إعتبرتُ أمي ميتة

صارَت حياتي لا تُحتمل يوم عرفتُ الحقيقة، وتمنَّيتُ ألف مرّة لو لَم أصرّ على تأكيد الشكوك التي كانت تُراودُني منذ فترة. فبعض الأمور مِن الأفضل لنا أن تبقى في الظلمة، حيثُ وُلِدَت. لكنّ طَبعي الفضوليّ غلَبَ على عقلي وتعقّلي، وباتَت أيّامي ولياليّ مصبوغة بالحزن.

دعوني أبدأ مِن البداية، أيّ حين تزوّجَت أمّي ثانيةً بعد سنتَين على موت أبي. كان الأمر غريبًا عليّ، إلا أنّني كمُراهقة فهمتُ حاجة والدتي إلى رجل. لكنّ العريس لَم يأتِ لوحده، بل بصحبة وائل إبنه الذي وُلِدَ هو الآخر مِن زواج سابق. كان وائل في الخامسة والعشرين وكان وسيمًا للغاية، ولا أخفي أنّني شعرتُ تجاهه بانجذاب ملحوظ، إلى حين اكتشَفتُ أنّه شاب سطحيّ ومُملّ وكسول. كان وائل عكس الشاب الذي أتمنّاه لنفسي، لِذا نسيتُ أمره بسرعة لأنكبّ على دراستي وصديقاتي.

مرَّت حوالي الخمس سنوات حين ماتَ زوج أمّي في حادث سيّارة. حزنتُ عليه، فقد كان إنسانًا طيّبًا عاملَني جيّدًا وتوصَّلَ إلى أن يعتبرَني ابنته. والدتي هي الأخرى شعَرَت بالأسى، مع أنّني لم ألاحظ عليها تعلّقًا قويًّا بزوجها، فهي كانت قد اختارَته حتمًا لتشعر بالأمان الإجتماعيّ والماديّ. وتابَعنا حياتنا مع وائل الذي أخَذَ دور ربّ البيت، الأمر الذي أزعَجَني إلى أقصى درجة، فهو لَم يكن مؤهّلاً لاتخاذ القرارات الصائبة، أو حتى أيّ قرار. فبالرّغم مِن سنّه، فإنّه لَم يعمل يومًا في حياته، بل بقيَ يتذرّع بِعدم إيجاده ما يُناسبه ليعيش على عاتق أبيه الذي كان يُنفّذُ له جميع نزواته كونه إبنًا وحيداً.

كانت والدتي موافقة على ما يفعلُه وائل في البيت، أي لا شيء... وكلّ شيء. فبينما كان يجلس على الأريكة طوال النهار ويُشاهد التلفاز أو أفلامًا على حاسوبه، كان يَطلبُ منّا أن نطعمه ونبتاع له الملابس ونُعطيه تقريرًا عن تحرّكاتنا.

فاتحتُ أمّي عن انزعاجي مِن تصرّفات إبن زوجها، إلا أنّها قالَت لي:

 

ـ وائل هو الآن رجل البيت، وعليكِ أن تعتبريه أخًا كبيرًا لكِ. أنتِ بحاجة إلى رعاية رجل، يا حبيبتي.

 

ـ لماذا؟ وهل أنّ الرّجال هم أذكى وأكثر وعيًا ومسؤوليّة مِن النساء؟

 

ـ لا يا حبيبتي ولكن...

 


ـ إذًا سأتلقّى الأوامر والنصائح منكِ وحسب. وإيّاه أن يتدخّل بشؤوني الخاصّة!

 

لَم يُغيّر حديثي مع أمّي شيئًا، وتحمّلتُ غلاظة وائل على مضض... إلى اليوم الذي وقعتُ صدفة على رسائل غرام كان يتبادَلُها مع أمّي! نعم مع أمّي! حصَلَ ذلك عندما نفَذَ رصيدي الهاتفيّ وكنتُ أودّ أن أبعث رسالة لصديقتي، فركضتُ أستعمل هاتف والدتي خفيةً وهي في الحمّام. وإذ بي أفتح التطبيق، وأرى رسائل عديدة لأمّي مِن امرأة إسمها علياء. لَم يكن الأمر لِيَلفت انتباهي لولا كلمات: "أنتِ عمري يا حبيبتي." قرأتُ باقي الرّسائل باندهاش، وللحظة ظننتُ أنّ والدتي سحاقيّة، إلا أنّني استنتجتُ مِن المحادثات أنّها على علاقة مع إبن زوجها! فتصوّروا مدى اشمئزازي!

