إعتبَرتُ جارنا فِراس قُدوة لي، فهو كان رجُلاً بسنّ والدي، لكنّ على خلافه كان ناجحًا ومُثقّفًا وذا فِكر مُتقدِّم. وشاءَت الظروف أن يأتي فِراس للعَيش في مبنانا، بعد عودته مِن أوروبا حيث قضى مُعظم حياته ونالَ شهاداته العليا، الأمر الذي شغلَه لِدرجة أنّه نسيَ أن يُحبّ ويؤسّس عائلة. لِذا بقيَ فِراس عازبًا وسكنَ لوحده في الشقّة المُقابِلة لشقّتنا، وفرشَها بشكل لطيف للغاية عارضًا في كلّ مكان كتبه التي لا تُحصى وشهاداته على الجدران.
إلتقَيتُ به مرّات عديدة في ردهة المبنى أو المصعد، ومع الوقت صِرنا نتبادَل الأحاديث حول مواضيع مُختلفة. كنتُ آنذاك في السادسة عشرة مِن عمري ومُتعطّشًا للمعرفة ولصورة الأب القويّ.
لِذا دقَّيتُ يومًا بابه لأطلبَ منه أن يُعيرَني كتابًا، لكنّني في الحقيقة تمنَّيتُ لو يدعوني إلى داخل شقّته لأتفرّج عليها وأجلسَ معه ونتبادَل الأفكار. وكما تمنَّيتُ، طلَبَ فِراس منّي الدخول ريثما يجِد لي ما أقرأه. قدَّمَ لي كوبًا مِن الشاي، ووضَعَ أمامي على الطاولة خمسة كتب لأختارَ منها واحدًا. وعدتُه بأنّني سأُعيدُ له كتابه حين أنتهي منه، وهو قال لي: "يُمكنكَ زيارتي قبل ذلك، فبابي مفتوحٌ لكلّ مَن يطلب المعرفة". وهكذا، صِرتُ أقصدُ فِراس أسبوعيًّا لأستمِع له وهو يروي لي محطّات حياته المُشوّقة في أوروبا، ونتبادَل الأفكار حول الدنيا والحياة. وحين أعودُ إلى بيتي، كنتُ أقصد غرفتي على الفور كي لا أُصابَ بالاحباط بين والدَين بعيدَين كلّ البُعد عن الثقافة والفلسفة وكلّ شيء قد يُثير اهتمامي. للحقيقة، كنتُ أعتبرُهما جاهلَين للغاية وأكنُّ لهما الاحترام والمحبّة وليس أكثر. أمّا بالنسبة لأخوَتي، فكانوا لا يزالون صغارًا ولا يهمُّوني كثيرًا.
مع الوقت، صرتُ أبتعِد شيئًا فشيئًا عن أهلي، فبات الشرخ أكبَر وحلِمتُ أن يكون فِراس أبي، لكنتُ قضَيتُ نهاري وليلي معه. علاماتي في المدرسة تحسّنَت بشكل واضح، فجارنا كان أيضًا مُلمًّا بالتدريس، وبالأخصّ بالمواد العلميّة، وأخَذَ يشرحُ لي كلّ ما لَم أفهَمه في المدرسة. إضافة إلى ذلك، صِرتُ أحبُّ الدرس، لأنّني فهمتُ أخيرًا هدَف التعلّم والتقدّم في الحياة لأصبحَ كالذي أسمَيتُه "مُرشدي".
بدأ والدايَ يتساءلان إن كانت علاقتي بفراس لمصلحتي، فالبرّغم مِن تقدّمي في المدرسة، كانا قد لاحظا تغيّرات في نظرتي إليهما، شيئًا مِن الازدراء أو عدَم الاكتراث بطلباتهما أو حتى حديثهما. كنتُ أردُّ عليهما بعبارات تتضمّن كلّها ذكر فِراس: "فِراس قال لي غير ذلك" أو "فِراس يعرفُ أكثر منكما، سأسأله غدًا" أو "لا أعتقد أنّ فِراس سيُوافق على ذلك". لِذا راحَ أبي يطلبُ مِن جارنا عدَم التدخّل بطريقة تربيتي، ففي آخِر المطاف هو كان أبي ويعرفُ مصلحتي أكثر منه، خاصّة أنّ فِراس لَم يُنجِب يومًا وليس لدَيه خبرة في ما يخص تنشئة الأولاد. لم أعرف بتلك المحادثة، لكن عندما روى لي فِراس ما دارَ بينه وبين أبي، إنتابَني غضب عارم، فلم أكن لأسمح لأحد أن يؤثّر على علاقتي بمُرشدي، إذ أنّني لَم أكن قادرًا على تصوّر حياتي مِن دونه. هدّأ فِراس مِن غضَبي قائلاً:
ـ ذلك الرجُل الذي إسمه أبوكَ هو إنسان بدائيّ وجاهل ولا منفعة مِن التأثّر بكلامه، بل علينا تجاهله. هو يظنّ نفسه عالمًا بأمور التربية بمُجرّد أنّه أنجبَكَ، لكن كلّ الكائنات تلِد صغارًا لكنّها لا تربّيهم سوى على إشباع رغباتهم أو تجنّب المخاطر. أنا أُغذّي شخصيّتكَ وفكركَ.
