خجلتُ مطوّلاً مِن القصّة التي لازمَتني وسبَّبت لي إضطرابات كثيرة، في وقت لَم أقترِف شيئًا بل هما اللذان فعلا. بهما أقصدُ والدَيَّ رحمهما الله. فمِن المعروف أنّ الأولاد هم الذين يدفعون ثمَن أخطاء ذويهم. هذه قصّتنا:
كانت والدتي تكنّ لوالدي حبًّا لا حدود له، وهو بادلَها هذا الحبّ وصارَت سيرتهما مثلاً تضربه الناس لأنفسهم ولغيرهم. لا شيء مُشينًا بذلك ستقولون لي، لكنّ الأمر لَم يقِف عند ذلك الحدّ.
لَم أكن قد وُلِدتُ بعد عندما جاءَت رُبى للعَيش مع والدَيَّ. كانت تلك الصبيّة إبنة صديقة أمّي وجاءَت إلى العاصمة لمتابعة دراستها الجامعيّة. كانت رُبى جميلة ومرِحة، وأضافَت على حياة الثنائيّ الفرح في وقت تأخَّرا بالإنجاب وبدآ يشعُران بالملل. بعد سنة، أبصرتُ النور وحظَيتُ على قدر كبير مِن الإهتمام والدَلَع مِن قِبَل أبوَيّ ورُبى.
وبعد سنة أخرى، إستضافَ والدَايَ صبيّة أخرى إسمها نجاح وعاشوا جميعًا في البيت الذي ورثه والدي مِن أبيه والذي كان كبيرًا كفاية ليتّسع لكلّ الصبايا اللواتي مكثنَ فيه.
وبسبب صِغر سنّي، لَم أفهم طبعًا طبيعة العلاقة التي سادَت بين سكّان البيت الأربعة، بل كنتُ سعيدة بأن أكون محطّ أنظارهم. بكيتُ عندما رحلَت رُبى فتعلّقتُ بِنجاح التي كانت تُلاعبُني طوال الوقت... إلى أن جاءَت سلمى. هي الأخرى كانت تحبُّني، لِذا نسيتُ شوقي لِرُبى ونشِفَت دموعي بسرعة.
لكنّ أمر "ضيفاتنا" لَم يُعجب الناس أو العائلة الكبيرة. فهم باتوا يسألون أنفسهم إن كان والدايَ قد حوّلا منزلهما إلى فندق، وما هو أدهى، ما حقيقة الذي يحدثُ في ذلك المكان. ومع الوقت، لَم أعد أرى أقاربنا عندنا ولا الأصدقاء الذين لطالما تردّدوا إلى البيت. لكن ما حاجتنا إلى هؤلاء عندما كان لدَينا نجاح وسلمى؟
بعد فترة رحلَت نجاح هي الأخرى وبقيَت سلمى لوحدها معنا، وتمنّيتُ أن تأتي صبيّة أخرى بعد أن إعتدتُ وجود العديد مِن حولي. إلا أنّ سلمى قرّرَت ترك البيت بعد أن تقدّمَ لها عريس. عندها، أصبَحَ المكان فارغًا للغاية، الأمر الذي ولَّدَ إحباطًا ومُشاجرات غير مسبوقة بين أبويَّ. سمعتُهم ذات ليلة بعد أن تعالى صوتهما، وركضتُ أُلصقُ أُذني على باب غرفتهما. قال أبي لأمّي:
ـ الحقّ يقعُ عليكِ... لا بدّ أنّكِ مسؤولة عن رحيل ضيفاتنا!
ـ أقسمُ لكَ يا حبيبي أنّني عاملتُهنّ بلطف وحنان، أنتَ تعلم كَم أحبُّكَ.
ـ وأنا أيضًا أحبُّكِ لكن عليكِ أن تكوني أكثر احتضانًا لهنّ... أنتِ تعلمين أنّ قليلات هنّ اللواتي تقبلنَ بالعَيش معنا.
ـ قد يكون السبب المبلغ الذي نقدمّه لهنّ، ما رأيكَ لو نزيدُه؟
ـ حسنًا... هذا لو وجدنا أخرى. تعالي إلى هنا... أريني كَم تُحبّيني.
