للتربية دور كبير في المنحى التي ستأخذُه حياتنا، حتى لو مرَرنا بِتجارب كثيرة والتقَينا بِأناس عديدين. فهي الأساس الذي يُبنى عليه الطفل، وإن كانت تلك الأسس قويّة فلَن يهزَّ شيءٌ كياننا ويُبعدُنا عن الطريق الصحيح.
وُلِدتُ وأختي الصغرى لِعائلة متوسّطة الدّخل ولَم نحتَج لِشيء طيلة طفولتنا. إلا أنّ أبي خَسِرَ مبلغًا كبيرًا في صفقة غير ناجحة، ووجَدنا أنفسَنا في ضيق ماليّ مَلموس ومُزعج للغاية. أرادَت أمّي إيجاد عمل، لكنّ والدي بقيَ مُمانعًا إلى أن أصابَنا أخيرًا الفقر.
هل ساعَدَ الحزن والندَم مرَضَ أبي على التفشّي به؟ لستُ أدري لكنّه ماتَ بعد فترة وشعَرنا جميعًا بِغيابه وسكَنَنا اليأس. فبِرحيله، ذهَبَ معه أيّ أمَل لاستعادة حياة كريمة.
مرَّت السّنوات ببطء وصعوبة كبيرة، إلا أنّنا أنهَينا دراستنا، واستطَعنا الحصول على عمل يرفعُ مِن مستوى عيشنا وحمَدنا ربّنا على كرَمه. هكذا كنّا، نؤمِنُ بِرعاية الخالق لنا ونتبعُ تعاليمه حرفيًّا، الأمر الذي جعَل منّا صبيّتَين خلوقتَين. في تلك الأثناء، كان عمّي قد تزوَّجَ مِن سيّدة ثريّة وأمِلنا سرًّا أن يُساعدَنا على الإستمرار، لكنّه لَم يفعَل لِكثرة انشغاله ِبصرف المال على نفسه وعلى إبنه الوحيد. لَم نزعَل منه، فما يفعله بِماله، أو بالأحرى بِمال زوجته، كان مِن شأنه.
لكنّ فاضلة، زوجة عمّي، كانت ذكيّة بِقدر ما كانت ثريّة. وبعدما رأَت كيف أنّ مالَها يذهبُ منها بِسرعة، ضيّقَت الخناق على زوجها وابنها وصارَت تعيشُ وإيّاهما وكأنّهم أكثر مِن متوسّطيّ الدَخل. لَم نعرف بالأمر إلا حين اشتكى عمّي أمامنا مِن بخل فاضلة، مُبرّرًا مُتأخّرًا، عدَم مُساعدته لنا.
للحقيقة، لَم نصدّقه بل اعتقدَنا أنّه يكذب علينا كي لا نُفكّرَ حتى بِطلب المال، إلى حين دقَّت فاضلة بابَنا سرًّا في أحد الأيّام. كان عميّ وابنه قد ذهبا إلى القرية، فاغتنمَت زوجته تلك الفرصة لِتنفيذ ما في بالها.
تفاجأنا بِفاضلة لأنّها لَم تأتِ لِزيارتنا يومًا، على الأرجح لأنّنا لَم نكن مِن مستواها الإجتماعيّ، لكنّنا استقبلناها بِلطف شديد. لَم تشأ زوجة عمّي إطالة هذه الزيارة فقالَت لنا مِن دون مُقدّمة مُشيرة إلى حقيبة صغيرة كانت مُمسكة بها منذ وصولها:
ـ سمِعتُ عنكما أشياءَ حميدة... ليس ذلك إطراءً بل حقيقة. الكلّ يشهدُ بنزاهتكما لِذا لَم أذهب إلى غيركما. أريدُكم أن تحتفظا بهذه الحقيبة إلى حين أطلبُها منكم. لا أريدُ أن يعرفَ أحدٌ بالأمر، خاصّة زوجي وإبني. هي ليست مُقفلة فيمكنُكم تفحّص ما بِداخلها. أرجوا ألا أكون قد أخطأتُ الإختيار... فثقتي بالناس ضئيلة. كونا عند حسن ظنّي.
قبِلنا الإحتفاظ بالحقيبة لكنّنا لَم نرَ ما بِداخلها لأنّ ذلك لَم يكن يعنينا. بالطبع شكَكنا بأنّها تحتوي على المال أو أوراق دقيقة، فوضعناها في أسفل خزانة الملابس وغطيناها بَغطاء قديم كي لا تلفتَ النظر.
