يُقال إنّ لا أحد يسلم مِن العقد النفسيّة، ولكنّ حالتي كانت مميّزة ولازمَتني وقتًا طويلاً، وسببها أبي ونمط حياته ونتائج سلوكه المنحل.
توفّى والدي بمرض الإيدز عندما كنتُ في العاشرة مِن عمري. كان يعتقد أنّه إذا استحمَّ جيّداً عند رجوعه مِن بيوت الدّعارة، لن يلتقط أيّ مرض جنسيّ. لذا كان عند عودته في المساء، يدخل الحمّام ويقضي وقتًا طويلاً هناك ويُعيد الكرّة عدّة مرّات. ومع أنّ الأمر كان يُثير التعجّب، إلا أنّ أمّي لم تشكّ في أنّ افراط زوجها بالنظافة سببه وساخة روحه.
وانتكسَت صحتّه، فقصَدَ الطبيب ومِن ثمّ المستشفى لإجراء فحوصات عديدة، ليتبيّن أنّه التقطَ مرض الإيدز مِن إحدى المومسات. ولم يمّر شهر حتى فارَقَ الحياة لأنّ حالته كانت متقدّمة جدّاً.
وكأنّ صدمة معرفة سلوك زوجها لم تكن كافية، فإكتشفَت أمّي المسكينة أنّه نقَلَ لها ذلك الدّاء المميت. وكم مِن إمرأة شريفة وجَدَت نفسها تدفع ثمن خيانات زوجها الذي في غالبيّة الأحيان يُحاضر بالشرف والأخلاق ليحمي نفسه مِن الشكوك.
ولاقَت والدتي مصير أبي... ووجدتُ نفسي بلا أهل.
وأخَذَني خالي أنا وأخواتي لأربى مع أولاده. لم يفعل ذلك مِن طيبة قلبه، بل لأنّه علِمَ أنّ الناس لن ترحمه لو تركنا لوحدنا. وبسبب سيرة أبي، نقَمَ علينا ولم نشعر يومًا أنّنا مرغوب بنا. ولكنّنا كبرنا لنصبح صبايا جميلات تنظرنَ إلى الحياة بتفاؤل.
وصار لدَيَّ خوف كبير مِن الخيانة، لأنّ ما حصل مع أمّي حدَثَ خلال طفولتي وأمام عينيّ. ولم أعلم مدى تأثّري بذلك إلا عندما وقعتُ في الحبّ وتزوّجتُ. كان عُمَر إبن عمّي ولكنّني لم أرَه كثيراً مِن قبل لأنّه سكَن بعيدًا عنّا. ولكنّنا التقينا وعلمنا فورًا أنّ علينا البقاء سويًّا. وحتى ذلك الحين لم أتصوّر أنّني سأقلبُ حياة حبيبي إلى جحيم.
وحين أصبح عُمَر زوجي، ألبستُه دور أبي وأنا دور أمّي، أي كنتُ شبه أكيدة أنّه يخونني أو سيخونني خاصة أنّه كان إبن أخ أبي، أي أنّه بنظري ورثَ منه الجينات السيّئة.
في البدء، إكتفَيتُ بمراقبته في البيت. كنتُ أركّز جدًّا على استحمامه الذي كان يعني لي غسل ما فعلَه مع غيري خلف ظهري. وبالطبع كنتُ أهتم بمكالماته الهاتفيّة، فإذا لم يردّ على اتصال أو إذا أخَذَ هاتفه ليتكلّم في غرفة أخرى، كنتُ أتصوّر أنّه يُخاطب عشيقة ما.
وبتُ أنتظر أن ينام زوجي لأفتش جيوبه وهاتفه وأشمّ ملابسه بحثًا عن روائح نسائيّة.
أعلم أنّ الكثير مِن الزوجات يفعلنَ ذلك، ولكن بعد أن يكون أزواجهنّ قد تصرَّفوا بطريقة مريبة أو وصلهنّ أخبار شبه أكيدة عن خيانتهم. أمّا عُمَر فكان ذنبه الوحيد أنّه زوجي وإبن أخ أبي. ومع أنّني لم أجد شيئًا يُثبت خيانة عُمَر لي، وبدل أن يطمئنّ قلبي، إعتقَدتُ أنّه يُجيد إخفاء حياته السرّية بإتقان وأنّ عليّ البحث أكثر واستعمال سبل أخرى. والجدير بالذكر أنّني طيلة تلك الفترة نسيتُ أن أحبّ الذي اختاره قلبي لكثرة انشغالي بإثبات نظريّتي، وكنتُ قد شغلتُ كلّ وقتي في إثبات خيانته المزعومة.
وقرّرتُ أن أتبعه عندما يخرج مِن البيت. كان الأمر سهل عليّ لأنّني لم أكن أعمل، فالوقت لم يكن مشكلة بالنسبة إليّ. وبتُّ أتّبع خطّة يوميّة، وهي الخروج مِن بعده لأتأكّد أنّه وصَلَ فعلاً إلى عمله، وأنتظره طوال النهار أمام المدخل لأرى إن كان سيخرج أم لا. وحين يقترب موعد عودته، كنتُ أسبقه إلى البيت وأحسب له الوقت الذي لزِمَه ليصل.
