عندما بدأتُ أشعر بالعوارض، لَم يخطر ببالي أبدًا أنّ ما يُصيبُني هو خطير جدًّا. فلطالما كنتُ رجلاً رياضيًّا وآكل أكلاً صحّيًّا، واعتقدتُ أنّني بمنأى عن الأمراض الخبيثة. لكنّ جسدنا لدَيه منطق خاص به ويتصرّف بشكل غير متوقّع.
والذي صدَمَني الأكثر هو أنّني وجدتُ نفسي أواجه عدوًّا صامتًا، في حين كانت حياتي قد أصبحَت تمامًا كما خطَّطتُ لها، أي أنّني درستُ ونجحتُ وصرتُ أستاذًا جامعيًّا محبوبًا مِن تلامذته، وما هو أهمّ، وجدتُ الحبّ بشخص صبيّة رائعة كانت ستصير زوجتي بعد أقل مِن سنة.
في البدء، لاحظَت خطيبتي تغيّر لون بشرتي إلى الأصفر، ورددتُ الأمر إلى وعكة صحيّة عابرة، خاصّة أنّني فقدتُ الكثير مِن وزني. إلا أنّني صِرتُ أشعر بحكاك حاد، وتحوَّلَ لون بولي إلى الدّاكن. عندها أسرَعتُ عند الطبيب الذي أجرى لي فحوصات عديدة. بدأَ بالفحص السريريّ، أي بجسّ بطني، فوجَدَ على الجهّة اليُمنى كُتلة مُريبة.
خضعتُ لفحص بالأشعّة لبطني وحوضي الذي كشَفَ توسّعًا في القنوات التي تحمل الصّفراء داخل وخارج الكبد، بالإضافة إلى تلك الكتلة الذي وصَلَ حجمها إلى 4 سنتم وتقع في البنكرياس.
إجتمَعَ الأطبّاء مِن إختصاصات متعدّدة، وأخبروني أنّني مصاب بسرطان البنكرياس وعليّ بسرعة، الخضوع لعمليّة جراحيّة لإزالة القسم المصاب.
خلال خضوعي لتلك الفحوصات، لَم أطلِع خطيبتي على الشكوك التي راودَتني، لكن عندما تمّ التوافق على ضرورة إجراء العمليّة، إضطرِرتُ لإخبارها بحالتي الصحيّة. بدأت المسكينة بالبكاء، لأنّها طبعًا تصوّرَتني ميتًّا أو على الأقل مُلقىً على سرير مشفى لمدّة طويلة أتوجّع وأصرخ مِن الألم. طمأنتُها بأنّ الأطبّاء يُقدّرون أنّ الجراحة، على الأقل في البداية، ستكون كافية لابعاد شبَح الموت عنّي، إلا أنّ لا مفرّ مِن العلاج الكيميائيّ لاحقًا. أضفتُ أنّني رجل شجاع، وسأواجه مرَضي وأحاربُه بشتّى الطرق، خاصّة أنّ حبيبتي معي وتدعمُني.
ولكن قبل موعد إجراء العمليّة بأيّام، أصبتُ بإلتهاب رئويّ وحرارة مرتفعة، الأمر الذي حال دون المضيّ بالعمليّة، وتوافَقَ الأطبّاء على الإنتظار حوالي الشهر.
في هذه الأثناء، قرّرَت خطيبتي أنّ علينا أن نصلّي مِن أجل عافيتي. وجدتُ الأمر صعبًا بعض الشيء، لأنّني لم أكن معتادًا على الصلاة. صحيح أنّني كنتُ رجلاً مؤمنًا، لكنّني لَم أمارس ديني. شرحتُ الوضع لحبيبتي، مُضيفًا أنّ الله لن يشفيني في وقت لم يشفِ مَن هم أكثر إيمانًا منّي. جوابها لي كان:" ليس علينا فهم دوافع الله في ما يخصّنا أو مشارطته أو محاسبته، بل علينا محاولة التماس رحمته."