وحدها أختي الصغرى أحبَّت معرفة نوعيّة الكنز الذي كنّا نحتفظُ به. لكنّ أمّنا قالت لنا:
ـ هذه الحقيبة هي أمانة لدَينا ولا شأن لنا بِمحتواها. أبغضُ الأمور أن يخونَ المرء ثقة الناس به، فإن تخطّينا الخطوط الحمر التي تمنعُنا مِن اقتراف الذنوب، سنصير أناسًا أشرارًا ونفقدُ نعمة الله. صحيح أنّنا فقراء، لكن أثرياء بأخلاقنا الحسنة. لا أريدُ سماع هذا الموضوع بعد الآن، سننسى ما في الخزانة إلى أن تأتي صاحبتُها لتُطالبَنا بها. مفهوم؟
إمتلأ قلبي بالفخر لدى سماع أمّي ونسيتُ الموضوع كليًّا... ما عدا أختي التي رأت أنّ فاضلة مدينة لنا بما أسمَته "تكاليف حراسة".
لكنّ زوجة عمّي توفّيَت بعد أقلّ مِن خمس سنوات وركضَ زوجها وابنها إلينا مُطالبين بالحقيبة. مِن الواضح أنّ الفقيدة قد أخبرَتهما بأنّها موجودة لدَينا. فحين صارَ الضيوف عندنا، قال لنا عمّي:
ـ كانت فاضلة... كيف أقولُ لكم ذلك... مُتمسّكة بمالها، وهذا حقّها، طبعًا. في البدء، أعطَتنا القليل ممّا أنعَمَ عليها به الله، ومِن ثمّ لا شيء.
عندها قلتُ له بِوقاحة:
ـ ربمّا يا عمّي لأنّكما صرفتُما الكثير بِوقت قصير!
أسكَتَتني أمّي ِبسرعة:
ـ هذا ليس مِن شأننا يا إبنتي.
لكنّني لَم أسكت:
ـ أو ربمّا يا عمّي العزيز، فعَلَت زوجتُكَ ذلك لأنّكَ نسيتَ بِسرعة عائلة أخيكَ المُحتاجة.
إرتبكَت والدتي واحمرَّ وجه عمّي لكنّه قال:
ـ قد تكونين على حقّ يا إبنة أخي... لكنّنا جئنا اليوم لِنأخذ ورقة واحدة مِن الحقيبة وليس مُحتواها بالكامل. وسأصحّح نسياني لحاجاتكم قريبًا.
لَم يتسنَّ لي الردّ بأنّنا لَم نعد بحاجة إلى حسناته لأنّنا صِرنا نعمل، إلا أنّ والدتي أسرعَت بِسؤاله عن أيّة ورقة يُريدُها. ومِن ثمّ دخلَت الغرفة وأغلَقَت الباب وراءها وفتحَت الخزانة ومِن ثمّ الحقيبة وعادَت بِورقة أعطَتها لأخ زوجها. لكنّ وجهها كان مخطوف اللون وسألتُ نفسي عمّا رأته في الحقيبة. رحَلَ ضيفانا ولَم نتكلم في الموضوع، لكنّنا علِمنا بعد فترة قصيرة أنّ عمّي باعَ قطعة أرض كبيرة كانت تملُكها فاضلة وقبضَ مبلغًا طائلاً. بالطبع لَم يعرض علينا أيّة مُساعدة، ولَم نكن نتوقّع منه ذلك على كل حال.
وصارَ عمّي يأتي بين الحين والآخر ويطلبُ أوراقًا أخرى مِن الحقيبة ويبيعُ أراضي وبيوت زوجته الراحلة الواحدة تلوَ الأخرى. كان يصرفُ المال الذي يحصل عليه بسرعة فائقة على أمور تافهة، أي السهرات والرحلات خارج البلاد بِرفقة ما أسماهنّ "صديقاته." حَزِنّا طبعًا على أملاك المسكينة زوجته، فهي لَم تكن لِتقبَل بأن يُصرَف مالها هكذا. لماذا إذًا أخبرَته عن الحقيبة ومكانها؟ كنّا سنعرفُ الجواب خلال إحدى زيارات عمّي لنا حين قال إنّه علِمَ بالأمانة التي وُضِعَت عندنا ليس مِن فاضلة مُباشرةً بل مِن مُكالمة سمعها سهوًا. وأضافَ ضاحكًا: "لقد فضحتُ أمر تلك البخيلة رغمًا عنها! ها ها ها!"
بقيَت أرزاق فاضلة تُباع خلال سنوات لِكثرتها، وبقيَ عمّي يُبدّدُ المال يمينًا ويسارًا حتى لَم تعُد هناك مِن أوراق في الحقيبة. وسرعان ما صارَ شأنه كشأننا، أي صار إنساناً فقيراً، لا يملك شيئاً. كانت قد وصلَت إليه فرصٌ عديدة ليَبني لِنفسه ولإبنه مُستقبلاً مُريحًا، إلا أنّه فضَّلَ ملذّاته على التعقّل. ولَم أسمَعه ولو مرّة واحدة يشكُرُ المرحومة زوجته على الذي تركَته له، بل اعتبَرَ ذلك حقًّا مِن حقوقه.