ركضتُ أختبئ في غرفتي، كي لا ترى والدتي وجهي، وترى مِن ملامحي أنّني عرفتُ حقيقة ما يجري في البيت، على الأقل ليس قبل أن أتأكّد مِن الأمر بنفسي وآخذ موقفًا صريحًا حيال ذلك. فحتى تلك اللحظة، بقيَت تساورُني الشكوك بصحّة الخبر، لأنّه كان فظيعًا للغاية.

وبدأتُ أراقِبُ الثنائي مُركّزةً على الحركات والنظرات والضحكات. لكنّني كنتُ أبحثُ عن دليل قاطع يُثبتُ العلاقة الجنسيّة ما بينهما. فلطالما كانت أمّي تحبّ الدلال والإنتباه، وما رأيتُه حتى ذلك الحين لَم يكن يدلّ على شيء فعليّ.

وبالطبع أهمَلتُ دراستي، فقد كان أمر اكتشاف الحقيقة قد استحوَذَ على كل وقتي واهتمامي، وصارَ أولويّة لدَيّ، وأصبحتُ على شفير الرّسوب. لَم أهتمّ للأمر بتاتًا، بل افتخَرتُ بأنّني أضحّي بكلّ شيء مِن أجل فضح العاشقَين. أهمَلتُ كذلك صديقاتي اللواتي رأتنَ بتصرّفاتي دلالة على أنانيّة قصوى. ومرّة أخرى، لَم يهمّني الموضوع.

وخطَرَ طبعًا ببالي أنّ أمّي ووائل يُمارسان الفحشاء أثناء وجودي في المدرسة، لِذا صِرتُ أتغيّبَ عن الدّروس خفيةً وأمكثُ خارج المنزل أراقب مِن خلال النوافذ كاللصّة. كلّ ذلك إلى أن رأَت عَينايَ ما كنتُ أخشاه: قبلات حارّة بين والدتي وابن زوجها.

إنتابَني شعور بالإنتصار، فلقد كنتُ على حق! وتبقّى لي أن أفضح أمّي وأُحاسبُها. وفي المساء مِن اليوم نفسه، دخلتُ غرفتها وبسمة لعينة على وجهي وصرختُ بها:

 

- أعرفُ ما يجري بينكِ وبين وائل! أنتِ أمّ فاسدة وستحترقين في نار جهنّم!

 

نظَرت والدتي إليّ باندهاش ومِن ثمّ بخوف، وبدأت تُتمتمُ كلمات لَم أفهم معناها، وصارَت تبكي طالبةً منّي عدَم فضحها.

وزدتُ قوّةً، لأنّني كنتُ أمتلكُ سرًّا رهيبًا، فقرّرتُ الإستفادة مِن الوضع. لِذا طلبتُ، مقابل سكوتي، بأن تسمح لي أمّي بفعل ما أشاء في أيّ وقتٍ كان. وطلبتُ أيضًا أن يكفّ وائل عن التعاطي بشؤوني، وبأن يرحلَ مِن بيتنا بأقرب وقت. وعَدتني والدتي بأنّها ستنفّذ كلّ ما أريدُه شرط أن أُبقيَ فمي مُقفلاً. وفي تلك الليلة نمتُ وبسمة عريضة على وجهي، فكنتُ سأصبحُ أنا الآمرة الناهية في البيت.

لكن في الصباح الباكر، سمعتُ خبطًا على باب غرفتي. وعندما فتحتُ الباب، رأيتُ وائل واقفًا أمامي وأمّي مُختبئة وراءه. كان بغاية الغضب وبالكاد فهمتُ ما كان يقولُه، لكنّني علِمتُ بأنّه لن يقبل أن تَفرِضَ فتاة عليه أيّ شيء. حاولَت والدتي تهدئته، إلا أنّه زاد غضبًا وقال لي:

 

ـ إسمعي أيتُها الفضوليّة، ما أفعلُه مع أمّكِ ليس مِن شأنكِ أبدًا، وإن فكّرتِ للحظة أنّني سأخضعُ لتهديداتكِ، فأنتِ مُخطئة للغاية! أنا سيّد هذا البيت وأنتِ وأمّكِ تحت إمرتي! وإن خطَرَ ببالكِ أن تتفوّهي ولو بكلمة واحدة، فسأسكِتُكِ إلى الأبد!

