العقم ليس نقصاً

كيف لَم أرَ ما كان يحصل طوال ذلك الوقت، مع أنّ الأمور كانت جليّة ولا تحتاج إلى تحليل؟ كان ذلك حتمًا بسبب حبّي لِرانيا الذي بلَغَ حدّاً لَم أتصوّره مُمكنًا. والذي زادَ مِن تعلّقي بزوجتي كانت مُشكلتي التي هي بالذات محوَر قصّتي. إليكم تفاصيلها:

لطالما كان لدَيَّ كلّ ما يتمنّاه أيّ رجل كالوسامة والذكاء والمال، وهي خلطة ناجحة وكفيلة بإسعاد أيّ كان، هذا إلى حين تزوّجتُ واكتشفتُ مُشكلة عُقمي. أجل، لَم أكن ولا أزال غير قادر على الإنجاب. تصوّروا شعوري عند معرفة حالتي بعد أن تمكّنتُ طوال حياتي مِن الحصول على كلّ ما أردتُه. أتذكّرُ حتى أنّه كان يُقال عنّي إنّ التراب ينقلبُ في يدي إلى ذهب! وها أنا بعيد كلّ البعد عن جَلب صغير إلى الدنيا على خلاف أبناء جنسيّ وباقي المخلوقات!

خجلتُ كثيرًا مِن رانيا لأنّها كانت تريدُ وبقوّة ولدًا، وشعرتُ بالنقص لأوّل مرّة في حياتي. كنتُ قد وعدتُها قبل الزواج بأنّني سأؤمّن لها كلّ ما تطلبُه نفسها، وأحميها مِن أيّ أذى، أيّ أنّني سأكون رجلاً حقيقيًّا. وحين تأكّد عقمي، إنهار عالمي بثوان. ستقولون لي إنّ لا علاقة للعقم بالرجولة، وأنتم على حقّ بذلك، لكن في تلك الفترة لَم أكن أجدُ معنىً لِكوني رجلاً إن لَم أستطع إفراح قلب زوجتي وتأمين مَن يحمل إسمي مِن بعدي.

خضعتُ لِفحوصات عديدة ومُتعِبة، بعد أن إستبعَدَ الأطبّاء عقم زوجتي التي بقيَت مُتفائلة، إلى حين علِمنا أنّ حيواناتي المنويّة غير قادرة على الحركة وما مِن علاج فعّال لحالتي.

وامتلأ قلبي بالحزن لرانيا ولي. وبقيَ عليّ إيجاد طريقة للتعويض لزوجتي وأن أُنسيها، بشكل يوميّ، أنّها لن تصبحَ أمًّا يومًا وأنّنا لن نسمَع أبدًا أصوات وضحكات أولادنا في البيت. عندها، ومِن دون أن أدري، فقدتُ رجولتي، ليس بسبب عقمي، بل لِشعوري بالنقص تجاه إنسانة لَم تكن تحبّني.

التغيير بالتوازن بيني وبين رانيا حصَلَ تدريجًا، أي على مدار الأيّام والأسابيع والأشهر ولاحقًا السنين.

 


لَم يتغيّر شيء في حياتي العمليّة، إذ أنّني بقيتُ رجل الأعمال الناجح والقادر على إدارة فريق عمله بيد مِن حديد، لكن عند عودتي إلى البيت في المساء، كنتُ أصبح إنسانًا حزينًا ومهزومًا وأبحثُ عن أيّة طريقة لإرضاء زوجتي.

ولكثرة دهائها، لَم تطلب رانيا منّي شيئًا مُباشرةً، بل بقيَت الزوجة المُتفهّمة والراضية بحكم ربّها وحكمته. فهي كانت تُردّد لمَن حولها أنّها إنسانة مؤمنة تحبّ زوجها ولا مانع لديها أن تعيش مِن دون أولاد. إلا أنّ ذلك لم يكن صحيحًا بتاتًا. فكلّ ما كان يهمُّها كان مالي وجاهي، وكَم فرِحَت حين اكتشفَت الطريقة للإمساك بِزمام الأمور مِن خلال نقطة ضعفي، أي عقمي. وأبشَع ما في الأمر هو أنّني لَم أعد أتصوّر العَيش مِن دون رانيا، أوّلاً لأنّها كانت بنظري إنسانة عظيمة، وثانيًا لأنّها كانت قد قبِلَت بي كما أنا، الأمر الذي لن تفعله إمرأة غيرها لو قرّرَت رانيا تركي لتتزوّج مجدّدًا وتُنجب أطفالاً. كانت قد أصبحَت سترة نجاتي في عالم لا يرحَم كلّ مَن لدَيه شائبة.

وبعد أن إستسلَمَ الأطبّاء مُعلنين أنّ لا جدوى مِن مُحاولة علاجي، إستدارَت رانيا إلى الطبّ البديل. وهكذا صارَت تجيء لي بتلك الأعشاب التي تدّعي شفاء كلّ مَن يشربُها مِن أيّ داء. كان ثمنها باهظًا لأنّها، حسب قول زوجتي، كانت نادرة للغاية وتوجد في أماكن مِن العالم صعب الوصول إليها. كنتُ أُعطي كلّ ما يلزم لرانيا لإرضائها، بالرّغم مِن معرفتي الدفينة بأنّ حالتي ميؤوس منها.