خلال تلك الفترة كنتُ قد تزوّجتُ وأنجبتُ وكذلك أختي، وكنتُ أروي لأولادي قصّة الحقيبة ومغزاها عن الأمانة والجشَع كي يكبروا ويصبحوا أناسًا ذوي أخلاق عالية.
وذات يوم، طلَبَت والدتنا أن ترانا في بيتنا أنا وأختي. كانت لهجتها جدّيّة للغاية، وخفنا أن تكون مُصابة بِمرض عضال وتريدُ زفّ الخبر السيء لنا. إلا أنّها كانت بِصحّة جيّدة واستقبلَتنا بالفرح والبسمة. وبعد أن جلَسنا جميعنا في الصالون، أخذَت نفَسًا عميقًا وقالت لنا:
ـ يا ولديّ... ما سأقولُ لكما سيُفاجئكما للغاية وقد يُزعِلكُما.
ـ ما الأمر يا ماما؟ تكلّمي!
ـ أتذكُران يوم جاء عمّكما وابنه إلينا لأوّل مرّة بعد موت زوجته؟
ـ أجل.
ـ وطلَبَ منّي جلب له ورقة معيّنة مِن الحقيبة؟ عندما فتحتُها، وكانت تلك أوّل مرّة، وجدتُ مجموعة مِن صكوك تعود لأراض وبيوت... وكميّة مِن المجوهرات الثمينة.
ـ مجوهرات؟!؟
ـ أجل، وفي قعر الحقيبة رسالة مِن فاضلة لي شخصيًّا تقولُ فيها: "يا سميرة، لن أجدَ أفضل منكِ للحفاظ على محتوى الحقيبة... أي كلّ ما أملكُ. لقد تزوّجتُ للأسف مِن رجل طمِعَ بي وبِثروتي وأعرفُ أنّه سيأخذُ منّي كلّ شيء. لِذا أضعُ ما لدَيّ بين يدَيكِ الأمينتَين. إن حدَثَ ومتُّ قبل استرجاعي الحقيبة، خُذي وابنتَاكِ المجوهرات بِكاملها واتركي لِزوجي وإبني صكوك الأراضي والمنازل، فهو سيعرف بها يومًا.
وقامَت أمّي مِن مكانها وعادَت مع الحقيبة وفتحتها أمامنا. لن أستطيع وصفَ ما رأيتُه تمامًا. فالأمر كان وكأنّني أنظرُ إلى ألف ضوء وألف لون... وأزحتُ عَينيّ مِن كثرة الوهج. ركضَت أختي وصارَت تُخرجُ العقود والأساور والخواتم المُرصّعة بالماس والأحجار الكريمة، وتلبسُها وتدورُ بها في الصالون وهي تصرخُ وتبكي. ضحكتُ لهذا المشهد إلا أنّني نظرتُ إلى أمّي ورأيتُها غير ممتنّة، وعلِمتُ حينها أنّنا لن نأخذَ شيئًا مِن تلك الحقيبة، فكنتُ أعرفُ والدتي جيّدًا. لِذا سألتُها:
ـ ستُعطين المجوهرات لِعمّي؟!؟ لَم تكن فاضلة تريدُكِ أن تفعلي ذلك! هل تُغضبين ميّتة؟
ـ لن أعطي شيئًا لِعمّكِ لأنّه سيصرفُ ثمَن المجوهرات على النساء. لكنّنا لن نأخذَ شيئًا كذلك.
ـ لماذا يا أمّي؟!؟
ـ لأنّنا لَم نعُد بِحاجة إلى المال. صحيح أنّنا لسنا أغنياء لكنّنا لسنا فقراء. لدَيكما أعمالكما وزوجاكما وتعطياني ما يكفيني للعَيش بكرامة. هناك مَن هم بِحاجة ماسّة إلى أبسَط الأمور. أم أنّكما تُريداني أن أفعل مثل عمّكما وأنسى الفقراء؟
ـ لا يا أمّي.
باعَت والدتي المجوهرات ِبسعر جيّد وفرّقَت المال على الفقراء والجمعيّات ودور الأيتام. في البدء، أسِفنا بعض الشيء وتمنَّينا لو أبقَينا ولو قطعة مجوهرات لكلّ منّا، إلا أنّنا فهِمنا أنّ ما لدَينا هو أثمن مِن أيّ شيء في العالم: أمّ عظيمة ربّتنا بِطريقة عظيمة، ونَفسٌ كبيرة مليئة بِمحبّة لا حدود لها.
حاورتها بولا جهشان