لَم أفهم أبدًا معنى ما سمعتُه أو الذي حدَثَ بين والدَيّ في آخر الحديث، لِذا عدتُ إلى غرفتي ونمتُ على أمل أن تأتي صبيّة جديدة بأقرب وقت.
وطال انتظاري، فكما قال أبي ليس هناك الكثير مِن الفتيات اللواتي تقبلنَ بعرض أبوَيّ. وأيّ عرض كان؟ ستعرفون ذلك بعد قليل.
مرَّت حوالي السنة ساءت خلالها علاقة والدَيَّ، لأنّ أبي صارَ يغيبُ عن البيت كثيرًا، الأمر الذي حمَلَ أمّي على البكاء باستمرار. وكم كانت فرحتها كبيرة عندما أخبرَها زوجها بأنّ ضيفة آتية إلينا بعد أيّام قليلة! أذكرُ أنّ في ذلك اليوم تعانقَ والدايَ مطوّلاً، وهمَسَ أبي في أذنها:
- سنعودُ كما في السّابق يا حبيبتي.
وصلَت نازك البيت مع حقائبها، لكنّني لَم أحبّها فهي كانت أكبر سنًّا مِن اللواتي سبقنَها، وكان هناك شيء في عَينيها لَم أستطع تفسيره لكنّني خفتُ منه. واتّضَحَ لاحقًا أنّني كنتُ على حقّ بمخاوفي، ويا لَيتني كنتُ ناضجة أكثر لأعبّر عمّا في قلبي. ولكن كان للقدر أن يأخذ مجراه...
عاشَ والدايَ ونازك بسلام، على الأقل في الفترة الأولى، أي إلى حين صارَت ضيفتنا تتصرّفُ وكأنّها سيّدة البيت. إستاءَت أمّي منها كثيرًا إلا أنّها تحمّلَت الوضع. لكنّها أفصحَت أخيرًا لأبي عن انزعاجها مِن نازك وهو أجابَها:
- لَم أجِد سواها... عليكِ تحمّلها.
أذكرُ تمامًا يوم رأيتُ والدي ونازك في موقف أكثر مِن حرج، ولأنّني كنتُ قد صرتُ مُراهقة، فهمتُ طبيعة علاقتهما. إنتابَني غضبٌ شديد، وفكّرتُ في إخبار أمّي بما يحصل إلا أنّني عدَلتُ عن قراري كي لا أُحزن قلبها، واعتبَرتُ الأمر إفتتانًا عابرًا مُتأمّلةً بأن يمرّ بسرعة.
وفي أحد الأيّام، رحلَت نازك... مع أبي! وعند اكتشافها الأمر، وقعَت أمّي أرضًا وغابَت عن الوعي مُتمتمة:
- بعد كلّ الذي فعلتُه مِن أجله!
جاءَ الطبيب ووصَفَ لها الراحة وبعض الأقراص لتهدئة أعصابها.
وبدأ عذاب والدتي، فهي كانت تقفُ أمام النافذة طوال النهار تترقّبُ عودة حبيبها، إلا أنّه لَم يعُد. مرَّت خمس سنوات قبل أن يموت والدي بِحادث سَير. عندها، فقدَت أمّي رغبتها بالعَيش لأنّها فقدَت الأمل بأن تحضن زوجها مِن جديد.
أُصيبَت والدتي بداء السرطان، وكانت حالتها تسوء بسرعة فائقة ربمّا لأنّها تمنَّت لِنفسها الموت. وقبل أن تُفارق الحياة بِساعات، جلستُ على حافة سريرها وسألتُها:
ـ أمّي... لا بدّ لي أن أسألكِ عن... عن الذي كان يحصل في بيتنا. لقد سمعتُ العديد مِن الروايات يتداولها الناس مِن حولي، إلا أنّني أريدُ الحقيقة. لقد عشتُ حتى الآن في مناخ غير سليم، ومِن حقّي أن تُجيبي عن سؤالي كي أستطيع المُتابعة بعد رحيلكِ... أُريدُ الحقيقة كاملة فلَم أعُد طفلة ولقد رأيتُ وسمعتُ ما قسّى قلبي على الحياة.
ـ يا حبيبتي... أعلمُ أنّنا أخطأنا بحقّكِ... سامحينا، سامحيني... كلّ ذلك بسبب حبّي لأبيكِ. هو الآخر كان يُحبُّني كثيرًا، هذا قبل مجيء نازك. لكن دعيني أبدأ مِن الأوّل وأرجو منكِ أن تُحاولي فهمنا.
