كان ذلك الولد بمثابة ابني، وأحبَبتُه وكأنّه قطعة منّي مع أنّه كان ابن أخي. كان جاسم سببي الوحيد للعيش بعد أن ظلمَتني الحياة أكثر مِن مرّة. أعطَيتُه حناني وعطفي ووقتي ومالي... أعطَيتُه كلّ ما أملك مقابل ابتسامة منه أو معانقة أو حتى نظرة.
لم أتزوّج لأنّ الرجال الذين صادفتُهم خلال حياتي خذَلوني أو أرادوا استغلال قلبي الطيّب، الأمر الذي خلّف عندي خوفًا مِن الأذى. لِذا فضَّلتُ التركيز على دراستي وعملي على أمل أن يأتي الذي سيحملني على الوثوق به. ولكنّ ذلك الرجل لم يأتِ وبقيتُ وحيدة عاطفيًّا. كان لي أخ واحد وكنّا جدّ مقرّبَين مِن بعضنا، وكم فرِحتُ عندما تعرّفَ إلى سهام وطَلَبَ يدَها، لأنّني خفتُ أن يكون هو الآخر مصدومًا مِن الزواج أو الارتباط.
وكانت زوجة أخي امرأة رائعة، وسرعان ما أصبحنا صديقَتين وكان العيش معها فعلاً ممتعًا للغاية. ولكنّها لم تكن قادرة على الانجاب على الأقل في السنوات الأولى. وبعد أن جرَّبَت وأخي جميع العلاجات، تمكّنا أخيرًا مِن انجاب جاسم الذي تحوّلَ سريعًا إلى فخر واعتزاز لدى والِدَيه ولدَيَّ طبعًا. فكّنا قد حلِمنا به وتصوّرناه وهو في بطن سهام وحضَّرنا له الملابس والألعاب، ودهَنتُ وزيّنتُ غرفته بنفسي حتى يأتي الولد المنتظَر ويفرح بها.
ولكن كثرة الدلال لم تكن يومًا جيّدة للأطفال، وسرعان ما أدرَكَ جاسم أنّه العنصر الأساسيّ في لعائلة وأنّ كلّ شيء يدور حوله، فاستفادَ طبعًا مِن ذلك الوضع لنَيل كل ما طلَبته نفسه. وإن قال أخي لا له كانت أمّه تقبل معه أو حتى أنا، ولم يجد جاسم معارضة حقيقيّة أو
قوانين صارمة، بل انقسام في رسم الخطوط الحمراء التي تمنع الولد مِن التمادي وارتكاب الحماقات.
كنّا نرى جميعًا ما نفعله به، ولكن لم يُصحّح أيّ منّا طريقته ربمّا خوفًا مِن ازعال ذلك الكائن الثمين.
ومرَّت السّنون وزادَ جاسم مكرًا واتّكالاً وأهَمَلَ درسه ليتفرّغ لكلّ ما يجلب له الراحة واللذّة والاستفادة. فلِمَ يتعب عندما كان يحصل على مراده مِن دون أي عناء؟
ولكنّ أخي الحبيب توفّيَ فجأة تاركًا وراءه زوجة محبّة وأخت مفجوعة وابن فاشل، وبخسارته خسرنا أيضًا المدخول الذي كان يدرّه علينا راتبه. وصِرتُ المعيلة الوحيدة، الأمر الذي أزعَجَ جاسم لأنّه لم يعد قادرًا على الحصول على طلباته، بل صار يسمع جملة كرَهها لأقصى درجة: "ليس الآن... المال بالكاد يكفي للمأكل والمشرب".
وبدل أن يُحاول إيجاد طريقة لمساعدتي بالمصروف لأنّه كان قد أصبَحَ قادرًا على العمل، بدأ يكره أباه لأنّه مات وأمّه لأنّها لا تعمل ويكرهني لأنّني لم أكن أجني كفاية. تحمَّلتُ ملاحظاته البشعة وتصرّفاته الأنانيّة لأنّني أحبّه وكثيرًا. وكأنّ الأمر لم يكن كافياً، قرَّرتُ العمل ساعات اضافيّة لتأمين جميع سبل الراحة لابن أخي الحبيب.
ولكنّ سهام كانت قد سئمَت مِن تصرّفات ابنها وتوقّعَت منه أن يلبس دور ربّ العائلة بعد موت أبيه، أي أن يتحمَّلَ بعض المسؤوليّة تجاهنا، وبدأت تلومه باستمرار وتحثّه على ايجاد عمل بدلاً مِن الجلوس طوال النهار بلباس النوم. وهذا الأمر خَلَق توتّرًا ملموسًا بين الاثنَين وشجارات مستمرّة. وكان يأتي جاسم إليّ مشتكيًا ومتمنّينًا لو كنتُ أنا أمّه لأنّني أفهمه واحبّه أكثر. وهذا بالذات ما فرَّحَ قلبي. لا تسيئوا فهمي بل افهموا توقي للأمومة، ذلك الشعور الذي لم أشعر به يومًا. لِذا أخذتُ ومِن دون قصد أستميل جاسم إليّ وأبعده عن أمّه. ندِمتُ لاحقًا على الذي فعلتُه بعد أن أدركتُ أنّني تصرّفتُ بشكل خاطئ وأنانيّ.
