قالوا لي: "لا تتزوّجها"، وكانوا كثيرين، لكنّني لَم أسمَع منهم. ففي نظَري لا يُمكن لأحَد أن يحكم على الآخرين مِن دون معرفتهم جيّدًا. أمّا أنا، فكنتُ أعرفُ سامية تمام المعرفة... أو هكذا صوِّرَ لي. فهي كانت امرأة خارقة الجمال ولَم أفهَم يومًا لِما هي لَم تتزوّج على الفور بعد طلاقها، فجميع الرجال يموتون حتمًا عليها. إلّا أنّها إختارَتني أنا بالذات ولَم أعرِف لماذا، فكنتُ ولا أزال إنسانًا عاديًّا ومتوسّط الحال. والشيء الوحيد الذي كان بمقدوري تقديمه لسامية كان حبيّ غير المشروط.
تفاجأ الجميع عندما عرّفتُ أهلي وأصدقائي على حبيبتي، فهم أيضًا سألوا أنفسهم السؤال ذاته: لِما سامية معي؟ فكان هناك أمر مُريب لَم يستطيعوا إكتشافه، ووقفوا في وجهي مُحذّرين. إعتبرتُ موقفهم نابعًا مِن الغيرة، فالنساء كانت تشعرُ بالنقص أمامها، والرجال بالامتعاض حيالي لأنّها معي. ليذهبوا جميعًا إلى جهنّم! لن يقِف شيء أو أحَد في دَرب سعادتي مع سامية! هكذا يكون الحبّ!
يوم فرَحي كان الحضور حزينًا أو مُستغرِبًا، لأنّ سامية بدَت بفستانها الأبيض وكأنّها نجمة هوليوديّة! رحنا إلى بلَد مُجاوِر لقضاء شهر عسَلنا، وعُدنا إلى شقّتنا الصغيرة والعاديّة لبدء مسيرتنا الزوجيّة.
لكن بعد أقلّ مِن أسبوع، بدأَت سامية تنزعِج مِن شخيري ليلًا ولَم تعُد قادِرة على النوم. وأمام حيرتي، طلبَت منّي أن أنام على أريكة الصالون، فلَم يكن لدَينا سوى غرفة نوم واحدة... أو أن ننتقِل إلى شقّة أكبر. وبالطبع فضّلتُ البقاء في شقّة أستطيع دفع إيجارها والصرف عليها، فصِرتُ أنام في الصالون. للحقيقة، لَم أرَ أي مكيدة وراء ذلك، فكان بالفعل شخيري مُزعجًا، وكانت زوجتي بحاجة إلى النوم بهناء. لكن بالفعل، كانت سامية تبسِط طغيانها عليّ، كمَا أدرَكتُ لاحقًا.
مرَّت الأشهر بهدوء، باستثناء أنّ كان عليّ أن أمرّ بمنزل أهلي لأخذ الأطباق التي حضّرَتها لنا أمّي، لأنّ سامية لا تُجيدُ الطهو، وكَم مِن مرّة رأيتُ والدتي مُمتعِضة وسمعتُها تُتمتِم: "هي لا تُجيد الطهو... تعلّمي الطهو إذًا!". لكنّها كانت تتوقّف وتنظر إليّ بحنان لتعودَ وتقول: "هذا لا يهمّ... فأنتَ لا تزال تأكل مِن يدَيّ، يا حبيبي".
عاشَت سامية كالملكة وكنتُ سعيدًا أنّها معي في بيت واحِد، وكان ذلك كافيًا. وكما كان عليّ أن أتوقّع، صارَت سامية تستاء مِن مستوى عَيشنا، إذ أنّ راتبي لَم يكن كافيًا لِما أسمَته "مستواها"، فاقترَفتُ خطأً جسيمًا حين قلتُ لها يومًا، بعد أن شرَحتُ لها أنّها كانت على عِلم مُسبَق بما أجنيه: "لِما لا تجِدي عمَلًا، فأنتِ مُتفرِّغة طوال النهار؟". وففي غضون لحظات، تحوّلَت زوجتي إلى وحش مُفترِس، فانقضَّت عليّ وخمشَتني بأظافرها الطويلة في ذراعَيّ وعُنقي، صارِخة: "أنا أعمَل؟!؟ أيّها السافِل!!!". ولكثرة اندهاشي وتفاجئي، لَم يتسنَّ لي إبعادها عنّي بل بقيتُ في مكاني مسبوعًا. بعد ذلك، هي دخلَت الغرفة وأقفلَت الباب وراءها بالمُفتاح، بينما رحتُ الحمّام لأرى مدى بلاغة آثار أظافرها. داوَيتُ نفسيّ ثمّ خرجتُ مِن البيت لأُفكِّر بالذي حصَل. وكالغبيّ، وجدتُ أنّني قلَّلتُ مِن احترام سامية بالطلَب منها أن تعمَل، في حين أنّني أنا ربّ البيت ومِن واجباتي جَلب المال. ولدى عودتي، قرعَتُ باب الغرفة التي لَم تعُد غرفتي، وتوسّلتُ أن تُسامحني واعدًا إيّاها بأنّني سأجِد طريقة لتحسين عَيشنا. بقيَت زوجتي صامِتة وحابِسة نفسها إلى صباح اليوم التالي، وسُعِدتُ عندما رأيتُها تبتسِمُ لي وأنا أُحضِّر الفطور. تبادَلنا بضع كلمات، وشدّدتُ على تنفيذ وعدي لها لأنّني أُريدُها دائمًا مُبتسِمة. هي لَم تقدِّم أيّ اعتذار عن هجومها الوحشيّ عليّ وأنا لَم أُعاتِبها. فلَم أتصوّر أنّها ستُعيد الكرّة، وكنتُ طبعًا مُخطئًا.