عرضتُ على رانيا أن نتبنّى ولدًا، لكنّها رفضَت بقوّة هائلة: "لن أربّي ولدًا أنجبَته إمرأة أخرى! أريدُه مِن لحمي ودمي!". ويوم اقترحتُ عليها التلقيح الإصطناعي أجابَتني: "أريدُ ولدًا منكَ بالذات وليس مِن مُتبرّع مجهول لا يمتُّ لي بصلة... لا، سنُحاول ونُحاول حتى ننجح، لا عليكَ."

إحترتُ لأمري، فكيف أُرضي إمرأة تطلبُ المُستحيل؟ وبعد أن فشِلَت العقاقير الطبيعيّة، شعرتُ باليأس العميق، لِذا لَم أمانع حين طلَبَت منّي زوجتي مُرافقتها عند أحد الدجّالين الذين يُسمّون أنفسهم "شيوخًا".

ويوم وطأَت قدمايَ منزل الشيخ عدنان صرتُ عبدًا لِرانيا، ليس بسبب مفعول سحر ما أو بفضل مهارة ذلك الدجّال، بل لأنّني فقدتُ قدرتي على المُمانعة، وأمسى هاجسي الأوحَد جَلب ولد إلى الدنيا مهما كانت الطريقة أو الكلفة.

كان الشيخ عدنان رجلاً في الخمسين مِن عمره، ويسكنُ حيًّا شعبيًا قذرًا مثل لحيته التي كانت طويلة وتفوح منها رائحة بقايا طعامه. لباسه كان أيضًا مُتّسخًا وقديمًا، ليوحي للناس بأنّه فقير ويقوم بمُساعدة الناس لوجه الله فقط.

أمّا الحقيقة كانت طبعًا أنّه يهدفُ للإستيلاء على كلّ ما استطاع مِن مال ضحياه لوحده أو كما في حالتي، بمساعدة شريك. وشريكته كانت رانيا التي أرادَت المزيد والمزيد، لأنّ ما أُعطيه لها لَم يكن ليكفيها مهما بلَغَ قدره.

إستمَعَ الشيخ لنا بِصمت، وسألَني بعض الأسئلة المُحرِجة وأخرى عن معشَري وعائلتي، ثمّ هزّ برأسه وأخرَجَ مِن خزانته أشياء كثيرةً لَم أعرف ماهيتها. وبعد أن قامَ بِخلط مواد غريبة ببعضها، أشعلَها مُتمتمًا كلمات بلغة غريبة عجيبة وأخرى بالعربيّة مُستخرجة مِن كتابنا الكريم، الأمر الذي طمأنَني داخليًّا لأنّه عنى أنّ الرّجل قد يكون يعمَل مِن خلال تعاليم الله. ثمّ قال لي الشيخ بصوت جدّي للغاية:

 

ـ سيّدي، أنتَ لستَ مريضًا بل هناك مَن لا يُريدُكَ أن تُنجب.

 

ـ لكن تلك الفحوصات الطبيّة تقول غير ذلك.

 

ـ صحيح... صحيح... ما أعنيه هو أنّ حيواناتكَ المنويّة لا تتحرّك لأنّ أحدًا أصابَها بسحر قويّ.

 

ـ مَن فعَلَ ذلك؟ ولماذا؟ وهل ستعودُ الحركة لحيواناتي المنويّة؟

 


ـ سنحصلُ على الأجوبة لتلك التساؤلات في الوقت المُناسب، لا تخَف. لكن عليكَ أن تتحلّى بالصّبر فالطريق طويل... ومُكلف.

 

ـ مُكلف؟ ظننتُكَ تعمل مجّانًا.

 

ـ صحيح ذلك، لكن عليّ أن أشتري المواد وأُكلّف بعض الناس بالصلاة والصوم ومُساعدتي. أنا إنسان بسيط وأخافُ ربّي، وكلّ ما أريدُه هو إسعاد الناس وإبعاد الشرّ عنهم.

 

كَم كلّفَني علاجي عند ذلك الدجّال؟ مبالغ طائلة دفعتُها على مراحل وطوال سنوات عدّة. مبالغ تقاسمَتها رانيا معه، وصرفَتها على شراء الذهب ووضعَت الباقي في حسابها المصرفيّ. كان مِن مصلحة زوجتي إبقائي في حالة تبعيّة دائمة، وأن تُنمّي شعوري بالنقص لأطول مُدّة مُمكنة لِتحملني على فعل كلّ ما تُريدُه. هل كانت فعلاً تُريدُ أولادًا؟ بالطبع لا، فالذين يكونون مثل زوجتي يُريدون كلّ شيء لأنفسهم، ومجيء طفل كان يعني نهاية هيمنتها على محفظتي وعقلي. لذلك كان يجدرُ أن أبقى مُكبّلاً لباقي حياتي.

