كان توفيق وسيمًا للغاية ويُجيد التكلّم مع الفتيات ووقعتُ في غرامه. وبالرّغم مِن سنّي اليافع، بقيتُ مصرّة على أن يتقدّم لطلبي رسميًّا. لِذا دبَّرتُ له موعدًا مع أبوَيَّ وجاء محمَّلاً بالورد والحلويات. ولكنّ أبي رفَضَ توفيق بسبب الفرق الاجتماعي بيننا: كنّا مرتاحين ماديًّا ومتعلّمين بينما كان هو صنائعيّاً. أمّا بالنسبة لباقي عائلته، فلم أكن أعرف الكثير عنهم لأنّهم كانوا قد انتقلوا إلى حيّنا منذ فترة قصيرة ويعيشون في الايجار.
وهكذا رأيتُ حلمي بالزواج مِن محبوبي يتبخّر لحظة ما قال له والدي: "متأسّف يا بنَيّ ولكن عليك البحث عن زوجة في مكان آخر".
وبالطبع استاءَ توفيق وعَرَضَ عليّ على الفور الهروب معه. كنتُ أعلم أنّ الأمر سيُكلّفني الكثير، ولكنّني كنتُ غارقة في الغرام وغاضبة مِن عائلتي التي لم تستوعب أنّ برفضها كانت قد كسَرَت فؤادي.
وفي ليلة مظلمة، حَزَمتُ حقيبة صغيرة وخَرَجتُ مِن البيت عندما كان الجميع نيامًا، وعانَقتُ حبيبي الذي كان ينتظرني في الخارج ليأخذني إلى أهله، بعدما دبّروا مراسم الزواج في بلدة أخرى بعيدة جدًّا عن كلّ الذين أعرفهم.
ولكن ما لم أكن أعرفه أو حتى أتصوّره، هو أنّ لعائلة زوجي عمل غير اعتياديّ: التسوّل.
أجل، كانوا يخرجون مِن مسكنهم في الصّباح، ويجوبون الطرقات لجني المال مِن المارّة والسائقين. ففي الصباح الذي تلا زواجي، قامَت حماتي بإيقاظي لأذهب "إلى العمل"، وأعطَتني ثيابًا وسخة وممزّقة وأمَرَتني بارتدائها.
وأمام اندهاشي ورفضي القاطع، تدخّل توفيق فصفعني بقوّة وقال لي: "ستفعلين كما نقول لكِ... لا مكان لكِ لتذهبي إليه بعد الآن... إذا كنتِ مطيعة ستعيشين مرتاحة وإلا..." وصفعَني مجدّدًا لآخذ فكرة عمّا كان بانتظاري.
ولحقتُ بسرب نساء العائلة بعد أن علّمني ما عليّ قوله وكيف أتصرّف، وأفهمَني أنّ مِن الممنوع أن يأتي المساء مِن دون أن أكون قد جنَيتُ مبلغًا معيّنًا.
بكيتُ كثيرًا في ذلك اليوم، الأمر الذي حَمَلَ المارّة على التحنّن عليّ غير مدركين السّبب الحقيقيّ لدموعي.
وفي المساء، علِمتُ أن المال الذي جمعتُه لن يبقى معي بل ستأخذه حماتي ولن أرى قرشًا منه. فقد كان مِن المستحسن ألا آكل كثيرًا لأبقى نحيفة، إذ مَن سيُساعد صبيّة بكامل صحتّها؟ لِذا لم يُعطوني سوى قطعة خبز وبعض اللبَن.
وعندما علِمتُ أنّ حياتي متّجهة نحو مكان بشع، إتصَلتُ بأخواتي وأمّي بنيّة العودة ولكنّ أبي لم يقبل. كم بكيتُ! هل يُعقل أن يكون قلبه بهذه القساوة؟ صحيح أنّني أخطأتُ بالهروب، ولكنّني كنتُ لا أزال في السابعة عشرة مِن عمري، أي أعطي للعواطف أهميّة تفوق أيّ شيء آخر. ما أغرب الأهل... ينسون بسرعة أنّهم كانوا أيضًا بسنّنا ومرّوا بالمشاعر نفسها...
بقيتُ على اتصال مع أخواتي، ولكنّني لم أقل لهنّ عن الذي يجري خوفًا مِن الشماتة، وخوفًا عليهنّ مِن زوجي وأهله الذين كانوا يحملون معهم سكاكين ليلاً نهارًا ولا يتردّدون باستعمالها في الوقت اللازم.
وسرعان ما حمِلتُ بأوّل ولَد ومِن ثمّ بالثاني، فعند هؤلاء الناس كان مِن الضروريّ أن تنجب المرأة لتأخذ طفلها معها إلى الطريق. وصُدِمتُ كثيرًا عندما رفَضَ زوجي أخذ ابني عند الطبيب عندما مرَضَ، واكتفى بالقول: "طفل مريض يُكسبنا مالاً أكثر". صُعِقتُ عند سماع ذلك، وركضتُ به إلى الصيدليّة بعدما اتصلتُ بإحدى أخواتي لآخذ منها ثمن الدواء.
كنتُ أخبّئ بعض المال مِن حين إلى آخر في مكان خارج البيت، لأنّني عند دخولي كنتُ أخضع لتفتيش دقيق مِن قِبل جميع أفراد العائلة.