قد يسأل القارئ نفسه لماذا كنتُ مُتساهِلًا هكذا مع سامية، لكن عليه أن يعلَم أنّ رجُلًا مثلي حَلُمَ كلّ حياته بهكذا إمرأة، مِن دون أن يتصوّر يومًا أنّه سيحظى بها. إلى جانب ذلك، كبرتُ وسط عائلة لَم تُعطِني أيّ ثقة بنفسي أو تشجيعًا، لأنّهم اعتقدوا أنّ إمكانيّاتي محدودة ولا لزوم لذلك. لكن كان مِن المُمكن أن أتخطّى ذلك لو آمَنَ أحَد بي كي لا أصبَح خاضعًا لزوجة احتقرَتني، بل كنتُ سأقِف في وجهها ولا أخافُ مِن خسارتها.
وجدتُ عمَلًا ليليًّا كان سيُرهِقُني حتمًا، لكنّني لَم أكن خائفًا مِن التعَب لطالما أسعَدَ ذلك سامية. فرؤيتها تفرَح حين أجلِبُ لها هدّيّة أو أُعطيها المال لتتسوّق كانت أهمّ شيء لدَيّ.
وسرعان ما صِرتُ حاضِرًا ـ غائبًا في بيت لَم أعُد سيّده، هذا لو كنتُ سيّده يومًا، فكنتُ أصِل الشقّة بعد دوامي الأوّل لأستحِمّ وآكُل بسرعة وأذهب إلى دوامي الثاني. وفي مُعظم الأحيان لَم تكن سامية حتّى موجودة، بل إمّا عند أصدقاء لها، أو في أحَد الأماكن المُخصّصة للّهو والفرَح.
إستمرّ الوضع هكذا لأشهر عديدة، وسِمعتُ مِن ذويّ المُلاحظات والتوبيخات الكثيرة لكنّني لَم أكترِث لهم، فهم لَم يكونوا يعيشون معنا بل يعطون آراءً عن بُعد. وما شأنهم بنا؟ فالقاضي راضي!
لكن كثرة العمَل وقلّة الراحة أثّرَتا على صحّتي، فلَم أعُد قادِرًا على فعل أيّ شيء بل لازمتُ الأريكة، الأمر الذي أدّى إلى خسارة عمَلي الثاني. وطيلة فترة "نقاهتي"، بقيَت سامية تحثّني على ترك الأريكة ومُعاودّة العمَل والتوقّف عن التمثيل. ففي نظَرها كنتُ رجُلًا مُحتالًا وكسلانًا. وتوصَّلَت يومًا إلى جرّي مِن رجلَيّ خارج الأريكة لأنهض، وضربَتني على ظهري بقوّة بينما صِرتُ على الأرض. إستدَرتُ نحوها ورأيتُ عَينَيها بوضوح: كانت تلك المرأة شبيهة بشيطان قبيح لأقصى درجة، ورأيتُها لأوّل مرّة على حقيقتها. تعِبَت سامية مِن ضربي، فخرجَت، واستطعتُ بجهد كبير الصعود إلى الأريكة مجدّدًا.
إتّصَلتُ بنهى أختي الكبرى طالبًا منها المجيء بسرعة، فهي كانت مُقرّبة منّي جدًّا في ما مضى، لكنّها تزوّجَت قَبل سنوات وأنجبَت توأمَين أخذا كلّ وقتها واهتمامها. ثمّ هي واجهَت مشاكل زوجيّة، فانطوَت على نفسها وابتعدَت عنّا قليلًا. هي الأخرى عارضَت زواجي مِن سامية، إلّا أنّها لَم تكن قاسية كالآخَرين معي، بل قالَت لي: "هذه حياتكَ وأنتَ حرّ بعَيشها كما يحلو لكَ، لكن على ما أعتقِد، ستواجِه المشاكل مع تلك المرأة... على كلّ الأحوال، سأكون موجودة إن احتَجتَني".
وصلَت نهى بعدما وضعَت ولدَيها عند جارتها، فوجدَتني بحالة يُرثى لها. أخبرتُها بما حصَل قَبل ساعتَين ومنذ بداية زواجي، وهي نظرَت إليّ بِحزن عميق وذرفَت الدموع. ثمّ قالَت لي:
ـ سألتُ نفسي مرارًا كيف أنّ إنسانة بهذا القدَر مِن الجمال لا تزال عازِبة بعد سنوات مِن طلاقها وكيف...