نتائج بحث الشيخ عن المسؤول عن عقري كانت مُتنوّعة، فتارةً كان أحد شركائي وتارةً أخرى موظّفًا غاضبًا أو حتى أحد أفراد عائلتي. وسرعان ما بتُّ أخافُ وأكرَه كلّ الذين يُحيطون بي... ما عدا رانيا طبعًا، فحسب الشيخ كانت هي الإنسانة الوحيدة الذي عليّ الوثوق بها.

مع الوقت، بتُّ انسانًا مُنغلقًا وغاضبًا بشكل دائم، الأمر الذي أثَّرَ على أجواء العمل في الشركة. لكنّني لَم أكن أُبالي، فالجميع صار عدوًّا لي وأرى فيه سبب مأساتي.

لن يستطيع أحدٌ تحديد ما كان سيحصلُ لي في آخر المطاف، لو لَم تقَع عينايَ بالصّدفة على كشف حساب زوجتي المصرفيّ. فكان مِن الواضح أنّ مبالغ كانت تدخلُه بشكل مُنتظم يُوافقُ تمامًا تواريخ دفعي لِتكاليف الشيخ الباهظة. وجدتُ الأمر مُريبًا، لِذا قرّرتُ تفتيش غرفة نومي ورانيا لِمعرفة المزيد، فوجدتُ في آخر الخزانة علبة ثقيلة الوزن مليئة بالعملات الذهبيّة.

صحيح أنّني إنسان كريم وأُعطي زوجتي المال بانتظام، لكنّ ذلك لَم يكن ليُمكّنها مِن شراء الذهب بهكذا كمّيّة. عندها قرّرتُ التوقّف عن التعامل مع الشيخ، أي قطع الإمدادات له ولزوجتي لأرى ما سيحصل. ردّة فعل رانيا لدى سماعها الخبر كانت عنيفة:

 

ـ ماذا؟!؟ أيعني ذلك أنّكَ تستسلم بعد كلّ الذي فعلناه؟ قد نصل إلى نتيجة قريبًا.

 

ـ لقد مضَت سنوات على تعاملنا مع ذلك الرجل، ولا اُريدُ الإستمرار بالمحاولة. أنا عاقرٌ وعلينا مواجهة الحقيقة.

 

ـ أُريدُ ولدًا ومِن واجبكَ أن تُعطيني أيّاه!

 

ـ أنا عاقرٌ وعليكَ العَيش مع ذلك. لقد حاولتُ وفعلتُ كلّ ما بوسعي وانا مُرتاح الضمير.

 

ـ مُرتاح الضمير؟!؟ أنتَ رجل ناقص، هذه هي الحقيقة! شبه رجل! أنا المُذنبة، فلَم يكن يجدر بي الزواج منكَ، بل مِن ذلك الشاب الذي فضّلتُكَ عليه في ما مضى! هو على الأقل كان سيُعطيني طفلاً على خلافكَ. ستُتابع علاجكَ عند الشيخ، أسمعتَ؟

 

ـ أعرفُ الحقيقة يا رانيا... أعرفُ أنّكِ تأخذين قسمًا كبيرًا مِن الذي يسلبه منّي ذلك الدجّال. لقد رأيتُ كشف حسابكِ المصرفيّ ووجدتُ النقود الذهبيّة. ألَن تشبعي يومًا؟

 

ـ تتجسّس عليَّ؟ يا لوقاحتكَ! بدلاً مِن أن تُبقي رأسكَ منخفضًا أيّها الناقص!

 

ـ لا بل سيبقى رأسي مرفوعًا لأنّني لستُ ناقصًا! ذنبي الوحيد هو أنّني أحببتُك وأردتُ إسعادكِ بشتّى الطرق. لستُ ناقصًا بل كاملاً بِفضل قلبي الكبير الذي قَبِلَ بكلّ طلباتكِ على سنوات. أنتِ الناقصة لأنّكِ لعبتِ بِعواطفي واستغلَّيتِ عقمي لِمصلحتكِ الشخصيّة. ستأخذين أمتعتكِ وعلبتكِ الثمينة وستخرجين مِن بيتي على الفور. هيّا!

 

بعد رحيل رانيا إنتابَتني شكوك عديدة بما يخصّ قراري بِطردها، وكدتُ مرارًا أن أطلبَ منها العودة لكنّني عدتُ وصمّمتُ على استعادة كرامتي. فالحقيقة أنّ الوقت هو فعلاً الكافي لِشفاء الجروح. وعلى مرور الأشهر صرتُ مُقتنعًا بأنّ زوجتي السابقة لَم تُحبّني قط بل استغلّتني مِن دون شفقة، وأنّ تلك العلاقة كانت مسمومة.

وبعد ثلاث سنوات تعرّفتُ إلى إمرأة رائعة وأحببتُها كثيرًا، فتزوّجنا وجلبَت معها إبنها الصغير الذي أنجبَته مِن زوجها الرّاحل. وبفضل ذلك الولد اللطيف والجميل، إستطعتُ أخيرًا تذوّق طعم الأبوّة، وعَيش قصّة حبّ حقيقيّة مع زوجة هدفها الأوحَد هو إسعادي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button