لامَني الجميع على اختياري لسمير بسبب الفارق الإجتماعيّ الشاسع بيننا. فلم يكن هناك مِن شيء يجمعنا، لا مِن ناحية البيئة أو العلم أو الثراء. كان سمير رجلاً أكثر مِن عاديّ، فيما كنتُ أنا فتاة فائقة الذكاء، وابنة رجل معروف إجتماعيًّا وامرأة لامعة.
قضَيتُ حياتي محاطة بأناس تشبهني وشبّان "مناسبين" لي، إلا أنّني لم أشعر تجاههم بأيّة مودّة، بل كان تشاوفهم يزعجني. فالحقيقة أنّني أؤمِن بالكفاءة والإجتهاد، وكنتُ أكره الذين يولدون وفرَص العمل جاهزة بشركات ومؤسّسات آبائهم. لم أرد يومًا الإستفادة ممّا يملكه أهلي بل اتّكلتُ على نفسي وعلى قدرتي في استيعاب وتحليل المعلومات وتطبيقها، وهكذا صرتُ مِن أوائل صفيّ، الأمر الذي خوّلَني الحصول على مِنَح دراسيّة عديدة. بالطبع غضِبَ أهلي مِن استعمالي لتلك المِنَح، إذ كان بمقدورنا دفع أيّ قسطٍ كان، ولكنّني بقيتُ مصرّة على شقّ طريقي بنفسي كي لا أصبح مثل أمّي التي كانت عازفة بيانو لامعة قبل زواجها مِن أبي وتمضية وقتها بالاستقبالات والدعوات.
وكوني إبنة وحيدة زاد مِن الضغط الملقى على كتفيَّ، فمَن غيري سيحمل الرّاية بعد رحيل أبي؟ لكن لم يكن عالم الأعمال يستهويني، بل مجال الطب وما يتضمّنه مِن مساعدة للناس وإراحتهم مِن أوجاعهم. خبر اختياري لهذه المهنة الشريفة أفرَحَ والدَيَّ، فوافقا على ألا أتابع ما بدأه والدي شرط أن أتوّج نجاحي بزوج يليق بي، أقصد بنا جميعًا.
إلا أنّني تعرّفتُ صدفة إلى سمير وأحبَبتُه مِن النظرة الأولى. هو الآخر أحَّبَني، إلى حين علِمَ ابنة مَن أكون. عندها فضَّلَ الانسحاب قبل أن يُهينه أحد مِن طرَفي.
طبعًا لم أكن لأسمح بذلك أن يحصل، لكنّ سمير كان متعلّقًا بكرامته ولا يرضى أن يتنازل عن ذرّة منها لأيّ سبب. وانقطعَت أخباره وكنتُ تعيسة إلى أقصى درجة. حاولتُ إقناع نفسي بأنّ بعده عنّي هو لمصلحتي، وبأنّ ما بيننا لن يصمد طويلاً بسبب الضغوطات الإجتماعيّة، لكنّني لم أستطع المواصلة مِن دونه.
لِذا اتصَلتُ بسمير وقلتُ له مِن دون مقدّمة:
ـ هل تقبلني زوجة لكَ؟
سكَتَ مطوّلاً وأجابَ:
ـ نعم... ولكن...
ـ مِن دون "ولكن"! نعم أم لا؟
ـ نعم
وعدتُه بأنّ لا شيء مِن مخاوفه سيحصل إذا كنّا قويّين ومتماسكَين، وطمأنتُه إلى أنّني مسيطرة على الوضع.
إستأجرنا شقّة صغيرة للغاية، وهو خجل مِن هذا المكان الذي كان بحجم غرفة نومي عند أهلي، وتزوّجنا مِن دون وجود أحد. كنّا سعيدَين لكنّني بقيتُ أرى الهمّ في عَينيّ زوجي الحبيب.
عملتُ جهدي كي أطمئن قلب سمير إلى ما يخصّ مستقبله معي. فبعد أن تخرّجتُ وأصبحتُ طبيبة، قصدتُ إعطاء بضع ساعات مِن نهاري لمستوصف شعبيّ في حيّ أهل زوجي، وكأنّني أقول لهؤلاء الناس إنّني منهم ولهم. لكنّ ذلك لم يجلب لي النتيجة المرجوّة، وبقيتُ بالنسبة إليهم "البورجوازيّة" المتعالية، واعتبروا تلك الخطوة وكأنّها تأكيد على الفارق الاجتماعيّ بيننا. إحترتُ في أمري، فلم أكن أعلم ما عليّ فعله لكسر تلك الحواجز الاجتماعيّة، وكأنّ العَيش في شقّة صغيرة والزواج مِن دون موافقة أهلي لم يكن كافيًا.
مِن جانبه، تابعَ سمير عمله كالمعتاد كبائع في محل للأدوات المنزليّة، مِن دون أن يسألني يومًا عن مهنتي وكيفيّة تعاطيّ مع مرضايَ، الشيء الذي أحزنَني لأنّني أردتُ أن أشاركه يوميّاتي والتكلّم معه عن مشاكلي. إلا أنّني تقبّلتُ هذا الموقف، وقرّرتُ المضيّ بزواج وصفتُه بالهادئ. لكنّ الحياة ليست كما نقرأ عنها في كتب الغرام، والواقع يأخذنا حيث لا وجود للخيال وأحلام الحبّ التي لا تعرف الفوارق.
