اكتشفت حقيقته بعد زواجنا!

يومها كنت أطير من الفرح: فقد كان ألبير سيأتي ليطلب يدي للزواج. كنا قد تعرّفنا صدفة منذ حوالى 3 أشهر في محطة وقود، واندلع بيننا حب من أول نظرة!
كان وسيماً، وأنيقاً، ومن خلال رؤية سيارته "الجاغوار"، لم يكن من الصعب التكهن بأنه كان أيضاً ثرياً. أعجب والداي به على الفور، حتى إن والدي الجرّاح لم يلبث أن حكم عليه بأنه "أهلٌ ليطلب يد ابنته"!

ما مضت شهور قليلة إلا ونحن زوجان. كان ألبير يعمل في منظمة دولية، وغالباً ما كان يشغله عمله المضني في المساء... أما أنا، فلم أكن أطرح عليه أي أسئلة: فلو كان يرغب في الحديث عن عمله، فإنه سيفعله حين يحين الوقت لذلك...

من جهتي، لم يكن عليّ العمل ولا القلق من أي شيء. كان هو يخرج في الصباح ليعود في المساء، منهكاً، وعلى الرغم من ذلك، كان يكرّس كل السهرة لي وحدي. كنت سعيدة... عدا أننا لم نكن نخرج كثيراً ولا نلتقي بأحد تقريباً. فهو لم يكن من هواة المجتمع، وكان يفضّل قضاء الوقت معي وحدنا، وأعترف بأنني، على الرغم من كوني "بيتوتية"، كنت أرغب من وقت لآخر في الخروج معه قليلاً برفقة صديقاتي. أما هو، فلا. وكان عليّ دائماً اختلاق آلاف الأعذار لعدم تلبية دعواتهن.
مرّ عام بكامله ونحن على هذه الحال.

إلى أن التقينا، في أحد الأيام، فيما كنا نشتري حاجاتنا في "السوبرماركت"، بسيدة كبيرة في السن. حيّته بحرارة قائلة: "ألبير، كم تسرّني رؤيتك! كيف حال السيدة ج.؟ بلّغها تحياتي". أجابها ألبير بأنها لا شك مخطئة وبأنه لا يعرفها. وعند إلحاحها بمعرفتها به، دفعني بعصبية للمضي في سبيلنا.

ـ من هي هذه السيدة؟ سألته.
ـ لا أعرف شيئاً. لا بد أنها ظنّتني شخصاً آخر.
ـ لكنها نادتك باسمك... ومن هي السيدة ج؟
ـ لا بد أنها صدفة.
فهمت حينها أنه لا يجب عليّ الإلحاح في السؤال.
شغلت هذه الحادثة بالي إلى المساء، لكنني سرعان ما نسيتها، ويعود ذلك إلى أن ألبير لم يعطني يوماً دافعاً للشك به: كان رجلاً صادقاً، وحنوناً، وكريماً.

بيد أنني، منذ ذلك اليوم، لاحظت أنه أصبح يتجنّب الخروج معي مطلقاً: صار يختلق أي أعذار، حتى السخيفة منها. وصار يجيب على هاتفه من الغرفة الأخرى فأصبحت تنمو شكوكي... هل هو على علاقة بتلك السيدة ج. الغامضة؟
فقررت أن أتبعه. لم أكن فخورة بفكرتي، لكنني من جهة ثانية لم أكن أحتمل فكرة أن تكون لديه عشيقة. وفي إحدى الليالي ادّعيت أن والدتي مريضة وأنني سوف أمضي الليلة إلى جانبها، وقصدت فعلاً منزل والديّ حيث قضيت الليل، لكنني في الصباح الباكر، استقللت سيارة أجرة وطلبت إلى السائق أن يتركني في زاوية الشارع الذي كنا نسكنه، دقائق قليلة قبل أن يحين موعد خروج ألبير من المنزل. وحين خرج، تعقّبناه. لم يسلك طريق عمله، وإنما اتجه إلى منطقة سكنية فخمة: فيلاّت مع حدائق جميلة وبرك سباحة شاسعة. إذاً فهي تنتمي إلى طبقة مرموقة...

