البيت المخيف

عندما انتقَلنا للعيش في ذلك البيت، كنتُ خائفة جدًّا وتوقَّعتُ الأسوأ. لماذا هذا الخوف العميق الذي امتلكَني لحظة وقعَت عينايَ عليه؟ للحقيقة لستُ أدري. كنتُ قد قلتُ لعاطف زوجي وأنا أقف أمام المبنى:

 

ـ لا أريد الدّخول!

 

ـ ما الأمر يا حبيبتي؟ أنتِ تحبّين كلّ ما هو قديم ولقد فتّشتُ كثيرًا لأجد لكِ هذا المسكن... على الأقل أدخلي وأنا متأكّد مِن أنّكِ ستحبّينه... هيّا، لا تتصرّفي كالأطفال!

 

كان على حق، فانزعاجي لم يكن منطقيًّا أبدًا، لِذا دخلتُ البيت ولكن ببطء ملحوظ، وكأنّني كنت أخشى أن يكون هناك ما ينتظرني في الداخل.

كان الصّالون فائق الكِبر وتحيط به عواميد عالية، أمّا الأرض فكانت مغطّاة ببلاط جميل للغاية. نظرتُ إلى السقف، وشعرتُ بدوار شديد، وكِدتُ أن أقع لو لم يركض عاطف إليّ ويُمسك بي ضاحكًا:

 

ـ أرأيتِ؟ المشهد مهول!

 

إبتسَمتُ رغمًا عنّي، وجلستُ على كرسيّ كان قد تركَه لنا الوسيط العقاريّ. لم أكن أريد أبدًا رؤية باقي البيت، إلا أنّني فعلتُ ذلك إكرامًا لزوجي. كانت الغرف كبيرة أيضًا ومزيّنة بزجاج ملوّن، أما المطبخ فكان عملاقًا، يعتليه طابق أوسط مخصّص للمونة تقود إليه درجات حجريّة.

عندما انتهَت الزيارة لم أكن بحالة أفضل، ولكنّني ادّعَيتُ العكس لأنّ عاطف كان أكثر مِن ممتنٍ:

 

ـ هذا هو البيت الذي سنسكن فيه ونبني عائلتنا الجميلة.

 

ـ أجل...

 


وتزوّجنا. وبعد عودتنا مِن شهر العسل إنتقلنا إلى ما كنتُ قد أسمَيتُه "القصر" بعد أن فَرَشَه عاطف بنفسه. هكذا كان زوجي، يأخذ القرارات ويُنفّذها لوحده. لماذا لم أعترض وتركتُه يفعل ما يُريده بكلّ شيء؟ لأنّه كان بمعظم الأحيان على حق، وكنتُ أحبّ ذلك فيه، خاصّة بعدما قضَيتُ حياتي أقوم لوحدي بكلّ الأمور في بيت أهلي.

في ليلتنا الأولى لم أذق طعم النوم، لأنّني كنتُ خائفة لا بل مرعوبة مِن أن يحصل شيء بشع. لو استطعتُ فهم خوفي أو ايجاد السبب لكنتُ تخطَّيتُه، ولكنّه بقيَ مبهمًا ومخيفًا أكثر.

ذهَبَ عاطف في اليوم التالي إلى عمله، وبقيتُ لوحدي أسأل نفسي كيف سأتدبّر أمري في مكان كهذا.

قلتُ لنفسي إنّ مِن الأفضل أن أُلهيَ نفسي بتحضير الغداء. وسرعان ما نسيتُ ما يشغل بالي أمام صعوبة الأمر، فلم أكن معتادة على الطهو.

وفجأة سمعتُ صوتًا غريبًا في أعلى الطابق الأوسط. توقّفتُ عن العمل، وانتظرتُ وقلبي يدقّ بسرعة لأتمكّن مِن تمييز نوعيّة الصوت. وساد السّكوت لِذا عاودتُ ما كنتُ أفعله، وإذ بالصّوت يعود.

