صعدتُ في الباص وقلبي يخبط مِن الخوف، بعدما مشيتُ مسافة طويلة حاملة حقيبة صغيرة. لم أنظر ورائي خوفًا من رؤية رواد زوجي يلحق بي ليُعيدني إلى البيت. في ذلك اليوم كنتُ قد قرّرتُ أخيرًا أن أضع حدًّا لظلم ذلك الرجل لي. فالحقيقة أنّني أمضَيتُ معه سنتَين لن أنساهما أبدًا لأنّني ذقتُ خلالهما الأمرَّين. لم أختَر رواد بل فُرِضَ عليَّ مِن قِبَل أهلي الذين رأوا فيه مصدر مال وراحة، ولم يتكبّدوا عناء السؤال عنه حتى. ولو فعلوا، لعلِموا أنّه طاغٍ وأنانيّ لا يتردّد عن إهانة النساء وضربهنّ، لأنّه كان يعتبرهنّ صنفًا وضيعًا لا يفهم سوى بالقساوة.
وما شجّعَني على الهروب كانت معرفتي بوائل. حدَثَ ذلك عندما كنتُ، ولكثرة مللي وحسرتي، أتصفّح الانترنت، ووجدتُ موقعًا يعِد المنتسبين بإيجاد الحبّ الحقيقيّ. لم أضع صورة لي، وكذبتُ بشأن كل ما يتعلّق بي، وبدأَت تأتيني الرسائل مِن رجال يبحثون عن شريكة حياتهم. واحد فقط لفَتَ انتباهي بسبب وسامته وقدرته على الاستماع والاستيعاب. أخبرتُ وائل قصّتي وهو واساني، ومع مرور الأيّام والأحاديث، بدأتُ أشعر تجاهه بتعلّق شبيه بالحب. كان ذلك الشاب نافذتي الوحيدة على العالم، إلا أنّني لم أتصوّر أبدًا أنّني سألتقي به يومًا أو أهرب إليه.
حدَثَ ذلك بعدما طفَحَ كيلي مِن حالتي، خاصّة أنّ رواد، في إحدى نوبات غضبه، هدّدني بأنّه سيقتلني يومًا ليتخلّص مِن المصيبة التي أُلصِقَت له. وأنا صدّقتُه، لأنّني كنتُ أعلم أنّه قادر على القيام بما هو شنيع جدًّا، وكدماتي كانت خير دليل على ذلك.
عندما علِمَ وائل بأنّ زوجي يحلم بالقضاء عليّ، توسّل إليّ كي أترك البيت بأسرع وقت ممكن وآتي إليه. تردّدتُ كثيرًا فلم أكن أعرف منقذي شخصيًّا، بل كنت أتبادل الرسائل معه فقط ونتكلّم بصورة نادرة عبر الهاتف.
خفتُ كثيرًا مِن أن يعرف رواد بالذي أخطّط له، لأنّه كان ليقتلني على الفور، وغيّرتُ رأيي مرّات عديدة. إلا أنّ وائل بقيَ مصرًّا على أن أوافيه إلى تلك البلدة البعيدة. كان ذهابي إليه جنونًا، والذي دفعَني على أخذ ذلك الباص كان الضرب الذي تعرّضتُ إليه قبل ساعات قليلة على يد زوجي لأنّ الطعام لم يكن يُعجبُه.
إستقليت الباص ساعات طويلة، ورأيتُ مِن النافذة تتالي مختلف المدن والأماكن. وحين وصلتُ أخيرًا إلى وجهة سفري، كان قد حلّ الليل منذ وقت طويل. نزلتُ في المحطّة ونظرتُ مِن حولي بقلق: ماذا لو لم يأتِ وائل؟ ماذا كان سيحلّ بي؟ فالعودة إلى البيت لم تكن أبدًا واردة، ولم أكن أملك سوى مبلغ لا يكفي ليوم واحد. وسمعتُ أحد ينادي:" فاتن؟ أهذا أنتِ؟"
إستدَرتُ ورأيتُ شابًّا واقفًا ورائي، ولم أستطع رؤية ملامحه جيّدًا بسبب الظلمة، إلا أنّني علِمتُ أنّه هو. فمَن سيعرف مَن أكون سواه؟ مشيتُ نحوه ببطء، وإذ بي أدرك أنّ ذلك الشاب لا يُشبه بأيّ شيء وائل الذي رأيتُ له صورًا عديدة. إحترتُ لأمري وكنتُ على وشك إكمال طريقي إلى خارج المحطّة حين قال لي:
ـ لم تخطئي... أنا وائل وأنا آسف لأنّني كذبتُ عليكِ بشأن شكلي الخارجيّ، لكن ليس بمشاعري. كما ترَين لستُ وسيمًا أو طويل القامة... أنا رجل عاديّ يُحبّكِ بكلّ جوارحه.
