

اليوم أنا محاميّة وأعمل في مكتب مُحترَم، وتزوّجتُ مِن زميل لي. يعرفُ زوجي ما مررتُ به وهذا بالذات ما جذبَه إليّ، فهو انبهَرَ بعزيمتي وإصراري على النجاح. أمّي تعيش معنا، وننتظر جميعًا بفارغ الصبر المولود الجديد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button