عندها خلعتُ مئزري ووقفتُ أمام درجات الطابق الأوسط أنظر إلى الأعلى. كان المكان فارغًا ولا إمكانية لوجود فأر أو حشرات أو أيّ شيء آخر.

إمتلأت عَينايَ بالدّموع، وركضتُ أحبس نفسي في الغرفة بانتظار قدوم زوجي للغداء. وعندما وصَلَ، رمَيتُ نفسي في أحضانه شاكية له ما حصل. هزّ عاطف برأسه وأمسكَ بِيَدي وقادَني إلى المطبخ، وصعدَ أمامي إلى الطابق الأوسط ليصرخ لي مِن هناك:

 

ـ لا يوجد شيء هنا! إصعدي وانظري بنفسكِ.

 

ـ لا! لن أصعد مهما كلّف الأمر!

 

عندما نزل زوجي أخَذَني بين ذراعَيه وقال:

 

ـ لا أدري ما الذي يُزعجكِ بهذا البيت يا حبيبتي... إختَرتُه مِن أجلكِ وها أنتِ ترتعبين منه... يا ليت أمّكِ هنا لكانت ساعَدتني على طمأنتكِ قليلاً... فعندما أذهب إلى العمل تبقَين لوحدكِ هنا.

 

ـ إنّها عائدة مِن الولايات المتحّدة بعد أسبوع، ولكنّني لستُ بحاجة إلى أحد لأنّ خوفي عميق ولا يُفَسَّر.

 

بعد حادثة الطابق الأوسط لم أعد قادرة على دخول المطبخ، وبتنا نطلب مأكولات مِن المطعم. وفرحتُ كثيرًا لرجوع والدتي مِن سفرها. كانت المسكينة قد سافَرَت عند أخي لتتعالج بعد أن أُصيَبت بمرض عضال، ولم تستطع حضور زفافي إذ كان ذلك سيُشكّل خطرًا عليها.

تعانقنا مطوّلاً وبكينا بعد أن افترَقنا لمدّة تناهز السنة، وأعطَيتُها غرفة الضيوف حيث نامَت ساعات طويلة بسبب فارق الساعة بين بلدنا والولايات المتحّدة.

 

أحبَّت أمّي بيتنا كثيرًا:

 

ـ أهنّئكَ يا صهري على ذوقكَ الرفيع! المكان كبير بعض الشيء ولكنّني آمل أن يمتلئ سريعًا بالأولاد!

 


ضحكنا جميعًا، ومِن ثمّ أخبرَها عاطف عن مخاوفي التي انقلبَت إلى ذعر حقيقيّ. سكتَت أمّي مطوّلاً وهزَّت برأسها خاصة عندما ذكَرَ زوجي الطابق الأوسط. وفي حلول الليل، طلبَت منّي أمّي أن أوافيها إلى غرفتها. وعندما دخلتُ أقفلَت الباب وراءنا وجلَسنا على السرير وقالَت:

 

ـ لحظة ما دخلتُ بيتكِ شعرتُ وكأنّني رأيتُه مِن قبل.

 

ـ يعني ذلك أنّني لا أحلم! هناك شيء غريب هنا!

 

ـ لا يا حبيبتي، لا شيء غريب بل بيتكِ هو نسخة شبه طبق الأصل عن البيت المجاور لبيتنا في البلدة.

 

ـ حقًّا؟

 

ـ أجل وأظنّ أنّكِ نسيتِه مع أنّكِ كنتِ تمضين معظم وقتكِ هناك.

 

ـ حقًّا؟ ولماذا أفعل؟

 

ـ سكّان البيت كان لدَيهم ابنة وابن، وكنتِ تلعبين معهم وتحبّين قضاء وقتكِ معهما.

 

ـ إن كان ذلك صحيحًا فلماذا لا أتذكّر شيئًا، ولماذا أخاف مِن مكان يُشبه حيث كنتُ أمرح؟

 

ـ عقل الانسان شيء مخيف... يختار حجب ما يُزعجه ويُخيفه.