فبموجب عملي، كنتُ مُلزمة بالاختلاط بأناس يُمارسون الطب، وكنتُ أخشى أن أدعوهم إلى بيتي المتواضع بينما هم يسكنون الأماكن الفخمة، عالمةً أنّني سأسمع منهم التلميحات المزعجة والأسئلة اللامتناهية. ومع الوقت، لم أعد قادرة على التهرّب مِن تلبية الدعوات، خوفًا مِن أن يُؤثّر ذلك على علاقتي بزملائي وعلى أجواء عملي. لِذا قبلتُ أن أذهب مع سمير إلى احدى الحفلات التي أقامَها الطبيب المسؤول عن الفرع. وقبل خروجنا مِن البيت، تأكّدتُ مِن أنّ سمير اختار البذّة المناسبة، أي بذّة الفرح التي لم يكن يملك غيرها. كنّا صامتَين طوال الطريق، أنا افكّر بكيفيّة الانسحاب مِن الحفل باكرًا كي لا يُلاحظ أحد أنّ زوجي غير مثقّف ويتعرّض للإحراج، وهو كان غير مرتاح للاختلاط بفئة الأطبّاء.
وما كنتُ أخشاه حصل، فسرعان ما التفّ حولنا العديد للتعرّف على الذي خطَفَ قلب "النابغة" كما كانوا يُسمّوني، وبدأوا يطرحون عليه شتّى الأسئلة. وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما علموا أنّه ترَكَ المدرسة باكرًا ليعمل هنا وهناك وينتهي به الأمر كبائع عاديّ. حتى تلك اللحظة كنتُ أظنّ أنّني قادرة على اجتياز هكذا موقف، ولكن الحقيقة كانت أنّني قضيتُ أوّل سنتَين مِن زواجي منعزلة عن الناس، أي بمنأى عنهم. هل خجلتُ مِن زوجي في ذلك المساء؟ للأسف نعم، وأقسمُ أنّني كرهتُ نفسي كثيرًا لأنّ سمير كان فعلاً حبّ حياتي. ولكن مِن الواضح أنّ الحبّ ليس كافيًا في عالم تحتلّ المظاهر الجزء الأساسيّ منه.
بدأتُ أقدّم لزملائي حججًا سخيفة أغرقَتني في إرباك واضح، ونظَرَ سمير إليّ بتعجّب وكأنّه يسأل نفسه إن كنتُ الفتاة نفسها التي طلبَت منه أن يتزوّجها ووعدَته بأن تنسى الفروقات الإجتماعيّة.
ولأخرج نفسي ممّا اعتبرَتُه مأزقًا مزعجًا للغاية، كذبتُ على الحضور قائلة إنّ سمير سيُصبح غنيًّا بعد أسابيع قليلة بفضل ميراث ضخم تركَه له أحد أقربائه في المهجر. وعند سماع ذلك، فضَّلَ زوجي ترك الحفل والعودة مِن دوني إلى البيت.
عند عودتي بعد حوالي الساعة، كنتُ أعلم ما سيقوله لي سمير وتمنَّيتُ لو أجده نائمًا، إلا أنّه كان بانتظاري ليقول لي:
ـ أعلم أنّكِ شعرتِ بالعار منّي أمام هؤلاء الأطبّاء الأثرياء، وكنتُ أتوقّع أن يحصل ذلك عاجلاً أم آجلاً... وأعلم أنّكِ اعتقَدتِ أنّكِ قويّة كفاية لفرضي على الجميع... لستُ مستاءً منكِ بل أنا حزين للغاية لأنّ عليّ فسخ زواجنا مِن أجلكِ، وخاصّة مِن أجلي، فلَن أقبل أن أكون عارًا على أحد... صحيح أنّني مِن عائلة فقيرة وعملي متواضع، لكنّني أتمتّع بكبرياء لا أقبل أن تُخدش... سأعيد لكِ حرّيتكِ غدًا، وعليكِ أن تنسيني وتعودي إلى عالمكِ وأنا إلى عالمي... وهما عالمان لم يكن عليهما الاختلاط أبدًا.
بكيتُ وتوسّلتُ ووعدتُ، لكنّ سمير لم يُغيّر رأيه.
وهكذا عدتُ إلى أهلي الذين استقبلوني بانتصار، وركضوا يُعرّفوني إلى أفضل رجال مجتمعهم، آملين أن تصطلح الأمور، فبنظرهم كان زواجي مِن سمير "هفوة غير مسؤولة" قامَت بها ابنتهم المتعبة بسبب سنين مِن الدرس والتحصيل.
ولأنّني لم أعد أملك القوّة لأناضل بعدما تركَني سمير واختفى مِن حياتي، قبلتُ أن أتزوّج مِن رجل أعمال ناجح وثريّ. هل كنتُ سعيدة معه؟ بالطبع لا، فقلبي كان ولا يزال ملك زوجي الأوّل. وبالرّغم مِن ذلك، كنتُ زوجة صالحة وأمًّا جيّدة للأولاد الذين أنجبتُهم.
واليوم، عندما أفكّر بالذي حصل وأفتّش عن الخطأ الذي اقترفتُه مع سمير، لا أجد طريقة كانت تتيح لنا مواصلة زواجنا. كان مِن المكتوب لنا أن نفترق لأنّنا لم يكن مِن المفروض أن نتزوّج أصلاً. لم يكن بمقدوري تغيير المجتمع بمفردي، فذلك يتطلّب دهورًا بأكملها، ولم أكن أملك الوقت الكافي أو الإمكانيّات اللازمة.
علِمتُ أنّ سمير تزوّج مِن فتاة بسيطة وأنّه سعيد للغاية معها. هو استطاع نسياني ربّما لأنّه لم يكن مقتنعًا أساسًا بزواجنا. ولو عاد الأمر له، لَما ربطَ حياته بحياة "البورجوازيّة".
حاورتها بولا جهشان