ـ سأحاولُ يا أمّي.
ـ عند مجيء رُبى، الصبيّة الأولى، لاحظتُ على أبيكِ تغيّرًا ملحوظًا في مزاجه، أي صارَ أكثر فرحًا ومرحًا وكان يعبّر لي عن حبّه بحماس أكبر، إن كنتِ تفهمين قصدي.
ـ أجل أفهمُ قصدكِ فكما قلتُ لكِ لَم أعُد طفلة... تابعي.
ـ لكنّه لَم يلمس رُبى بل اكتفى بالتفكير بها ليلاً ونهارًا. كنتُ أعلم أنّه يُريدُها لكنّه لَم يجرؤ على الإقتراب منها. ثمّ جاءَت نجاح، أنا التي جئتُ بها مِن خلال أحدى معارفي وعلِمتُ أنّها قد تقبل مُعاشرة زوجي.
ـ أنتِ قدّمتِ له نجاح؟ ظننتُكما تحبّان بعضكما!
ـ أجل أنا جلَبتُها له... وأجل كنّا نحبّ بعضنا إلى حدّ الجنون لكن كان لأبيكِ قوّة جسديّة هائلة لَم أستطع مُجاراتها لوحدي. وهو أحبّني أكثر عندما رأى إلى أيّ حدّ يُمكنني الوصول لإرضائه.
ـ ولِما لَم يتزوّج إحدى تلك الصبايا؟
ـ لأنّه أرادَ أن يكون له زوجة واحدة... الوحيدة التي أحبّها.
ـ وسلمى؟
سلمى أيضًا كانت عشيقة أبيكِ، هو وجدَها بنفسه، وكنّا سعداء آنذاك... قبل وصول نازك. فحتى ذلك الحين، كانت تلك الصبايا تقبلنَ بالمال والمأوى والمأكل مُقابل معاشرة والدكِ، وكنّا جميعنا بألف خير. نازك، على خلافهنّ كانت تريدُ كلّ شيء بدءًا بأبيكِ، فاستحوذَت على قلبه وعقله بعدما نالَت جسده. وتعرفين النهاية، رَحَلَ معها وترَكنا.
ـ لَم أفهم تمامًا... أنتِ تروين لي الأحداث وكأنّها أمور طبيعيّة في حين كان البيت الذي وُلدتُ وكبرتُ فيه بمثابة بيت دعارة.
ـ لا! كيف تقولين ذلك؟
ـ المال مُقابل الخدمات الجنسيّة... إمرأة تبحث عن صبايا لإرضاء رغبات رجلها... ماذا تسميّن هذا؟
ـ حبّ.
ـ بل أذلَّيتِ نفسكِ مِن أجل رجل لا يُفكّر سوى بذاته ورغباته. أنا متأكّدة مِن أنّه كان يضحكُ عليكِ كثيرًا عندما يكون مع تلك العشيقات. لقد دمّرتِ روحكِ ودنّستِها مِن أجله... وتقولين إنّه أحبَّكِ؟!؟ إذا كان الحبّ هكذا فلا أريدُه!
بدأت أمّي بالبكاء والصراخ، وأدركتُ أنّني لبستُ دور القاضي وحاكمتُها وهي على فراش الموت، في حين لَم يكن عليّ فعل ذلك بل ترك الأمر للخالق. طلبتُ منها السماح وعانقتُها ونشّفتُ دموعها، مؤكّدةً لها أنّ أبي كان فعلاً يُحبّها وكثيرًا. إبتسَمت لي ونامَت. وفي الصباح، وجدتُها باردة. كانت هناك بسمة على وجهها إذ لا بدّ لها أنّها كانت سعيدة بِملاقاة حبيبها أخيرًا.
بعد موت والدتي تركتُ ذلك البيت الذي اقشعرَّ بدَني منه، ورحتُ إلى إحدى خالاتي لأعيش معها. تحمّلتُ كلام وتلميحات الناس لبعض الوقت ومِن ثمّ سكتَت ألسنتهم أخيرًا. هل سأحبُّ يومًا أم أنّ والدَيّ شوّها إلى الأبد معنى هذا الشعور النبيل؟ لستُ أدري.
حاورتها بولا جهشان