ـ أرجوكَ يا سيّد فِراس، لا تتخلّ عنّي فأنتَ مُهمّ بالنسبة لي ولقد جلَبتَ لحياتي نوعًا مِن التوازن... أكرَه هذَين التافهَين!
ـ أفهمُكَ يا بُنَيّ.
ـ يا بُنَي؟!؟ يا إلهي كَم أنّ هذه الكلمة عذبة وهي تخرجُ مِن فمكَ! لَم يعُد بمقدور شيء أو أحَد أن يُعكّر صفو هذا اليوم أو أيّ يوم آخَر.
ـ أنتَ مُخطئ... فسيُحاربني ذلك الجبان... لكنّه لا يعلَم مَن أنا بالفعل! أنا جبّار!
لَو لَم أكن مفتونًا بشخص فِراس لضحكتُ مِن كلامه السخيف، لكنّني أُعجبتُ به أكثر مِن الأوّل فهو كان مُستعدًّا لخوض حرب مِن أجلي!
حين عدتُ إلى البيت قال لي والدي بنبرة جدّيّة: "لا أُريدُ أن تدوسَ قدماكَ بيت ذلك الرجُل، أتسمعُني؟!؟". لكنّني لَم أُجِب، تمامًا كما علّمَني فِراس أن أفعَل. رحتُ إلى غرفتي مُصرًّا على الذهاب إلى فِراس أثناء دوام المدرسة، فعلى كلّ الأحوال، هو كان خَير أستاذ!
وحين طلبَت منّي إدارة المدرسة جلَب ذويّ لأنّني لَم أعُد أحضر الحصَص، أخذتُ فِراس مكان أبي وهو أدّعى أنّه والدي. شرَحَ لهم أنّه يُدرّسني البرنامج كما يجب، وكلّ ما تبقّى لي هو القدوم إلى المدرسة لاجراء فحص نهاية السنة.
أخَذَ فِراس موضوع "معركته" مع أبي على مِحمَل الجَدّ، وكان مِن المعلوم مُسبقًا مَن سيفوزُ بها. فالواقع أنّ والدي لَم يكن شجاعًا بل كان دائم الصمت يدَع والدتي تُقرّر وتتصرّف، وحدَثَ أن رأيتُه يتهرّب مِن مواجهة أحدٍ قلّلّ مِن إحترامه له، وبذلك فقَدَ إحترامي له.
نجحتُ سنتي الدراسيّة، الأمر الذي عزَّزَ ثقتي بفِراس وتعلّقي به، إذ أنّه وفى بكلّ وعوده لي حتى ذلك الحين، ومرّة أخرى كان أبي على خطأ... يا له مِن إنسان فاشِل! أمّي مِن جانبها كانت مُحتارة في ما يخصّ موقفها مِن جارنا، فهي كانت تعلَم أنّه يُفيدُني مِن نواحٍ عديدة كالثقافة والعلم، ألَم أنجَح بفضله؟ لِذا هي غضَّت النظر عن تواجدي عنده كلّ الوقت. ولقد تمنَّيتُ سرًّا أن يموت والدي لأعتبر فِراس أبي بالفعل.
لكن في أحد الأيّام، فتَحَ لي شابٌّ غريب حين دقَّيتُ باب فِراس. وقفتُ أمامه مُحتارًا، ثمّ سمعتُ صوت جاري يُناديني مِن الداخل، فدخلتُ وجلستُ بصمت، إلى حين قال لي فِراس:
- هذا الشابّ هو "مشروعي الجديد"
ولأنّني لَم أفهَم قصده، تابَعَ الرجُل:
ـ أعني أنّني سأُساعده كما فعلتُ معكَ.
ـ مشروعكَ الجديد....أيّ أنّني مشروعكَ القديم؟
ـ تستطيع قول ذلك.
ـ إنتهَت مُهلة صلاحيّتي؟
ـ لا تقُل ذلك، بل إنّكَ لَم تعُد بحاجة إليّ، فلقد لقّنتُكَ كلّ ما عليكَ معرفته. أمّا هو، فعليه تعلّم الكثير بعد. كَم أحبُّ ما أفعلُه! تنشئة جيل بعد جيل.
ـ تنشئة على ماذا؟
ـ على القراءة والثقافة والعلم! وهل هناك أهمّ مِن ذلك؟
ـ وماذا عن الناحيّة الانسانيّة؟ لَم أتوقّع أن أكون بالنسبة لك مُجرّد مشروع. فلقد كنتَ تُناديني "يا بُنَي".
