إراقة دم أخي سببها أمّي

مأساة كبيرة ضَرَبَت عائلة كانت تعيش في سلام قبل أن تستيقظ المشاعر البشعة التي تسكن كلّ إنسان. فالكره والأذى والغيرة التي شاهدتُها لم تولَدوا فجأة بل كانت خامدة تحت الرّماد. ولم أصدّق أنّ أمّي قد تتوصّل يومًا إلى جرّ أخي في دوّامة لن يخرج منها إلا محمولاً.

 

كنّا سعداء قبل أن تأتي سميرة لتعيش هي وعمّي معنا. أذكّر جيّدًا يوم جاءَت تلك العروس إلى بيتنا وما قالَته لأبوَّي عندما رأتني مع أخي الكبير:" ما ألطف هذين الولدَين! أدعو الله أن يرزقني مثلهما". وفرحَ الجميع خاصة أبي وعمّي اللذان كانا قد اتفقا ألّا يبعدان عن بعضهما أبدًا بعدما مات والدَيهما.

 

كانت أمّي امرأة هادئة وحكيمة، وأخَذَت على عاتقها الإهتمام بِسلفتها التي كانت بالكاد أكبر مِن أخي. أمّا سميرة فقبِلَت هذه الرعاية شرط ألّا تتعدّى والدتي حدودها.

 

وعشنا بضعة أشهر بسلام إلى أن أصبحَت والدتي تتدخّل بحياة سميرة أكثر مِن اللازم، خاصّة بشأن حياتها الحميمة مع عمّي لتساعدها، وحسب قولها "على الإنجاب وبسرعة". وتوصّلَت حتى إلى أن تتهمها بالعقم أو على الأقل أنّها لا تحسن التصرّف مع زوجها.

 

وطلبَت زوجة عمّي منها أن تكفّ عن التعاطي بشؤونها، ممّا أشعل فتيل الحرب بينهما. وصارَت الإمرأتان تتشاجران لأيّ سبب، وسمعتهما تستعملان ألفاظًا كانت محرّمة في بيتنا، واستغربتُ جدًّا أن تقول أمّي هذه الأشياء البشعة لِسميرة. ورغم محاولات أزواجهنّ تهدئة الأوضاع سرعان ما كانت الأمور تشتعل مِن جديد. وأرادَت سميرة أن تسكن في مكان آخر، ولكنّ عمّي أفهمها أنّ ذلك لا يُمكن أن يحصل وأنّ عليها إمّا تحمّل سلفتها أو الرحيل مِن دونه.

 

وكانت الأمور ستقف عند ذلك الحد أو تهدأ لوحدها، لولا صدفة غيّرَت مجرى الأحداث. ففي ذات يوم، وبينما كانت سميرة تزور إحدى صديقاتها، إلتقَت هناك بإمرأة لم تكن تعرفها. وأخَذَت زوجة عمّي بإخبار الحاضرات عن أمّي وعن كلامها القبيح لها بشان الإنجاب وكيف حوّلَت حياتها إلى جحيم.


عندها قالَت المرأة لِسميرة:" هذا رقم هاتفي... إتصلي بي... لدَيّ ما سيُسكت سلفتكِ". واتصلَت سميرة بها في الليلة ذاتها، وهذا ما دار بينهما:

ـ سلفتكِ تتباهى بالحكمة والرّصانة... وتدّعي الأخلاق وتتجرّأ على إعطاء المواعظ... أليس كذلك؟

ـ أجل... هي كالأفعى... تصل بصمت إليكِ وتلتفّ حولكِ وتلسعكِ... أكرهها!

ـ ماذا لو قلتُ لكِ إنّني ساعدتُها بنفسي على إنزال جنين حمِلَت به قبل سنين مِن أن تتزوّج؟

ـ يا إلهي! ماذا تقولين؟

ـ كانت لا تزال مراهقة ووقعَت ضحيّة محتال تركها وهرب... وجاء أهلها بي بعدما علِموا أنّني "داية" وأعلم كيف أحلّ هكذا مشاكل... ولكنّهم لم يدفعوا لي ما اتفقنا عليه، بل أعطوني ملاليم وهدّدوني بأن يفضحوا أمري أمام السلطات... لم يخطر ببالي أبدًا أن يأتي يوم وأتمكّن مِن الإنتقام منهم... الآن صرِتِ على علم بما حدث ويُمكنكِ إسكاتها والعيش بسلام".

 

وركضَت سميرة تواجه أمّي بالذي عرفَته، ولأوّل مرّة في حياتي سمعتُ والدتي تبكي. وبالطبع لم أفهم لماذا، ولكنّني علمتُ أنّ الموضوع بغاية الأهميّة، خاصّة عندما تغيّرَت طباعها لاحقًّا. فأصبحَت أمّي كالخاتم بإصبع سلفتها تنفّذ لها جميع رغباتها. أمّا زواجهما فكانا ممنونَين لهذا الهدوء الذي كان قد غاب منذ أكثر مِن سنة.

 

ولكنّ أمّي لم تكن مِن اللوات تستسلِمن بسهولة، خاصة لإمراة بعمر إبنها، وبدأت تفتّش في ماضي سميرة آملة أن تجد هي الأخرى ما يُمكنها تهديدها به ولكنّها لم تجد شيئًا بتاتًا. وانتابها خوف شديد، فلم تكن واثقة من أنّ سميرة، وبالرّغم مِن النعيم الذي أصبحَت تعيش فيه، لن تخبر أبي بماضي أمّي غير الشريف. لِذا قرّرَت أن تحيك لها مكيدة لم ولن تخطر على بال أحد لِكثرة فظاعتها. والأبشع مِن ذلك أنّ أمّي إستعانت بي حين كنتُ فتى لم أتجاوز الثامنة مِن عمري ولم أكن أعلم بعد بأمور الحياة، ناهيك عن الخيانة والزّنى.