وأصبحَت سهام غير المرغوب فيها وشعَرَت المسكينة أنّها تفقد يوماً بعد يوم دورها كأمّ أو حتى كشخص يعيش وسطنا. وأصيبَت بالاكتئاب ولم تعد تحب شيئًا أو أحدًا، الأمر الذي أغرقَها أكثر في النسيان.
وبتنا أنا وجاسم كالعائلة الصغيرة، وأذكر أنّه ولكثرة مكره ناداني مرّة "ماما" وذلك على مسمَع أمّه. وبالرّغم مِن أنّني فَرِحتُ كثيرًا، شعرتُ بالخجل تجاه سهام التي بكَت كثيرًا وركضَت إلى غرفتها وحبسَت نفسها هناك لأيّام. لم أحاول مواساتها ربّما لكثرة شعوري بالذنب وربّما لأنّني كنتُ قد حصَلتُ أخيرًا على مكانتي كأمّ.
وعمِلتُ جهدي على تأمين جميع طلبات "ابني" مقابل بعض الحنان مِن جهته، وهو فهِمَ ما كنتُ أطلبُه منه ولم يتردّد بمعاملتي كما أريد. وسرعان ما بدأ جاسم باهانة أمّه وعزلها تمامًا لأنّها كانت مِن دون منفعة له، إلى أن ساءَت حالتها النفسيّة واستلزمَت نقلها إلى مكان " ترتاح فيه".
وأخلا المكان لي ولابن أخي واستطعنا العيش حقّاً كعائلة. كنتُ أحضّر له أطباقه المفضّلة وأستقبل أصدقاءه الذين كانوا يُشبهونه أي فاشلين مثله، ولكنّني لم أكن أشتكي مِن شيء حتى عندما كان جاسم يأخذ منّي المال وبكثرة. كلّ ما كان يهمّني هو أن أشعر أنّني أمّه وأنّه يُحبّني.
ذهبتُ لزيارة سهام مرّات عدّة، ولكنّها لم تقبل أن تراني وبقيتُ مصرّة إلى أن سمحَت لي بالتكلّم معها. عندها قالت لي:
ـ جعلنا مِن جاسم مسخًا وكلّنا مذنبون ولكن أنتِ تفوقينه شرًّا... كم أنّكما متشابهان... ربّما مِن الأفضل أن تبقيا مع بعضكما... ولكن أيّاً منكما سيأكل الآخر؟ الجواب معروف يا عزيزتي.
ـ سامحيني يا سهام... لا أدري كيف توصّلتُ إلى هذا الحدّ... لطالما أرَدتُ ابنًا و...
ـ هنيئًا لكِ... خذيه... ولا تعودي إليّ باكية فهذه آخر مرّة ترَينَني بها".
عُدتُ إلى البيت والحزن يملأ قلبي، ولكنّني لم أغيّر شيئًا بمعاملتي لجاسم وأمسيتُ رهينته. وكم كنتُ أتألمّ عندما كان يغيب أيّامًا طويلة ولا أعلم شيئًا عنه، ليعود ويُطالبني بالمزيد مِن المال أو يأتي لي بأولئك الأصدقاء لأحضّر لهم الأكل وأغسل ثيابهم.
صحيح أنّني كنتُ أشعر أنّني أمّ، ولكنّني كنتُ مدركة أنّني أمّ سيّئة، فأنا لم أسأل جاسم ولو مرّة عن تلك الغيابات أو عن هؤلاء الأصدقاء، ربّما خوفًا مِن أن يزعل منّي ويحرمني منه. ولكن هذا بالضبط ما فَعَله بعدما سئِمَ منّي ومِن العيش معي وبعد أن وجَدَ مكانًا آخرًا أكثر منفعة.
فذات يوم، رأيتُه يحزم حقيبته وعندما سألتُه عن السبب، قال لي:
ـ أنا راحل ولن أعود... لقد وجدتُ امرأة.
ـ كم أنا فرحة مِن أجلكَ حبيبي! أخبرني عن تلك الفتاة.
ـ قلتُ امرأة وليس فتاة... إنّها أرملة وتكبرني بأكثر مِن عشرين سنة.
ـ ماذا؟؟؟
ـ أجل... إمرأة وحيدة تريد شابًّا يملأ حياتها وهي مستعدّة للاهتمام بي مِن جميع النواحي... مثلكِ.
ـ أبدًا! أنا اعتبرتكَ ابني... لستُ مثلها!
ـ تقريبًا... إنسِ موضوع العلاقة الحميمة ونحصل على صورة طبق الأصل عنكِ... بفضلكِ أدرَكتُ أنّ الكثير مستعدّ لتقديم كلّ شيء مقابل بعض الحنان.
ـ أرجوكَ لا ترحل!
ـ وأبقى مع امرأة خانت ثقة زوجة أخيها، وتركَتها مرميّة في مصحّة عقليّة بعدما سَرَقَت ابنها منها؟ لا شكرًا!
ـ ولكنّني أعطيتُكَ كلّ شيء!
ـ لم أجبركِ... أنتِ قرَّرتِ أن تفعلي ذلك... أعطَيتُكِ ما كنتِ تطلبينَه وكنتِ سعيدة... هل اعتقدتِ أنّني سأقضي حياتي ألعب دور ابنكِ؟ يا لغبائكِ! الوداع!
ورحَلَ جاسم مِن دون أن ينظر إليّ حتى. وأنا اليوم وحيدة أبكي على أفعالي ولكن ما النفع مِن ذلك الآن؟
حاورتها بولا جهشان