ليس باستطاعة أحد أن يعلم ما يخبّأه له الزمَن أو بِمَن سوق يلتقي. فقصّة حياتي مجموعة ظروف اجتمعَت بِشكل غريب وجعَلت منّي اليوم رجلاً ثّرياً في حين ولِدتُ وسط عائلة فقيرة جدّاً.
أتذكّر أنّنا كنّا نفرح حين كان لدَينا ما نأكله في المساء وكنّا غالباً نتضرّع جوعاً. ولكنّنا كنّا سعداء بِسبب الحب الذي كان سائداً بيننا وأظنّ أن ذلك أعطاني القوّة والثقة بالنفس التي لطالما تحلّيتُ بها. فلولا ذلك الحب لكنتُ أصبحتُ رجلاً جافّاً يسعى وراء القرش بِجشع، أو جباناً لا يتردّد في سلوك الطرق الملتوية لِبلوع غايته.
كل شيء بدأ عندما كنتُ في الثانية عشر مِن عمري. فبعد أن تركتُ مقاعد تلك المدرسة الحكوميّة الفاشلة، قرّرتُ العمل لِمساندة أهلي وتحسين ظروف معيشتنا. وبدأتُ بِمساعدة البقّال في تحميل بضاعته مقابل مبلغ زهيد وكان في آخر النهار يعطيني ما تبقّى مِن خضار وفواكه غير صالحة للبيع أو الخبز الذي أوشكَ على الاهتراء. وكنتُ مسروراً أنّني ولو قليلاً استطعتُ أدخال المزيد على البيت وجنّبتُ أخوَتي الصغار الجوع القبيح.
وكنتُ مدركاً أنّ عملي عند ذلك الرجل لن يجدي، فانتقَلتُ بعد بضعة أشهر الى مصنع خشب للقيام بما لا يريد أحد القيام به، أي التنظيف والتحميل وسط غبار المنشرة المضّر. ولكنّني لم أشتكِ يوماً لأنّ الراتب كان مقبولاً والدوام محدّد ولأنّ ذلك العمل كان مثير للاهتمام: كنتُ أعشق النظر إلى تلك الماكينات الضخمة التي تقص قلب الأشجار وتحوّلها إلى ألواح ومِن ثمّ إلى طاولات وأسرّة وكراسي.
وفي أحد الأيّام عندما كنتُ واقفاً أتفرّج على العمّال وهم ينشرون جذعاً ضخماً، سقطَت فجأة قطعة كبيرة على أحدهم. وركضتُ كالمجنون وأطفأتُ المكينة ومِن ثمّ ساعدتُ الجميع على اسعاف العامل المسكين. وبالطبع شكرَني وصفّقَ لي الكل وشعرتُ بأنّني لا أستحق كل ذلك لأنّني لم أفعل سوى واجبي. ولكن في مساء اليوم نفسه طلبَني المدير إلى مكتبه وقال لي:
ـ لن أتكلّم عن مساعدتكَ للزميل الذي وقعَ عليه اللوح ولكن عن سرعة ردّة فعلكَ واستدراككَ لما يحصل... أنتَ الوحيد الذي فكّر بإطفاء المكينة... وهذا ما دفعَني لاستدعائكَ... أنتَ شاب ذكي يا يوسف ونحن بحاجة إلى هذا النوع مِن العمّال... ولكنّكَ لا تزال يافعاً وينقصكَ الكثير... منذ أيّام قليلة وصَلَني بريد الكترونيّ مِن شركتنا الأمّ في أفريقيا يطلبون فيها منّي أن أرسل لهم عمّالاً للتدريب... ستذهب إلى هناك.
ـ إلى أفريقيا؟ يا ألهي! لا أظنّ أنّني قادر على ترك أهلي وقصد تلك القارة...
ـ ستذهب إن كنتَ طموحاً... وعندما تعود ستكون مسؤولاً عن أمور عديدة هنا... لا تفوّت هذه الفرصة.
ـ وهل سأتقاضى أجراً هناك؟ أهلي بِحاجة إلى مدخولي.
