عندما قرّرَ وليد، زوجي، السفر للعمل في الخارج، طمأنَني بأنّني لن أبقى لوحدي مع الأولاد، فلقد بحَثَ لي عن مساعدة ووجدَها في إحدى القرى النائية. كان مصرًّا على إحضار إحداهنّ مِن بلدنا، فبنظره لا تكون العاملات الأجنبيّات معتادات على تقاليدنا ولغتنا، وتفتقدنَ غالبًا أهلهنّ ممّا يخلق في قلبهنّ مرارة أو إكتئابًا كنتُ بغنى عنه.
عندما قدمَت منال إلى بيتنا، وجدتُها صغيرة السنّ بعض الشيء، فهي كانت لا تزال في السادسة عشرة، وخفتُ ألا تتحمّل عبء منزل كبير وثلاثة أولاد. لكنّ تلك الصبيّة كانت مُتحمّسة للعمل إلى أقصى درجة، ووعدتُ نفسي بأن أعاملها وكأنّها ابنتي، أوّلاً لمكافأتها على أدائها الممتاز، وثانيًا لأنّني أسفتُ أن تكون فتاة في مثل هذا السنّ مُجبرة على العمل في بيوت الآخرين.
ومع الوقت، صارَت منال فعلاً فردًا مِن عائلتنا، وعادَت إليها البسمة بعد أن قدِمَت إليّ والزّعَل بائنًا على وجهها. لكنّ العمل في بيوت الناس لَم يكن السبب في حالتها النفسيّة، بل علاقتها مع أهلها الذين، كما اكتشفتُ لاحقًا، كانوا أناسًا بغيضين يستفيدون مِن إبنتهم إلى أقسى درجة.
فذات مساء، دخلتُ غرفة منال فوجدتُها باكية. جلستُ بالقرب منها وواسَيتُها وحثَّيتُها على التكلّم، فقالَت لي:
ـ لماذا وُلِدتُ في تلك العائلة بالذات؟ لماذا لَم أولدَ في عائلة كعائلتكِ يا سيّدتي؟ أرى كيف تُعاملين أولادكِ، الأمر الذي يبعثُ الأسى في قلبي.
ـ لكنّكِ تعيشين معنا منذ حوالي الشهرَين، وعليكِ نسيان ما يُحزنكِ والتركيز على بيتكِ الجديد.
ـ يا لَيتني قادرة على ذلك يا سيّدتي... فأهلي يُرسلون لي رسائل شنيعة على هاتفي... يُريدون أن يأخذوا ما أتقاضاه وإلا وضَعوني في بيت آخر أو زوّجوني لذلك العجوز القبيح. أنا لستُ سلعة!
ـ إليكِ ما سنفعلُه: لن أُعطيكِ راتبكِ بل سأُبقيه معي إلى حين تطلبيه منّي، وإن سألَكِ أحد عنه قولي له إنّ زوجي يبعثُ لنا المال مِن الخارج على دفعات قليلة. هكذا ستدخّرين ما يكفيكِ للإتكال على نفسكِ في حال حصَلَ تصادم كبير مع ذويكِ.
لكنّ خطّتي أعطَت المفعول العكسيّ، أي غضِبَ أهل منال لعدَم حصولهم على المبلغ بكامله وأتوا البيت طالبين رؤية ابنتهم.
مِن سماتهم علِمتُ أنّهم لَم يأتوا حاملين السلام في قلوبهم، وحاولتُ إلهاءَهم والتخفيف مِن حدّة طباعهم لكن مِن دون نتيجة. دخلوا غرفة منال ومكثوا فيها قليلاً ثمّ رحلوا.
عندما رحتُ أطمئنّ على الفتاة، صرختُ لرؤية الكدمات على ذراعَيها ووجهها، وأخذتُها في حضني أهدّئها وأمسحُ دموعها.
لَم أقل شيئًا لزوجي عندما خابَرَني كعادته في المساء، لأنّه كان سيقول لي إنّه مِن الأفضل التخلّي عن خدمات منال تفاديًا للمشاكل. ولَم يكن مِن الوارد أبدًا أن أُعيدَ تلك المسكينة إلى دارها، فما ينتظرُها كان فظيعًا. لِذا عُدتُ أعطي منال راتبها بالكامل بانتظار حلّ آخر أقلّ ضررًا.