ـ كيف أنّها إختارَتني؟
ـ أجل... أعذرني... لكن دَعني أكمِل: وأظنّ أنّ ما تفعله بكَ فعلَته أيضًا مِن قَبل. هل سألَت عنها قَبل أن ترتبِط بها؟
ـ للحقيقة لا... أعرِف ما ستقولينه، فلا داعٍ أرجوكِ!
ـ حسنًا... سأبحثُ عن معلومات إضافيّة حول سامية، وفي تلك الأثناء ستأتي معي إلى بيتي، لا تُجادلني! كما تعلَم، زوجي مُسافِر وهناك غرفة إضافيّة... هيّا!
قبِلتُ بالذهاب مع نهى، لأنّني كنتُ في الحقيقة خائفًا مِن سامية ولا أنوي رؤيتها في القريب العاجِل. تركتُ رسالة لها لأُعلِمها أين أنا وحسب. بدأَت نهى بالتقصيّ عن زوجتي لدى جيران قديمين لها وأناس قد يعرفونها، والأمر لَم يكن سهلًا، فهي كانت تعيشُ لوحدها بعد موت أبوَيها ولاحقًا طلاقها، وقطعَت صلتها بمَن حولها. لكنّ نهى توصّلَت إلى معرفة بعض الأمور المُهمّة: فإحدى جارات سامية، وهي امرأة عجوز، أخبرَت أختي أنّها تعرفُ تمام المعرفة أنّ زوجتي هي مُضطرِبة نفسيًّا ومنذ وقت طويل. فمذ كانت سامية صغيرة وهي غريبة الأطوار وعنيفة مع الجميع، وخاصّة رفاقها الصغار والحيوانات. أخذَها أبوها عند أخصّائية أعطَت الفتاة أقراصًا عليها أخذها طوال حياتها. وتابعَت العجوز قائلة إنّ أبوَي سامية عانيا الكثير منها، لدرجة أنّهما أقفَلا بابهما أمام الناس كَي لا يرى أحَد ما يحدثُ داخل بيتهما، لكنّها أكّدَت أنّها رأَت علامات تعنيف على الأب والأم. وبعد مماتهما، لَم تُعاشِر سامية أحَدًا مِن مُحيطها، بل صاحبَت صبايا وشبّانًا لا صلة لها بهم ولم تستقبِلهم في بيتها أبدًا. تقدَّمَ لها بضعة عرسان بسبب جمالها، لكنّهم اختفوا جميعًا، ثمّ تزوَّجَت أخيرًا وتطلٌقَت بعد فترة قصيرة.
هكذا إذًا... سامية مريضة نفسيّة وخطيرة على ما يبدو! وهي تزوّجَتني لأنّني لم أكن أعلَم مِمّا تشكو، وأظنّ أنّها كانت تأخذُ دواءها خلال فترة تواعدنا لأنّها بدَت لي طبيعيّة.
لَم أتأخّر عن تطليقها، فكان مِن الواضح أنّ يومًا سيأتي وتُسبّب لي أذى كبيرًا إن لَم يكن الموت. تركتُ لها الشقّة التي كانت بالإيجار وكلّ مُحتوياتها، ولَم أعُد إلى ذلك المكان على الإطلاق.
في الواقِع، لَم آسَف عليها كثيرًا، فاتّضَحَ لي أنّني لَم أكُن أحبّها، بل شعرتُ فقط بالفخر أن أكون زوجها، ولقد حاولتُ مِن خلالها إثبات جدارتي أمام الناس والرَفع مِن شأني في نظرهم.
بعد طلاقي حسبتُ أنّني لن أستطيع أبدًا إيجاد زوجة صالِحة ومُحِبّة، لكثرة ما عانَيتُ مع سامية، مِن ازدراء وأنانيّة وعُنف. لكنّ الله أشفَقَ عليّ وبعَثَ لي بواسطة نهى أختي ملاكًا بالفعل، وهي صبيّة رائعة حقًّا. في البداية كنتُ مُتردِّدًا، لكنّني اكتشفتُ أنّ العروس هي مِن طبقَتي، وآتية مِن عائلة مؤمِنة ومُتواضِعة. وبعد أن تواعَدنا، وقعتُ هذه المرّة في الغرام، الغرام الحقيقيّ المبني على قواعد ثابِتة والمكتوب له أن يدوم. واليوم لدَيّ عائلة جميلة وباتَت ذكرى سامية بعيدة جدًّا عنّي.
أمّا سامية... فماذا حدَثَ لها؟
علِمتُ أنّها تزوّجَت ثانية مِن مُغفَّل كشأني، لكنّها تطلّقَت بعد فترة وبعد أن اشتكى عليها زوجها لدى الشرطة، لأنّها كادَت أن تقتله بسكّين مطبخ. هي لَم تدخُل السجن بسبب حالتها النفسيّة، بعدما كشَفَ عليها الطبيب الشرعيّ الموكّل مِن قِبَل المحكمة، بل هي اليوم تتبَع علاجًا صارِمًا. لكن هل ستُتابع علاجها بالفعل أم ستؤذي أحَدًا آخَر؟
حاورته بولا جهشان