أقنعَني كلامها، فبدأتُ أصلّي بكلّ قوايَ مُعتذرًا مِن الله لأنّني تذكّرتُه فقط وقت الشدّة.
وبعد أن زالَت عوارض الإلتهاب الرئويّ بالكامل وجاء موعد الجراحة، خضعتُ مجدّدًا للفحوصات كما ينبغي أن يحصل.
لكن عندما وصلَت نتائج فحص وظائف الكبد والصّورة الصوتيّة لبطني، تفاجأ الأطبّاء لأقصى درجة، أنّ الكتلة قد اختفَت وعادَت أعضائي إلى وظائفها الإعتياديّة.
وحين زرتُ طبيبي المعالج، قال لي بفرَح ممزوج بالإستغراب الشديد:
ـ سيّد هاني... مبروك! لقد شفيتَ مِن داء السرطان!
ـ كيف لذلك أن يحصل؟!؟ فلَم أتبع علاجًا أو أخضع لعمليّة! هل تمازحني؟
ـ أبدًا، فتلك المسائل بغاية الجدّيّة.
ـ قد تكونوا قد أخطأتم بتشخيص مرضي إذًا.
ـ غير ممكن، فلقد قمتُ بجميع الفحوصات، واستعَنتُ بأمهر الزملاء.
ـ ما تفسيركَ إذًا؟
ـ ليس لدَيّ أيّ تفسير يا سيّد هاني، إلا أنّ القادر قرَّرَ إعفاءكَ مِن المرض... والموت.
ـ هل كانت حالتي بهذا القدر مِن الخطورة؟
ـ نعم. ولكن هذا لا يهمّ الآن. أريدُكَ أن تأتي إليّ بعد ستّة أشهر لنتفقّد بطنكَ، ووظائف الكبد والبنكرياس مِن خلال صوَر وفحوصات مخبريّة. حتى ذلك الحين، أنصحُكَ بالإستمتاع بهذه الفرصة النادرة جدًّا التي لا تحصل سوى مرّة مِن مئة ألف إصابة.
فرحتي كانت لا تُقاس وعدتُ إلى بيتي لأفكّر مليًّا بالذي حصَلَ لي. هل يعقل أن يكون الله قد شفاني بهذه الطريقة العجائبيّة؟ ولِما أنا وليس أحدًا غيري؟ بما كنتُ أتميّز عن سائر الناس والمرضى؟ لم أصل إلى جواب طبعًا، ففضّلتُ الإتصال بخطيبتي التي بدأَت تصرخ مِن الفرح لدى سماعها الخبر وركضَت إليّ بعد أقل مِن نصف ساعة. بدأنا نحلّل سويًّا وتوصّلنا إلى نقطة وحيدة: شفائي لم يكن صدفة بل هديّة مِن الله عليّ المحافظة عليها واستغلالها. فإذا كان القدير قد جعَلَ الكتلة تختفي ودعاني أعيش، فذلك لسبب معيّن، أي أنّ لي دورًا ألعبُه في هذه الحياة، لكن ما هو؟
أوّل شيء فعلتُه كان إخبار كلّ مَن حولي بالمُعجزة التي حصَلَت لي، طالبًا منهم الإيمان بقدرة الله وعدَم الإستسلام، وسمحتُ لطبيبي بنشر تقرير عن شفائي. كنتُ أريد أن يعلم العالم بأسره بأنّ لا شيء مُستحيلاً على مَن يؤمِن.
تلاميذي بدورهم تأثّروا بالذي حصَلَ لي وبشكل مباشر. فعندما رأوا أستاذهم الذي تغيَّبَ بسبب مرضه الفتّاك يعود إليهم بكامل صحّته وقوّته، فهمِوا أنّ اليأس ممنوع والأمل موجود في كلّ لحظة، وما هو أهمّ، أنّ قوّة خارقة تسهرُ علينا جميعًا ولا تتركُنا لوحدنا.