 


كان وائل يُهدّدني بالقتل! نظرتُ إلى أمّي مُنتظرةً أن تُدافعَ عنّي، لكنّها بقيَت صامتة. عرفتُ حينها أنّ وائل هو فعلاً الآمر الناهي، فبدأتُ بالبكاء. ومنذ ذلك اليوم، صرِتُ سجينة سرّ فظيع وطاغية أفظع. فلَم يعُد مسموح لي مُغادرة البيت قط، أو استعمال الهاتف بعد أن أخَذَ منّي جوّالي، ووضَعَ هاتف البيت في غرفة مُقفلة، لأنّه خافَ أن أكلّم أحدًا وأفضَح أمره وأمّي. بكيتُ لأيّام طويلة مُستنجدة بوالدتي التي لَم تردّ على توسّلاتي. كانت حياتها الجنسيّة أهمّ مِن إبنتها. يا للخسارة!

بعد شهر على هذا النحو، خيَّرني وائل بين البقاء في البيت حتى آخر أيّامي أو القبول بالذهاب إلى مدرسة داخليّة بعيدة. كان العشيقان ينويان إبعادي قدر المُستطاع لإكمال علاقتهما بسلام.

في البدء لَم أقبل بالرّحيل، ظانةً أنّ قلب أمّي سَوف يَلين، خاصّة أنّها أخرجَتني مِن مدرستي بحجّة أنّنا سننتقل للعَيش في منطقة أخرى. إلا أنّها بقيَت مُتضامنة مع عشيقها.

وبعد شهرَين مِن عزلي وسجني، خضعتُ لرغبة وائل وحضّرتُ حقيبتي. وقبل أن أستقلّ سيّارة الأجرة التي كانت بانتظاري لأخذي إلى المدرسة الداخليّة، نظرتُ إلى أمّي وقلتُ لها:

 

ـ كيف تستغنين عنّي يا أمّي؟ ألا أعني لكِ شيئًا؟

 

ـ ما كان يجدرُ بكِ التعاطي بحياتي الشخصيّة.

 

ـ حياتكِ الشخصيّة، كما تصفينَها، أثَّرَت على حياتي بأسرها. فلقَد نصَّبتِ عشيقكِ وصيًّا عليّ وآمرًا على البيت، لأنّه يُعطيكِ لحظات لذّة، ووقَفتِ إلى جانبه بدلاً مِن أن تشعُري بالعار تجاهي. فكَم مِن الصعب على البنت أن ترى ما رأيتُه. هنيئًا لكِ بوائل، سنرى كَم سيدوم هذا الإفتنان.

 

ـ هذا حبّ وليس افتتانًا. إرحلي وليكن هذا درسًا لكِ، فالفضول هو إثم.

 

ـ الفضول إثم، أمّا الزنى فلا؟ علاقتكِ بابن زوجكِ تُحرّمُها جميع الأديان والمُجتمعات، وسيُعاقبُكِ الله يومًا، ليس على ذلك فقط، بل على التخلّي عنّي أيضًا.

 

لَم تتأثّر والدتي بحديثي ولا بدموعي الحارّة، وركبتُ السيّارة التي أقلَّتني إلى ما أسمَيتُه المنفى.

لَم أتأقلَم في مدرستي الجديدة، وصرتُ أفتعلُ المشاكل لأنّني كنتُ غاضبة ومخذولة وأحملُ سرًّا أكبر منّي. رفضتُ واقعي المرير ولَم أعد أثقُ بأحد. إبتعَدتُ عن باقي الفتيات وصرتُ مُنعزلة وكئيبة. أمّي، مِن ناحيتها، كانت سعيدة مع عشيقها بعد أن باتَا يعيشان علاقتهما كما يحلو لهما.

إلا أنّ وائل سئِمَ مِن أمّي بعد سنة، خاصّة بعدما لَم تعُد قادرة على إمداده بالمال. وانتهى به الأمر بإيجاد ضحيّة أخرى، إمرأة في العقد السادس مِن عمرها كانت تسكنُ في الحيّ الموازي لنا، وتملكُ سوبر ماركت ترَكَه لها زوجها المتوفيّ. كادَت والدتي أن تُجَنّ، وفعلَت المستحيل لإعادة حبيبها إليها، فأعطَته مجوهراتها كلّها، إلا أنّه أخَذَها وباعَها ولَم يعُد إلى أحضانها.