ـ بالطبع... أضافة إلى المسكن والمأكل والمشرب والتدريب... ماذا قلت؟
وبعد أن حصلتُ على إذن أبي على السفر، لأنّني كنتُ لا أزال قاصراً، أخذتُ طائرة إلى غرب أفريقيا ووصلتُ والخوف في قلبي. ولكنّني كنتُ مصرّاً أن أمضي بهذه الرحلة لأنّها فرصة مِن ذهب لن أحظى بها ثانية. وبالرغم مِن شعوري بالغربة وخوفي مِن ذلك البلد القاسي، تمكنّتُ مِن التأقلم والاستفادة مِن تدريبي. فصِرتُ أعرف كل شيء عن الخشب مِن مرحلة التقطيع إلى التصنيع.
وحين استعدَّيتُ للعودة إلى البلد وصلَني مِن مديري الأمر بالبقاء حيث أنا والانخراط بالعمل لأنّني حسب قوله "أبدَيتُ تفوّقاً في الاستيعاب والتطبيق." حاولتُ المناقشة ولكنّ الرجل أفهمَني أنّ لا رأي لي في هذا الموضوع وإلاّ كان عليّ نسيان أمر العمل عنده. فبقَيتُ لأنّني كنتُ قد بدأتُ أعيل ذوييّ بِشكل تام. ولكنّ محسن المسؤول عنّي في أفريقيا، بدأ يعيرني اهتماماً خاصاً لا علاقة له بالعمل. فكنتُ لا أزال في الخامسة عشر مِن عمري وكان ذلك الشخص يهوى الشبّان الصغار. وبالطبع لم أنتبه إلى شيء لأنّ الأمر كان غريباً عنّي وظنّنتُ أنّه يستلطفني لِشخصي فقط. ولكن عندما دعاني في إحدى الليالي للعشاء في منزله وفتحَ لي الباب وهو لا يرتدي سوى برنساً تفاجأتُ كثيراً وسألتُه إن كنتُ قد حضرتُ باكراً ظاناً أنّه خرجَ للتوّ مِن الحمّام. ولكنّه ضحكَ وقال: "لا... لقد جئتَ في الوقت المناسب." وبعدما جلسنا في صالونه قام مِن مكانه واقتربَ منّي وبدأ يقول لي كم أنا وسيم وكم أعجبه. عندها أجبتُه بِكل رويّة: "أنا آسف سيّدي ولكنّني أهوى النساء." عندها استاء كثيراً وصرخَ:
ـ لماذا تظنّ أنّني فعلتُ المستحيل لِتبقى في أفريقيا؟
ـ لأنّني مجتهد.
ـ لا... بل لأنّني أريدكَ.
ـ قلتُ لكَ أنّني غير مهتم بكَ سيّدي... ولا نفع مِن التقليل مِن شأني فأنا أعلم أنّني عامل جيّد... إن كنتَ لا تقدّرني فهذه مشكلتكَ... سأعود إلى دياري وسترى بعد رحيلي كم كنتُ ذات فائدة لكَ.
سكتَ محسن وقال:
ـ أنتَ على حق... صحيح أنّني أريدكَ ولكنّني لن أخسركَ... هل ستخبر أحداً بالأمر؟
ـ أبداً سيّدي... لن أشوّه سمعتكَ فهذا ليس مِن شيَمي ولكنّني لن أقبل منكَ أي تصرّف يضايقني وإلاّ رحلتُ فوراً... هل اتفقنا؟
ـ كم أنّكَ ناضج لِعمركَ... أعدكَ بأنّني لن أقتربَ منكَ مجدّداً... ولكن إن غيّرتَ رأيكَ يوماً...
ـ لن يحصل ذلك.
وعندما أتذكّر تلك الحادثة أدرك كم تعاملتُ مع الوضع بِحكمة ولطف وهذا ما ساعَدني على إكمال مسيرتي في عالم الخشب. وبعد مرور أكثر مِن عشر سنين على وصولي إلى أفريقيا وبضعة زيارات إلى البلد، شبّ حريق هائل في المصنع وأكلَ كل الأخشاب. وبالرغم مِن أنّ المكان كان مؤمنّاً ضد الحريق كان يلزم وقتاً طويلاً لإعادة بناءه وتشغيله. لِذا فضّلتُ العودة إلى دياري.