وما لَم أكن أعرفُه، هو أنّ أحد تلاميذي كان ينوي الإنتحار بسبب ظروفه في البيت. فقد كان أبوه رجلاً قاسيًا وعنيفًا، وأمّه امرأة جاهلة وضعيفة، فضاعَ ذلك الشاب وسط عائلة فيها مشاكل كثيرة. والذي زادَ مِن يأسه، كان عدَم مشاطرة فتاة حبّه، فقرّر أنّ لا معنى لحياته طالما أنّه كان متروكًا هكذا. وكان المسكين سيُنفّذ ما في باله لولا سماعه بقصّة شفائي. عندها جاء إليّ وقال:
ـ أصحيح ما سمعتُه؟
ـ أجل يا بنيّ... وهل سبَقَ أن كذبتُ عليكم؟
ـ لا ولكن... لم أسمَع عنكَ أنّكَ رجل متديّن.
ـ لم أكن كذلك، لكنّني طلبتُ مِن الله أن يشفيني وقد استجابَ لي.
ـ لماذا فعَل؟ أعني...
ـ سألتُ نفسي السّؤال ذاته ولا أملكُ الجواب، لكن ما أعرفُه هو أنّ حياتي بدأَت لحظة وقوع المعجزة. فلقد أعطاني القدير فرصة ثانية ولستُ مستعدًّا للإستهتار بها. الحياة ثمينة وجميلة يا بنيّ، صدّقني.
ـ حتى لو أنّ كلّ شيء مِن حولنا بشع؟
ـ حتى لو الدنيا بأسرها تهبط على رأسكَ. طالما هناك نفَسٌ واحدٌ في صدركَ، فهذا يعني أنّكَ محظوظ لأنّكَ حَي. أتعرف لماذا؟
ـ لماذا؟
ـ لأنّكَ مع كلّ بزوغ ضوء قادر على تغيير شيء بحياتكَ وحياة الآخرين.
خرَجَ الطالب مِن مكتبي ليعود بعد حوالي الأسبوع، ويعترفَ لي بأنّه كان ينوي قتل نفسه وأنّه عدَلَ عن ذلك بفضلي. عانقتُه وجعلتُه يُقسمُ لي بإخباري إن عاودَته تلك الأفكار، لكن مِن نبرة صوته والنظرة التي كانت في عَينَيه، علِمتُ أنّه فَهِمَ كَم أنّ الحياة ثمينة.
هل أنّ الله شفاني لأُنجد حياة ذلك الشاب؟ هل كانت المسألة حياة لإنقاذ حياة؟ وهل كان تلميذي سيكبر ليُصبح رجلاً مهمًّا ويُنقذُ بدوره آخرين أو حتى البشريّة بأسرها بفضل اختراع أو اكتشاف ما؟
مرَّت السّنوات، وتزوّجتُ مِن خطيبتي وأنجبنا الأولاد، وبقيتُ أكلّم الناس عن تجربتي، لكنّ تلميذي لم يُصبح إنسانًا غير اعتياديّ بل رجلاً شأن باقي الرجال، إلا بفارق واحد: كان سعيدًا في حياته. كنتُ قد أخطأتُ بفهم ما أرادَه الله مِن شفائي، لأنّني لستُ سوى إنسان وهو الله القدير. فلَم يكن مِن المهمّ مَن سيكون تلميذي أو ماذا سيفعل، بل هو إنسان، وحياته غالية وثمينة.
فالله لا يُحبّنا مِن أجل ألقابنا وإنجازاتنا، بل يُحبّنا وحسب، حبًّا لن نستطيع يومًا أن نشعر به تجاه أحد لأنّه مجّانيّ وكامل.
وأنا بعد أن فهمتُ كلّ ذلك، لم أعد أترقّب تطوّر تلميذي الإجتماعيّ أو الماليّ أو الثقافيّ، بل اطمأنّ بالي عليه. فما كان مِن المفروض أن يحصل حصَل فعلاً.
هل أنقذتُ مِن دون معرفتي أكثر مِن شخص؟ لن أعلم الجواب أبدًا وهذا لا يهمّ، فإرادة الله أقوى مِن كلّ الحسابات والتخمينات والتحليلات.
حاورته بولا جهشان