علِمتُ بالذي يجري هاتفيًّا مِن أمّي، لكنّها لَم تكن تُبدي أسفًا على ما فعلَته بنفسها وبي، بل كانت تُلقي اللوم عليّ. فبالنسبة لها، كنتُ المسؤولة عن ترك حبيبها لها. أقفلتُ الخطّ بوجهها بعد أن اشمأزَّيتُ منها إلى أقصى درجة. ومنذ ذلك اليوم، لَم أعُد مُستعدّة لسماع صوتها. على كلّ الأحوال، هي لَم تحاول الإتصال بي مُجدّدًا.

تخرّجتُ مِن المدرسة ووجدتُ عملاً في أحد المطاعم، وكنتُ قد استأجرتُ غرفة صغيرة في أحد المباني القديمة بسبب رخص الإيجار هناك. وكانت حياتي قد بدأَت تصطلِح، وصرِتُ أكثر ارتياحًا بالتعامل مع الناس بفضل نوعيّة عملي.

ولكن ذات يوم، جاء وائل إلى المطعم بصحبة عشيقته الجديدة. ولحظة رآني ناداني بدلاً مِن أن يتهرّب منّي. فهو لطالما كان إنسانًا وقحًا وغليظًا. قال لي:

 

ـ كَم كبرتِ! أنتِ نادلة هنا؟ حسنًا، هيّا خذي الطلبات مِن سيّدكِ.

 

عندها، قلَبتُ عليه الأواني التي كنتُ أحملُها، فلَم أعد أتحمّل إهاناته لي بعدما دمَّرَ حياتي. ركَضَ مالك المطعم وأنّبَني، وطلَبَ منّي أنّ أقدّم اعتذاري للزبون. إلا أّنّني رفضتُ الإنصياع وركضتُ أختبئ في المطبخ.

لحِقَ بي المالك وسألَني عن سبب تصرّفي، فهو عهدَني هادئة ومُهذّبة. بدأتُ بالبكاء ورويتُ له بكلمات بسيطة ما فعلَه بي وائل. وبعدما انتهَيتُ مِن الكلام، خرجَ الرجل إلى الصّالة وتكلّم معه. ولَم تمضِ ثوانٍ حتى تركَ وائل والسيّدة المطعم، وكان الغضب الشديد ظاهرًا على وجهَيهما. عادَ المالك إلى المطبخ وقال لي:

 

ـ لن ترَي وجه هذا القذر بعد اليوم، أعدُكِ بذلك. عودي إلى العمل الآن.

 

كانت تلك أوّل مرّة يُدافعُ أحد عنّي، فشعرتُ بالأمان والإمتنان. لِذا صرتُ أتفانى بعملي وأجاهدُ بالتعلّم لأصبح أمهَر نادلة.

وبعد أقلّ مِن سنة، أصبحتُ مسؤولة عن عدد مِن الطاولات ومِن ثمّ مجموعة مِن الموظّفين.

أنا اليوم مديرة المطعم، أعمل بجدّيّة قسوى، وأتقاضى أجرًا كبيرًا مكّنَني مِن الإنتقال إلى شقّة جميلة والعَيش بدون خوف مِن الغد.

لَم تحاول أمّي العثور عليّ، ولَم يعُد يهّمُني الأمر بعدما فهمتُ أنّ تلك المرأة ليست أمًّا بكلّ ما للكلمة مِن معنى. فهي تخلَّت عنّي بسهولة خياليّة وتركَتني أواجه العالم القاسي بمفردي.

علِمتُ مِن إحدى جارات والدتي التي جاءَت للغداء في المطعم، أنّ أمّي جلَبت إلى البيت شابًّا قالَت عنه إنّه قريبُ لها، لكن ما مِن أحد صدّقها في المبنى والكلّ يتكلّم عن سيرتها غير المُشرّفة. لم أعلّق على الأمر، بل اكتفَيتُ بالقول للجارة: "أنا آسفة، لا أعلَم عمَّن تتكلّمين، فأمّي ماتَت منذ سنوات عديدة."

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button