مرَّت الأشهر بهدوء نسبيّ، وفعلتُ جهدي لتشعر منال أنّها بأمان عندي، وبدأتُ أعطيها سرًّا مبلغًا إضافيًّا تضعُه جانبًا لنفسها. إلا أنّ أهلها كانوا قد وجدوا لها سابقًا عريسًا يكبرُها بثلاثين سنة، وكان الرّجل مصرًّا عليها. لَم يعطوها له حتى ذلك الحين لأنّهم لم يتوصّلوا بعد معه على تسوية حول" الثمَن" الذي كانوا سيقبضونه منه. لكنّ المفاوضات وصلَت إلى نتيجة مُرضية للطرفَين وحان الوقت ليأخذوها منّي.
لكن في تلك المرّة أتى هؤلاء الناس بعدد كبير، أي أنّني لم أكن قادرة على ردعهم. صرختُ بهم بأن يخرجوا مِن بيتي، إلا أنّ فردًا منهم ضخمًا جدًّا أمسَكَني ورماني في الحمّام ووقَفَ عند الباب.
شكرتُ ربّي أنّ الأولاد كانوا في المدرسة وإلا كانوا ارتعبوا كثيرًا. وسمعتُ صراخًا آتيًا مِن غرفة منال يدلّ على شجار حاد ومِن ثمّ ساد الصّمت التام.
قرَّرتُ الخروج مِن الحمام، واستطعتُ فتح الباب بسهولة لأنّ الرجل الذي كان يوصدُه كان قد رحَلَ مع باقي العائلة. كان البيت فارغًا تمامًا وخلتُ أنّهم أخذوا الفتاة. إلا أنّني صرختُ كالمجنونة عندما دخلتُ غرفة منال، ورأيتُ النافذة مفتوحة على مصراعَيها والمسكينة ملقاة في أسفل المبنى.
نزلتُ السلالم في ثوان قليلة جدًّا، وركعتُ قرب منال التي كانت سابحة في دمائها. حاولتُ حملها على فتح عَينَيها أو التكلّم معي لكنّها بقيَت جامدة.
طلبتُ الإسعاف بسرعة، ونُقِلَت الفتاة إلى المشفى فاقدة الوعي وكميّة كبيرة مِن الدماء. لحقتُ بهم بعد أن أوكَلتُ جارتي بالإهتمام بأولادي فور عودتهم مِن المدرسة.
جلستُ في قاعة الإنتظار أصلّي كي تبقى منال على قَيد الحياة، وقرَّرتُ الإتصال بالشرطة. إلا أنّ المشفى كان قد سبقَني، ورأيتُ رجال أمن قادمين نحوي وبدأوا يسألوني مئات الأسئلة. بالطبع أخبرتُهم أنّ أهل منال عنّفوها بعد أن حبَسوني في الحمّام، ولا بّد أنّهم ألقوها مِن النافذة بعدما رفضَت مرافقتهم ليُزوّجوها بالقوّة.
بعد أقل مِن ساعة وصلَت عائلتها بعد أن جاءهم الخبر، وبدأوا يصرخون بي: "أيّتها القاتلة! لقد سلّمناكِ أغلى ما عندنا! سنجعلُكِ تدفعين الثمن غاليًا". ولولا وقوف الشرطة بوجههم، لكانوا ضربوني!
إتصلتُ بسرعة بزوجي الذي خابَرَ محاميه، ليطلب منه موافاتي إلى المشفى ومواكبتي بعد أن قرّرَت الشرطة اصطحابي إلى القسم للتحقيق معي. هناك قال عنّي أهل منال إنّني كنتُ أُسيء معاملة إبنتهم وأعنّفُها، لا بل توصّلتُ لدفعها مِن النافذة. أنكرتُ بشدّة، متّهمة هؤلاء القوم بالتهمة نفسها، واحتارَ المحقّق. لِذا، قرَّرَ إبقائي رهن الحجز إلى أن تظهر خيوط جديدة يُمكنها إلقاء الضوء على حقيقة ما حصل. المؤسف كان أنّ أحدًا مِن الجيران لم يرَ أو يسمع شيئًا، لأنّ الحادثة وقعَت حين كان الجميع في عملهم أو خارج دارهم.
بكيتُ كثيرًا على نفسي وعلى منال وانتظرتُ بفارغ الصبر أن يعود زوجي ليقف إلى جانبي.