وبالطبع لم يعد باستطاعتي ترتيب المنزل أو تحضير الطعام، فاخترعَتُ له قصّة مرض أختي وذهابي إليها للإهتمام بها. ومرَّت الكذبة على خير، حتى أن قرَّرَ عُمر في أحد الأيّام أن يمّر خلال فسحة الظهر إلى منزل أختي للإطمئنان عليها. كنتُ أنتظره كالعادة في سيّارتي أمام عمله، وحين رأيتُه يخرج في غير موعده بدأ قلبي يخفق بسرعة رهيبة، ظانةً أنّه ينوي ملاقاة عشيقته. ولحِقتُ به وإذ به يأخذ طريق مسكن أختي فعلِمتُ ما ينوي فعله. أخذتُ جوّالي واتصَلتُ بها منبّهة إيّاها ألا تفضح أمري. كانت على علم بما أفعله، وحاولَت مرارًا حملي على التوقّف والتعقّل ولكنّني لم أسمع منها. ولكن لسوء حظّي، إلتقى زوجي أمام البيت بإبن أختي الذي لم يذهب إلى المدرسة بسبب وعكة صحيّة فسأله عنّي. وبالطبع قال له الولد إنّني لم آتِ في ذلك النهار ولا في أيّ نهار آخر. ومِن ملامح وجه زوجي، علِمتُ أنّه مستاء جدًّا، وأسرعتُ بالعودة إلى البيت لأحضّر دفاعي. ولكنّني لم أستطع تبرير كذبتي، فظنّ عُمَر أنّني أنا التي تخونه واضطرِرتُ لإخباره بما فعلتُه. وبدأ يصرخ بي:
ـ هل أنتِ مجنونة؟؟؟ لماذا أخونكِ فأنا أحبّكِ!
ـ هذا ما كان يقوله أبي لأمّي... وأنظر ما حصل!
ـ لكنّني لستُ أباكِ! أنا عُمَر! وكنتِ تفتشيّن بأمتعتي وتلحقين بي إلى عملي؟ هذا لا يجوز!
ـ كنتُ أريد التأكّد.
ـ التأكّد مِن براءتي أو مِن أنّ شكوككِ في محلّها؟ وما الذي فعلتُه لأثير تلك الشكوك؟
ـ تستحمّ كثيراً.
ـ ماذا؟؟؟ لا أصدّق أذنيَّ! أستحم كثيراً؟؟؟ إسمعي... صحيح أنّني أحبّكِ ولكنّني لن أسمح لكِ بتدمير حياتي... ولا أريد أن أتكلّم بهذا الموضوع مجدّدًا أسمعتِ.
وبات المسكين يذهب إلى أهله للإستحمام تجنّبًا للمشاكل، ولكنّ ذلك أكَّدَ لي أنّه يُخفي شيئًا عنّي. وأصبحتُ كالمجنونة أدور في مكاني وأبكي وأتحسّر على حظّي وأتخيّله مع غيري حتى طفحَ كيل زوجي ووضعَني أمام خيارَين: إمّا الطلاق أو الذهاب إلى طبيب نفسيّ. ورفضتُ رؤية أخصّائي لأنّني لم أتقبّل فكرة أنّني مريضة نفسيًّا، فبنظري كنتُ إنسانة حذرة لا أكثر.
ولكنّني لم أتصوّر نفسيّ أعيش مِن دون زوجي، خاصّة أنّ لا مكان لي أعود إليه. فقد كانت أخواتي قد تزوّجنَ، والعودة إلى منزل خالي كانت مرفوضة تماماً. لِذا خضعتُ للأمر الواقع، وقبِلتُ أن أزور الطبيب ولكنّ لمرّة واحدة وحسب.
وخلال تلك الجلسة، إرتحتُ لذلك الرجل الذي سألَني بضعة أسئلة وحمَلَني على إخباره بطفولتي، خاصة أنّه أعطاني بضعة نصائح لأبدّد قلقي. وعند تطبيقها في المنزل شعرتُ بتحسّن، على الأقل مِن حيث التشنّج الذي كان يُلازمني. لِذا قرّرتُ أن أكمل الجلسات فلم أرَ أيّ ضرر في ذلك.
وبمساعدته إستطعتُ رؤية ولمس ألمي ومصدره، وفهمتُ أنّ خوفي مِن أن آخذ مكان أمّي كان أقوى مِن كلّ شيء. فالمسكينة لم تكن قد تحمّلَت خيانات زوجها فحسب بل ماتَت بسببها. وأصبحَت الخيانة تعني لي الموت، الأمر الذي لم أكن طبعًا لأتقبّله.
ويوماً بعد يوم صِرتُ أرى زوجي مِن زاوية مختلفة، فلم يعد الإنسان الذي كان سيُؤذيني لا بل يُسبّب لي الموت، بل صار الحبيب والسّنَد.
ولم أكن لأنجح في الشفاء لولا دعم عُمَر الدائم لي. فهو ساعَدَني كثيرًا، لأنّه علِمَ كم كنتُ أتألّم فقرّر إستعادة التي أحبّها أكثر مِن كلّ شيء.
وبعد أن شفيتُ تمامًا، أنجبنا أجمل فتاة في الدّنيا، ونحن الآن عائلة سعيدة يربطها الحبّ والثقة. ولم أعد أخاف مِن إستحمام عُمَر بل صِرنا نستحمّ سويًّا.
حاورتها بولا جهشان