وفي اليوم التالي كنتُ أقصد أنا وابنَيَّ مخبئي وأشتري لهما القليل مِن الأكل والشرب. كنتُ أفعل ذلك سرًّا وبسرعة لأنّ باقي "الفريق" كان يُراقبني عن بعد طوال الوقت.
ومرّت الأشهر على هذا الوضع السيّء أي بالمرض والجوع والتعب، حتى التقَيتُ بجاد، شاب كان مارًّا في سيّارته ورآني، وبالكاد كنت قادرة على الوقوف وأنا أحمل بيدي ابني الصغير وإلى جانبي الأكبر.
كان الطقس حارًا وكنّا واقفين في الشمس، فَرَكَن جاد سيّارته بسرعة ودَخَلَ دكّانًا واشترى لنا قنانٍ مِن الماء وبعض السكاكر. نَظَرتُ إليه بامتنان، فقليلون هم الذين يلتفتون إلينا إن لم ألحّ عليهم وأتوسّل إليهم بقوّة. إبتسَمَ لي ورَحَلَ.
وفي تلك الليلة، رأيتُ ذلك الشاب في منامي واستَيقظتُ مبتسمة. وكان مكتوب لحلمي أن يتحقّق، ففي اليوم التالي عادَ جاد ومعه الأكل والشرب، ووقَفَ معي ينظر إليّ وأنا آكل، وإلى ولَدَيّ وهما يلتهمان ما جاء به لنا. وسألني:
ـ أنتم جائعون للغاية... ألا يعطيكِ الناس ما يكفي؟
ـ بلى ولكن... يأخذون هم كلّ ما أجنيه.
ـ مَن هم؟
ـ زوجي وعائلته
وأخبَرتُه قصّتي مِن أوّلها وعندما انتهَيتُ مِن الكلام، هزّ جاد برأسه وصَعِد بسيّارته واختفى. وبدأ يأتي لرؤيتي كلّ يوم وكنّا نغيّر مكان لقائنا كي لا يُلاحظ أحد شيئًا.
وباحَ لي جاد بحبّه لي وبنيّته الزواج منّي واحتضان طفلَيَّ. طرتُ مِن الفرح لأنّني أنا أيضًا أحبَبتُه، ولكنّني عدتُ وسكتُ مطوّلاً عندما تذكَّرتُ أنّني لا أزال متزوّجة وأنّ العيش مع جاد مستحيل.
بكيتُ كلّ دموعي بعدما رأيتُ نافذة خلاصي تُغلَق بوجهي. ولكنّ جاد لم يكن مستعدًّا للاستسلام. كان مِن هؤلاء الرّجال الذين يعرفون كيف يُحبّون ويتحلّى بشجاعة شبه أسطوريّة.
في البدء أعدّ لي خطّة باءَت بالفشل لشدّة مراقبة زوجي وأهله لي. وجاء لي بخطّة ثانية وثالثة إلى أن نجَحتُ أخيرًا بالهروب مع ولَدَيّ. لن أنسى كيف ركَضتُ في الليل كالمجنونة مع طفلَيَّ... ركضتُ بعيدًا عن هؤلاء الوحوش المعدوميّ الأخلاق والعاطفة. ركضتُ نحو مستقبلي الواعد. لم أنظر ورائي.
وحين أصبحتُ بأمان مع جاد، بقيَ لنا أن نجد طريقة لاقناع زوجي بأن يُطلّقَني، وقرَّرَ حبيبي أنّ أفضل حلّ هو أن يعرض عليه المال فلطالما كان ذلك جلّ ما يهمّه. ولكنّ توفيق كان غاضبًا جدّاً مِن إفلاتي منه وفقدان "استثماره" برحيلي. فعندما قابَله جاد، رفَضَ زوجي التخلّي عنّي، لأنّني حسب قوله كنتُ "أدرّ عليه مبالغ كبيرة تفوق كلّ الذي يُمكن لأحد تقديمه". وحين أكمَلَ جملته، أخرجَ مِن جيبه سكينًا كبيرًا وظَهَرَ مِن وراء الأبنية أيضًا شبّان مسلّحون. ولكنّ جاد لم يأتِ لوحده إذ كان قد اصطحَبَ هو الآخر أصدقاء له بعدما أخبَرته عن احتمال حدوث تشابك.
ودارَ الضرب والعراكَ وتفوّق جاد ورفاقه على أخصامهم. عندها، استوعَبَ توفيق أنّه لن يربح شيئًا إن تمسّكَ بي، ففضّل أخذ المال وتطليقي.
وأصبحتُ امرأة حرّة، ولم أصدّق عَينَيَّ عندما رأيتُ أوراق الطلاق موقّعة بيد الذي أهانَنَي وضَرَبني وجوّعَني وجوّع ولَدَيَّ.
وعندما تزوّجتُ مِن جاد، بكيتُ مِن الفرح لاستردادي كرامتي وللمستقبل الجميل الذي كان ينتظرني.
ورضيَ أهلي عليّ أخيرًا.
اليوم وبعد خمسة سنوات على زواجي وإنجابي لبنت جميلة، أستطيع القول إنّني سعيدة فعلاً. وعندما أفكّر بما مرَرتُ به، أدرك أنّ الأمل دائمًا موجود، وأنّ الضوء في آخر النفق ليس بالضرورة بعيدًا. فالله لا يترك عباده.
حاورتها بولا جهشان