واستكملتُ عملي في المصنع ذاته الذي بدأتُ فيه ولكن كرئيس عمّال ومشرف عام. ولكن ما كنتُ أعرفه هو أنّ الجميع كان على علم بِشذوذ محسن ويعتقد أنّني كنتُ على علاقة حميمة معه كل تلك السنوات وأن ذلك كان سبب نجاحي هناك. واكتشفتُ الأمر بعد أن بدأتُ أسمع التلميحات المؤذية مِن حولي والنظرات الساخرة حتى أن وجدتُ صوراً إباحيّة عن رجال لواط ملصقة على خزانتي.
وغضبتُ كثيراً ولكنّني لم أجد طريقة لإسكات تلك الشائعات المشينة. واتصلتُ بِمحسن وأخبرتُه بالذي يحصل ولمتُه على خراب سمعتي وكل الذي عملتُ لأجله فلم يعد باستطاعتي البقاء في المصنع. أجابَني الرجل بأنّه جدّ متأسّف لما يحصل لي وأقفل الخط.
حزنتُ كثيراً لأنّه لم يحاول مساعدتي وذهبتُ لأقدّم استقالتي. والمؤسف في الأمر أنّ مديري الحالي لم يحاول أقناعي بالعدول عن قراري بل بدا وكأنّه أرتاحَ للأمر. ولكنّه طلبَ منّي أنّ أبقى أسبوعَين اضافيّين لِتدريب الذي كان سيأخذ مكاني.
وبعد ثلاثة أيّام تفاجأتُ بِحضور محسن إلى مصنعنا بِصحبة شاب وسيم. عرّفَه على الجميع بأنّه "صديقه الحميم" ومِن ثم جالَ على أقسام المصنع. وحين كان الجميع يحيطه نظَرَ إليّ وقال:
ـ مرحباً يا يوسف... كيف حالكَ؟
ـ بألف خير سيّدي... أهلاً بكَ في البلد.
ثم نظَرَ حوله وقال للموجودين:
ـ عامل مجتهد... مِن المؤسف أنّه يحب النساء... وكثيراً... على كل حال أجد دائماً مَن يشاطرني ميولي.
ولَمَسَ بِيده خد صديقه وأخذَه ورحل. وأدركتُ أنّه جاء خصيّصاً مِن أفريقيا مصطحباً ذلك الشاب لِينقذ سمعَتي واضعاً نفسه في وضع حرج.
فَصحيح أنّ الناس كانت تعلم بِميوله ولكنّها كانت حتى ذلك الحين أقاويلاً فقط وتحوّلَت بعد زيارته إلى يقين. وانتظرتُ عودته إلى أفريقيا لأتصل به وأشكره على الذي فعلَه معي. عندها أجابَني: "لا شكر على واجب... لقد صدّيتَ عرضي بِلياقة ولطف دون أن تحكم عليَّ وحفظتَ سرّي وفوق كل شيء كنتَ أفضل عامل لدّيّ ومِن المؤسف أن تجد نفسك مِن دون عمل بِسببي."
ونجاح خطّته تجلّى بإصرار مديري على بقائي في مركزي ورفضه استقالتي. وعندما سألتُه عن سبب هذا التغير قال لي: "لقد أسأتُ الظنّ فيك، سامحني."
وتابعتُ مسيرتي حتى أن أصبحتُ بعد سنوات المدير العام. وها أنا اليوم أملك مصنعي الخاص الذي يوزّع الأخشاب على قسم كبير مِن العالم. والفضل بذلك يعود ليس فقط على انكبابي على العمل ولكن على حسن تصرّفي مع الناس.
وعندما توفّى محسن وأعادوا جثمانه إلى البلد كنتُ أوّل المعزّين به لأنّه كان رجلاً نزيهاً وطيبّاً، علّمني أسرار المهنة وبرهنَ لي أنّ الإنسان يُقدَّر بأخلاقه مع الآخرين وليس بِميوله الخاصة.
حاورته بولا جهشان