وقفتُ أمامه مسمّرة لا أدري بماذا أفكّر أو أقول. فطوال مدّة أشهر تخيّلتُ وائل كما رأيتُه في صوَره وليس كما هو فعلاً. ولا أخفي أنّ ظنّي خابَ كثيرًا. ولو وضَعَ صوَره الحقيقيّة مِن الأوّل، لمَا اختَرتُه بالذات. إلا أنّني لم أعد قادرة على التراجع بعدما تركتُ كلّ شيء ورائي وأغضبتُ زوجًا قاسيًا ومجرمًا.
أعطيتُ وائل حقيبتي بصمت، ولحقتُ به إلى سيّارته حيث جلستُ أيضًا بصمت. هو حاول التحدّث معي، لكنّه سكَت بعدما أدركَ مدى امتعاضي.
لم أتخيّل لقاءنا هكذا، بل كنتُ أريد أن أركض إليه وأرتمي بين ذراعَيه القويّتَين، وأهمسُ له أنّني أحبّه أكثر مِن أي شيء أو أحد في العالم.
وصلنا إلى فندق صغير للغاية، وهناك أعطاني الموظّف غرفة صغيرة أيضًا وانسحَبَ وائل بصمت قائلاً: "سأمّر بكِ غدًا... إرتاحي قليلاً... سامحيني."
لم أنَم في تلك الليلة ولم أرتَح، بل بقيتُ أفكّر بالذي سيحصل لي بعدما أنهار أمَلي الوحيد. إستعرضتُ بفكري كلّ الأماكن الممكنة حيث لدَيَّ أقارب أو أصدقاء قدامى، إلا أنّني لم أجد أحدًا أثق به كفاية للجوء إليه. لِذا انتظرتُ الفجر لأرى ما سيحصل لي.
بعد ساعات عادَ وائل، واتصَلَ بي مِن مكتب الاستقبال وانتظرَني حتى نزلتُ إليه. في ضوء النهار كان وائل أقبح مِن الأمس، وشعرتُ باشمئزاز كبير تجاهه لم أحاول اخفاءه. فالذنب كان ذنبه ولم أسامحه على غشّي هكذا.
ذهبنا إلى مقهى صغير، وجلسنا نتناول الفطور بينما بدأ وائل يقصّ أسباب كذبه عليّ. كان مِن الواضح أنّه لم يكن محبوبًا مِن النساء، لكنّه، وحسب قوله، كان يملك قلبًا مِن ذهب والكثير مِن العواطف النبيلة. لم أصدّقه، فكيف أفعل بعدما كذبَ عليّ هكذا؟ وهو وعَدَني بأن يُثبت لي أنّ الشكل الخارجيّ ليس مهمًّا بقدر الشهامة والشخصيّة والمحبّة. كنتُ أعرف كلّ ذلك، والحقيقة أنّني لم أعلّق يومًا أهميّة للجمال، إلا أنّني لم أجد وائل على ذوقي، خاصّة بعدما أراني صورًا لشاب فائق الوسامة. سألتُه عن مصيري وعمّا كان ينوي فعله بي، وهو أجابَني أنّه سيتركني أقرّر ذلك. وما سيفعله في تلك الأثناء، كان تأمين المسكن والقوت لي، وإيجاد عمل إن كنتُ أرغب بذلك. قبِلتُ على الفور، فالعمل كان وسيلتي الوحيدة للخروج مِن المأزق الذي جُرِرتُ إليه. فبعدما أجني ما يكفي، سيكون مِن السهل عليّ الرحيل مِن ذلك المكان وبعيدًا عن وائل.