ـ ليس هناك مِن رابط بيننا سوى كونكَ "تلميذي".
ـ لكن حتى بين الاستاذ وتلميذه يوجَد رابط إنسانيّ ومعنويّ ومحبّة.
ـ لستُ أستاذًا بالمعنى التقليديّ. ما بكَ وتلك المُناقشة التي لا معنى لها؟
ـ أُريدُ أن أفهَم وحسب. قُل لي... ما هو مصيري معكَ؟
ـ ليس هناك مِن مصير. ستُعطي مكانكَ لهذا الشابّ الواعد. أنتَ لوحدكَ الآن.
ـ ألن يعود مسموحًا لي بزيارتكَ؟
ـ هذا يتوقّف على الوقت الذي بإمكاني إعطاؤه لكَ. هل دقّ بابي أحدٌ غيركَ عندما كنتَ "تلميذي"؟
ـ لا.
ـ أترى؟ لأنّني، كعادتي، أُركّز على كلّ شخص كما يجب.
ـ يعني ذلك أنّ كان لكَ "تلاميذ" قبلي؟
ـ بالطبع!
ـ أيّ أنّني لَم أكن مُميّزًا لدَيكَ؟ وماذا عن صراعكَ مع أبي حَولي؟
ـ هؤلاء الأهل لا يُجيدون تربية وتنشئة أولادهم. والِدا هذا الشابّ مثل والدَيكَ، أناس فاشلون وغير نافعون. كلّهم غير نافعين!
ـ لكنّهما يُحبّاني، على خلافكَ... وضحّيا بكلّ ما لدَيهما مِن أجلي وأخوتي. وأنا مُتأكّد، أجل مُتأكّد الآن أكثر مِن قَبل، أنّ أيًّا منهما لن يقول لي يومًا إنّني "مشروع" لدَيه وإنّه استبدَلني بآخَر. هذه هي الأبوّة والأمومة... خلتُكَ لفترة أبًا لي، أبًا "فالحًا" على خلاف أبي الذي اعتقدتُه فاشلاً، حسب قولكَ.
ـ أنتَ مثل أبيكَ!
ـ وهذا يُشرفُني! أبي ليس فاشلاً أو ضعيفًا... كَم مِن الغريب أن أستوعِب للتوّ انّه رجُل مُسالم وعاقل، وكَم أنّه يثِقُ بأمّي لاعطائها سلطة القرار والتنفيذ، فيما هو يقومُ بواجبه كربّ عائلة بتأمين القوت لنا وكلّ ما يلزمنا.
ـ هنيئًا لكَ به!
ثمّ إستدَرتُ نحو الشابّ الذي بقيَ صامتًا طوال الوقت وقلتُ له:
ـ أرأيتَ وسمعتَ ما يحصل؟ هذه نبذة عن الذي ينتظرُكَ مع هذا المجنون الذي يخالُ نفسه "أستاذًا" في الحياة والعلوم والثقافة. هو يبني شخصيّته وكيانه حولنا ويُعطي لوجوده طعمًا بفضلنا. مِن دوننا هو مُجرّد إنسان فارغ... وفاشل! يسرقُ أولاد غيره إلى حين يجِد آخرين، ومِن دون أن يكون بالفعل أبًا، أيّ مِن دون أن يتعَب ويسهَر ويقلَق ويُضحّي. سيركلُكَ خارج شقّته حالما يسأم منكَ، صدّقني. لدَيكَ الخيار يا صاحبي: إمّا أن تبقى أو أن ترحَل معي الآن.
ـ إنتظرني، أنا ذاهب معكَ.
نظَرَ فِراس إلينا بتعجّب، وبدأ يشتمنا بغضب مُخيف لكنّنا لَم ننظر وراءنا ونحن نُغادر المكان.
دخلتُ بيتنا بفرَح كبير، فكان الأمر وكأنّني إكتشفتُ المكان لأوّل مرّة. رحتُ أُقبِّل أخوَتي الذين اندهشوا لهذا الكمّ مِن الحنان، ثمّ قبّلتُ أمّي وأبي وهمستُ في أذنه: "أنا آسف يا بابا". ورأيتُ الدموع تملأ عَينَيه ثمّ إبتسَمَ لي قائلاً: "كنتُ بانتظاركَ".
بعد شهر، أفرَغَ فِراس شقّته مِن محتواها وانتقَلَ للعَيش في مكان ما. أنا اليوم مُتزوّج وأب لولَد جميل، ولا يمرُّ يوم مِن دون أن أحكي له عن جدّه الذي أتمنّى أن أكون مثله. أمّا بالنسبة لفِراس، فلا بدّ أنّه لا يزال يُفتّش عن "تلاميذ"، ليشعر أنّه ذو فائدة لأحد وليَملأ الفراغ الذي مكان قلبه.
حاورته بولا جهشان