توقف أمام مدخل إحدى الفيلات. وبعدما تحدث بضع كلمات عبر المذياع، انفتحت البوابة. ترجلت حينها من سيارة الأجرة. كنت فقط أرغب في رؤيتها، ومعرفة من تكون، وخاصة لماذا يفضلها عليّ. كان قلبي يدقّ بسرعة فائقة وكنت بالكاد قادرة على التنفّس. وقفت أمام المدخل أراقبه يفتح صندوق السيارة. ومن المؤكد أنه أحضر لها الزهور. لكنه، لدهشتي، أخرج بدلاً من الزهور كيساً، وأخرج منه قبعة وسترة ارتداها، وتوجّه إلى الباب الخلفي للسيارة وفتحه. وفجأة، رأيت زوجين مسنّين يخرجان من الفيلا، ورأيت ألبير يحيّيهما بإحناء الرأس، ثم يركب السيارة مجدداً وينطلق بهما. بقيت مسمّرة في مكاني، شبه مخدّرة من وقع المشهد. إذن، فهذا هو سرّه: كان يعمل سائقاً! اغرورقت عيناي بالدموع وشعرت بساقيّ تتقطّعان، وأنا أتوجه إلى سيارة الأجرة التي بلغتها بعد جهدٍ جهيد.

وعلى الرغم من أنني لطالما ضربت بالفوارق الإجتماعية عرض الحائط، لم أستطع منع نفسي من الإصابة بالذهول الشديد. لقد عدت إلى منزل والدي حيث مدّدت إقامتي، متذرعة بحجة أن ألبير اضطر للسفر بداعي العمل، فيما كنت أقول له إن والدتي ما تزال مريضة. كنت بحاجة ماسّة للتفكير. كنت حاقدة عليه لأنه كذب عليّ، كنت حانقة جداً. فجأة راحت الأمور تتوضح شيئاً فشيئاً. ظروف لقائنا الأول، وتكتّماته، وخوفه من الخروج. أصبحت أفهم، لكن كيف أسامحه؟ بماذا أخبر والدي ومحيطي؟ بأني تزوّجت بسائق، أنا، ابنة "البروفسور" هـ. الكبير!؟ لم أعد أعرف للنوم سبيلاً. كان يتملّكني شعور بالغضب ممزوج بالخجل. وكان مشهد ألبير مرتدياً زيّ السائق ينحني للسلام يتكرّر بلا توقف في ذهني!

ما مرّت أيام إلا وأحسست بالشوق الكبير إليه. فكرت في كل جهوده التي كان يبذلها ليخفي عني عمله الحقيقي، في تعبه، الذي كان يتخطّاه ليجد الوقت الكافي لتدليلي وتلبية كل حاجاتي. كان سرّه كبيراً للغاية، ولا شك في أنه كان سيأتي يوم يبوح لي به! هذا الخوف الدائم من أن يفتضح أمره كان يقضّ مضجعه ليلاً ونهاراً... كم كان حبّه لي كبيراً لكي يتحمّل كل ذلك صامتاً!
بعد التفكير ملياً بالأمر، قررت العودة إلى المنزل! حين عاد في المساء، ركضت لملاقاته عند الباب، ضممته بشدة بين ذراعيّ، هامسة في أذنه:
ـ أعرف كل شيء...
تشنّج جسده ثم حاول التملّص من غمرتي له، لكنني تابعت:
ـ أعرف كل شيء، وأحبك كما أحببتك دائماً، أو ربما أكثر من ذي قبل.
عندها أحسست بدموعه الساخنة تبلّل وجنتي. بقينا هكذا، نبكي غارقين كلٌّ في ذراعي الآخر. هو يغمره شعور بالراحة وأنا بالسعادة.

ثم، ترتّب عليّ الاهتمام بأمر سخط أهلي وسخرية أصدقائي. لكنهم في النهاية، وأمام عنادي في حبي له، لم يبق لهم جميعاً إلا الرضوخ للأمر الواقع... واليوم، بعد مرور سنين من الحياة الزوجية، لم تسنح لي الفرصة للندم على قراري ذلك، فما زالت السعادة تغمر بالحب المتبادل عشّنا الزوجي.

 

حاورتها بولا جهشان

 
المزيد
back to top button