بقيتُ أعيش في الفندق وآكل في مطعمه، وبدأتُ أعمل في مصنع كبير للأخشاب خارج البلدة، وبقيَ وائل يزورني كلّ يوم للإطمئنان عليّ. لم يعد يجرؤ المسكين على فتح موضوع حبّنا، أو أيّ موضوع متعلّق بمستقبلنا، وشكرتُه ضمنًا على ذلك.
مرَّت الأشهر بهدوء، وأحببتُ عملي في المصنع وبدأتُ أتعلّق بتلك البلدة الصغيرة وناسها. تعوّدتُ أيضًا على وائل، ولم أعد أراه قبيحًا لكنّني لم أستطع أن أحبّه. كلّ ما شعرتُ تجاهه كان الإمتنان العميق لِما فعلَه مِن أجلي. خطئي الوحيد كان أنّني نسيتُ أمر رواد زوجي وخلتُه ارتاح منّي برحيلي، إلا أنّه لم يقبل أن تتركه امرأة وأخَذَ يفتّش عنّي إلى أن وجَدَني أخيرًا.
ففي أحد الأيّام رأيتُه واقفًا أمامي في المصنع يصرخ عاليًا ويُهدّد. بدأتُ أرتجف مِن الخوف وأبكي، بينما أمسك هو بيدي وبدأ يجرّني خارجًا لإعادتي إلى البيت وقتلي هناك. لم يجرؤ أيّ مِن العاملين على الدفاع عنّي، بعدما رأوا بيده سكينًا كبيرًا، وشعرتُ أنّني سأموت حقًّا.
وبلحظة واحدة ظهَرَ وائل ولكَمَ رواد بقوّة خارقة. تعاركَ الرجلان بعنف إلى أن تغلّبَ أخيرًا وائل على زوجي الذي فقَدَ الوعي. عندها عانقَني منقذي وشعرتُ بالدفء والأمان بين ذراعَيه. سألته:
ـ ماذا تفعل هنا؟
ـ أنا مالك المصنع... وهل تظّنين أنّني كنت سأدعكِ تعملين في مكان غير آمِن؟ سأتصل بالشرطة على الفور.
ـ لا! لا تفعل! سيُعيدوني إلى رواد، فهو زوجي ويحقّ له المجيء لأخذي معه.
ـ حسنًا.
طلَبَ وائل مِن بعض العاملين حمل رواد إلى مكتبه واختفى معهم. بقيتُ جالسة في القاعة أرتجف مِن الذي سيحصل لي، وأستعيد بذاكرتي كيف قاتَلَ وائل مِن أجلي متجاهلاً الخطر الكبير الذي كان يُشكلّه زوجي وسكيّنه.
بعد أكثر مِن ثلاثة ساعات، عاد وائل إليّ مبتسمًا وقائلاً:
ـ إنتهى الموضوع، لن يُزعجكِ زوجكِ بعد الآن.
ـ يا إلهي! قتلتَه؟!؟
ـ لا! لستُ مجرمًا يا حبيبتي... ما في الأمر أنّني أخفتُه وأقنعتُه بالتخلّي عنكِ. سيُطلقّكِ غدًا وستصبحين امرأة حرّة، وإن شئتِ سأعطيكِ ما يلزم لتبدئي حياة جديدة أينما شئت.
ـ أشكركَ على كلّ ما فعلتَه مِن أجلي، وأعتذر عن تصرّفي الفظ معكَ... لا أريد الرحيل، فالحياة في البلدة والعمل في المصنع يُعجباني... وأنتَ أيضًا بدأتَ تعجبني... كنتَ على حق، الشكل الخارجيّ لا شيء مقارنة بالنبل والأخلاق.
بعد فترة ليست بطويلة قبلتُ الزواج مِن وائل، وعلِمتُ أنّه رجل ذو نفوذ قويّ ومال وفير، وهما الأمران اللذان أقنعا رواد بتطليقي، فهو لم يكن مستعدًّا لمواجهة رجل قويّ إجتماعيًّا وجسديًّا لأنّه كان بكلّ بساطة جبانًا. فمَن غير الجبان يهين النساء ويضربهنّ؟
حاورتها بولا جهشان