هذا لتفهموا إلى أيّ مدى يُمكن أن يصل إليه الإنسان لإشباع غريزته بالإنتقام والأذى.

 

كما أشَرتُ سابقًا، كان أخي توفيق مراهقًا وعمره يُناهز عمر سميرة أي يصغرها بِسنتَين فقط، وكان في سنّ مُفعم بالحيويّة والرغبات الجنسيّة. وكانت والدتي قد لاحظَت كيف يُراقب زوجة عمّه، واستنتجَت طبعًا أنّه يحلم بها كما قد يفعل سّرًا أيّ مراهق. وكي تضمن نجاح خطّتها أعطَت توفيق حبوبًا منشّطة يستعملها والدنا حين يكون تعبًا ويودّ معاشرة أمّي، وقالت له إنّها فيتامينات تساعده للتركيز على دراسته، خاصة وأنّه كان على مشارف إمتحان أخر السنة. وحين أخَذَ أخي الحبوب، شعر بالطبع برغبة قويّة جدًّا من دون أن يُدرك المسكين السبب. عندها قالت له أمّي:" سميرة في غرفتها وتودّ أن تراك... إذهب اليها".

 

وطلبَت أمّي منّي أن أخرج وأقف أمام مدخل المنزل وأراقب الحي وأطلعها فور قدوم أيّ أحد. وحين سمَحَت لي بالدّخول إلى البيت لم اشك بالذي حصل في الداخل.


وأظنّ أنّ سميرة قاومَت توفيق في ذلك النهار، ولكن عندما قالَت لها والدتي أنّها ستخبر عمّي بما حصل وأنّه لن يُصدّق أنّها لم تغرِ أخي، رضَخَت للأمر الواقع وانقلبَت الموازين ضدّها ولم تعد في مركز المهدِّدة بل المهدَّدة.

 

ولكن ما لم يكن في الحسبان قد حصل: وقعَت سميرة في حبّ توفيق الذي بادلها شعورها، وأصبحا عشيقين بكلّ ما للكلمة مِن معنى، ممّا أثار غضب أمّي التي لم تتوقّع طبعًا ذلك.

 

وبات توفيق هو الذي يطلب منّي الوقوف حارسًا أمام المبنى، بينما كانت أمّي تخبّط على باب سميرة لإخراج إبنها مِن قبضة غريمتها.

 

وأكل الغضب قلب أمّي، وتحوّلَت إلى وحش لا يرى أمامه سوى الإنتقام. ولم تعد تنام أو حتى تأكل، خاصة أنّ العاشقَين كانا يتبادلان النظرات والهمسات الحميمة أمامها، الأوّل مِن دون قصد والأخرى لإغاظتها.

 

ونسيَت أمّي أنّ العشيق هو إبنها وانّها هي التي ألبسَته الدّور الذي باتَت تمقته، ولم تجد أمامها سوى حلّ واحد، وهو إخبار عمّي بأنّ لزوجته عشيقًا.

 

وأتذكّر تمامًا ذلك النهار ولن أنساه حتى مماتي.

 

كان توفيق مع سميرة في الغرفة وأنا أمام المبنى أراقب الطريق. وإذ بي أرى عمّي قادماً على غير عادته، إذ كان مِن المفروض به أن يكون في عمله مع أبي. ومِن نظراته التي كان الشرّ يتطاير منّها، علِمتُ أنّ كارثة على وشك الحصول. وركضتُ كالمجنون إلى الداخل لأنذر أخي، ولكنّ أمّي أمسكَت بي وأدخلَتني الحمّام وأقفلَت الباب عليّ. ورغم صراخي وتوسّلاتي، لم أستطع إيقاف ما حصل بعد ذلك.

 

دخَلَ عمّي البيت وتوجّه فورًا إلى الغرفة حيث كان العاشقان. سمعتُ صراخًا ومِن ثم طلقة نار. ومِن بعدها ساد سكوت رهيب. ومِن الحمّام، وصلَت إليّ صرخة أمّي التي مزّقت ذلك الصّمت وعلِمتُ أنّ أخي قد مات.

بقيتُ محتجزًا حتى تذكّرني أحدهم وفتحَ لي الباب. ورأيتُ أناسًا كثر وأفراد شرطة الحيّ، وفي الزاوية والدتي غارقة في شبه سبات.

كانت قد تسبّبَت بموت إبنها لتشبع رغبتها بالقضاء على مَن اعتبرَتها عدوّتها. ثمن غالٍ لمعركة لا لزوم لها أو مبرّر.

أخذوا عمّي إلى السّجن، ورحَلَت سميرة إلى أهلها. لم يعلم أبي أنّ زوجته كانت السبب في ما أصابهم، ولكنّها كانت قد نالَت عقابها وأصبحَت شبه مجنونة تكلّم الجدران وتنادي إبنها طوال النهار والليل.

ولم أعد أطيق العيش في ذلك المكان المليء بالكره والموت، فطلبتُ مِن جدّتي أن تأخذني للعيش معها. لم أودّع أمّي وهي علِمَت لماذا.

 

زرتُ أبويَّ مرّة أو إثنتَين، ومِن بعدها فضّلتُ نسيانهما ومتابعة حياة أهدأ في جوّ سليم.

 

ماتت أمّي بعد خمسة سنوات وتزوّج أبي مِن جديد، أمّا أنا فلا أزال أرى في الليل أحلامًا مزعجة مليئة بالصراخ ودويّ رصاص ودم أريقَ سدىً.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button