في تلك الأثناء راجَعَ المحامي معي للمرّة العاشرة كامل الأحداث لنرى إن كان هناك ما يُمكنه إنقاذي، ثمّ وصلَنا مِن محامي العائلة أنّهم مستعدّون لسحب أقوالهم إن دفَعَ لهم زوجي مبلغًا طائلاً "يُساعدهم على تخطّي مصيبتهم ودفع تكاليف المشفى". هؤلاء الوحوش كانوا ينوون المتاجرة مرّة جديدة بابنتهم التي كانت بحالة حرجة جدًّا، فقد كانت حياتها على المحكّ وربّما تموت بين لحظة وأخرى.
وصَلَ زوجي بعد أن استقلّ أوّل طائرة متوفّرة وعانقَني بقوّة. إضطرِرتُ لسرد القصّة نفسها مرّة أخرى. لكن تفصيلاً مهمّاً لَفَت انتباه زوجي، وهو أنّ أهل منال كانوا يبعثون لها رسائل تهديد على هاتفها، الأمر الذي نسيتُ ذكره للمحقّق والمحامي لكثرة ارتباكي. فكَم هو صعب على الإنسان أن يُتّهَم زورًا وأن يُواجه التهديد بالسجن، خاصّة إن كانت امرأة.
أمَرَ المحقّق بجَلب هاتف منال، وقاموا بفحص محتواه فوجدوا محادثات عديدة مفادها أنّ أهلها كانوا فعلاً يُهدّدونها ليُجبروها على إعطائهم مالها، ومِن ثمّ حملها على القبول بالزوج الثّري. وقد وصَلَ الأمر بهم إلى استعمال تعابير بغاية الوضوح مثل "سنقتلكِ إن لم توافقي" أو "حياتكِ ملك لنا ونحن نقرّر إن كنتِ ستعيشين أو تموتين".
وبعد أن ظهرَت براءتي، تمّ القبض على أفراد العائلة للتحقيق، وبقوا يُنكرون تورّطهم. لكنّهم عادوا وأقرّوا أنّهم جاؤوا إلى البيت وتشاجروا مع منال، زاعمين أنّها ألقَت بنفسها مِن النافذة بعد رحيلهم.
لم أصدّق تلك الرواية، فلقد رأيتُ سابقًا الكدمات التي يُخلفوّنها حين يُريدون شيئًا مِن ابنتهم، ولأنّني واثقة مِن أنّ منال لن تقدم على قتل نفسها بعدما تأكّدَت مِن أنّني سأقفُ إلى جانبها دائمًا وأحاربُ مِن أجلها.
بقيَ أن تستفيق المسكينة مِن الغيبوبة التي وقعَت فيها لتظهر الحقيقة. وحتى ذلك الوقت، تمّ إخلاء سبيل أفراد عائلتها بعد أن مُنعوا مِن السفر أو مغادرة حيّهم.
أنّبَني زوجي على تدخّلي بشؤون هؤلاء الناس، لكنّني كنتُ ولا أزال مُقتنعة بأنّ كان مِن واجبي الدفاع عن منال وحمايتها، وليس تركها لمصيرها مع عائلة شرّيرة لا تعرف سوى حبّ المال.
اليوم تعيش منال معنا بعد أن استفاقَت أخيرًا مِن الغيبوبة، وأخبرَت الشرطة أنّ أهلها هم الذين رموها مِن النافذة عندما رفضَت الزواج. تمّ القبض على أبيها وأخوَيها وابن عمّها الذي حبسَني في الحمّام. وبعد مفاوضات طويلة، أسقطَت منال حقّها بسبب تهديد مباشر لها مِن أمّها بأنّها ستؤذيني وأولادي إن لَم تفعل.
لكنّ باقي المجرمين لا يزالون في السجن، أي أنّهم لَم يفلتوا كليًّا مِن العدالة. لم أعد خائفة منهم، لأنّنا انتقلنا جميعًا إلى الخارج حيث نعيش حياة هنيئة مع فتاة أصبحَت بمثابة ابنة حقيقيّة لنا. ولنتأكّد مِن أنّ لا أحد سيُلحق الأذى بنا أو بها، يُرسلُ زوجي مِن خلال محاميه مبلغًا شهريًّا لوالدة منال، فالمال هو كلّ ما يهمّها، أليس كذلك؟
حاورتها بولا جهشان