 

ـ ماما، الآن ليس الوقت لالقاء درس في العلوم، لم تعودي مدرّسة منذ وقت طويل! قولي لي لماذا أخاف مِن بيتي!

 

ـ كنتِ في الثامنة مِن عمركِ وكنّا مجتمعين حول المائدة مع باقي العائلة، كما كانت تجري العادة خلال فرصة نهاية الأسبوع، حين لاحظتُ غيابكِ. في البدء لم ينشغل بالي، فالأولاد يسأمون سريعًا مِن هكذا مناسبات. ولكن بعد أن نادَيتُكِ ولم تجيبي، أخذتُ أفتّش عنكِ في كلّ مكان. وسرعان ما انضمّ الجميع إليّ وقلَبنا البيت ومحيطه بحثًا عنكِ. خطَرَ ببالي أنّك قد تكوني ذهبتِ إلى البيت الكبير للّعب مع صديقَيكِ فقصدتُ المكان. كان أهل هذَين الولَدين قد ذهبا لزيارة أحد الجيران وكنتم أنتم الثلاثة لوحدكم، الأمر الذي لم أكن لأسمح به. فتحَت لي الفتاة، وعندما سألتُها عنكِ بدَت مُرتبكة، وعلِمتُ أنّ شيئًا لم يكن على ما يرام. أمسكتُها بكتفَيها وهزَّزتُها صارخة بها إلى أن قالَت لي: "هما في الطابق الأوسط في المطبخ". معظم المنازل الكبيرة كانت تحتوي على طوابق وسطى لتخزين المواد الأوليّة لفصل الشتاء يا حبيبتي، مثل بيتكِ تمامًا.

 

ـ أكملي، أرجوكِ يا ماما!

 

ـ حسنًا... دخلتُ المطبخ الذي كان يسود فيه صمت غير اعتياديّ، وصعدتُ الدرجات التي تؤدي إلى الطابق و... رأيتُ ذلك الولد وهو... ينزع عنكِ ملابسكِ.

 

ـ أنتِ تكذبين! لم يحصل ذلك أبدًا!

 

ـ بلى يا حبيبتي... كنتِ خائفة جدًّا وكان هو ينوي التحرّش بكِ، فلا تنسِي أنّه كان يكبركِ وأصبَحَ مراهقًا. صَرختُ بأعلى صوتي به وانتشَلتكِ مِن ذلك المكان المظلم وركضتُ بكِ خارجًا. بكيتِ كثيرًا وأخذتُ أطمئنكِ وأقبّلكِ. لم أقل شيئًا لأحد، وخاصة لأبيكِ كي لا أفتعل مشاكل مع هؤلاء الناس الأغنياء وأصحاب النفوذ. إكتفَيتُ بالإصرار على ترك البلدة نهائيًّا.

 

ـ يا إلهي... ولماذا لا أتذكّر شيئًا؟

 

ـ خوفكِ والصّدمة التي تلقَّيتِها حملا عقلكِ على حجب تلك الحادثة.

 

ـ إلى أن دخلتُ هذا البيت وخاصّة المطبخ!

 

ـ صحيح... لا يوجد أشباح هنا بل ذكريات مؤلمة.

 

بعد حديثي مع أمّي بقليل، عادَت إليّ الذكريات وشعوري بالعجز أمام ذلك الصبيّ، وركضتُ أخبر عاطف كلّ شيء طالبة منه ترك البيت. تفهّمَ زوجي الأمر، وبدأ بالبحث عن مكان آخر نعيش فيه. اليوم أنا أمّ لبنتَين جميلتَين ونعيش كلنّا في شقّة جميلة، وأبقي عينًا ساهرة على فتاتَيَّ مِن دون أن أخيفهما، فالأذى موجود ويختبئ في الزوايا المظلمة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button