أنا... السكرتيرة

لَم أتأخّر عن قبول تلك الوظيفة بعد تخرّجي مِن الجامعة، فذلك المكتب كان معروفًا جدًّا وصاحبه رجُل أعمال قويّ. إضافة إلى ذلك، العمَل هناك كسكرتيرة بسيطة كان سيملأ سيرتي الذاتيّة الفارِغة. بالطبع أمِلتُ أن أترقّى قريبًا وأعمَل بشهادتي في ادارة الأعمال والتسويق، إلا أنّني فهِمتُ أنّ عليّ البدء مِن أسفَل السلّم.

وفور تسلّمي وظيفتي، لاحظتُ الحزن البائن على وجه رضوان مُديري المهموم دائمًا. حاولتُ معرفة السبب، لكنّني لَم أكن أعرفه كفاية فسألتُ إحدى زميلاتي عن الأمر وهي أجابَت:

- إنّها الزوجة.... يا إلهي لو تعرفينها! إمرأة بغيضة لأقصى درجة... هي تحوّلُ حياة المسكين إلى جحيم يوميّ. لَم يكن الحال هكذا في البدء، أيّ مِن بضع سنوات، لكن مع الوقت، تدهورَت الأحوال بين الزوجَين لدرجة اللاعودة. فأنا أعمَلُ هنا منذ فترة وأعرفُ كلّ شيء تقريبًا عن الجميع... لكنّني لَم أعرِف بعد لماذا السيّد رضوان لا يزال مُتزوّجًا مِن تلك الأفعى... أمر غامِض للغاية!

 

بعد ذلك الحديث، بتُّ أعرِفُ مديري أكثر وأعذرُ نوبات غضبه المُفاجئة. فهو كان بالفعل رجُلاً طيّبًا، ولدَيه حبّ كبير لموظّفيه وبالطبع لشركته. أظنّ أنّنا كنّا بمثابة عائلته ويجِدُ بيننا ما إفتقَده في زوجته. وجاءَت تلك الأخيرة إلى الشركة ذات يوم مِن دون موعَد، فقط لتنشر البلبلة بين الجميع وخاصّة زوجها، وأوّل شيء قالتَه لي حين رأتني كان:

- أنتِ، أجل، أنتِ الجالسة هنا مِن دون منفعة، حضّري لي فنجان قهوة واجلبيه إلى مكتب مُديركِ... هيّا! ولا تنظري إليّ وكأنّكِ بلهاء!

 

إمتلأت عَينايَ بالدموع، فركضَت إحدى زميلاتي لتُخفِّف عنّي قائلة:

- لا تغضبي أو تحزني، هي هكذا... حضّري القهوة يا حبيبتي وانسي ما سمعتِه.

 

أدخلتُ القهوة إلى مكتب رضوان ويدايَ ترتجفان، وهو أسِفَ لرؤيتي هكذا، إلا أنّه لَم يقُل شيئًا بل تابَعَ حديثه مع زوجته التي قالَت له مِن دون أن تنظُر إليّ:

ـ إنّها جميلة وشابّة... هكذا أنتَ تُحبّهنّ، أليس كذلك؟

 

غضِبَ رضوان وطلَبَ منها التوقّف عن الكلام المؤذي، بعد أن أكَّدَ لها أنّ الشركة ليست مكانًا للتعارف بل العمَل. لَم تُصدّقه المرأة، بل تابعَت:

- أنتَ كاذِب، تمامًا كأبي... فهو أقامَ علاقة مع كلّ امرأة قبِلَت به. إسمَع، لن أصبَحَ كأمّي إمرأة تقبَل بنزوات زوجها بصمت! لستُ مثلها!

 

خرجتُ بسرعة مِن المكتب، فالموضوع لَم يعُد يعنيني، وجلستُ وراء مكتبي مذهولة لهذا الكمّ مِن الأذى. بعد دقائق، خرجَت الزوجة وحدّقَت بي مُطوّلاً واختفَت مِن باب الشركة. دخلتُ مكتب رضوان بسرعة ووجدتُه مُمسِكًا برأسه وكأنّه يبكي، لِذا اقفلتُ الباب ورائي وعدتُ إلى مكاني. لا أدري لماذا، لكنّني بدأتُ أشعرُ بانجذاب كبير تجاه مُديري منذ ذلك اليوم بالتحديد، لكن بطريقة مُبطّنة لَم ينتبِه إليها أحَد. لا، لَم أكن أريدُ إقامة علاقة مع مُديري، بل فقط أن أحبّه عن بُعد وبصمت. وصارَ رضوان يسكنُ قلبي وفكري وأحلامي بطريقة دائمة.

في تلك الأثناء، صرتُ ومُديري مُقرّبَين كثيرًا، بسبب كمّيّة العمَل التي أتَت للشركة والتي أجبرَته على تسليمي مُهمّات مُختلفة عن عمَلي كسكرتيرة. كنتُ سعيدة للغاية أنّني سأستطيع إبراز مواهبي ومعرفتي... ومُساعدة حبيبي السرّيّ. فكنتُ أرى في عَينَيه الامتنان وأحيانًا البسمة بدلاً مِن الحزن. لَم أعرِف حينها أنّه كان قد بدأ بالوقوع في حبّي... وأيضًا بصمت.

مرَّت الأسابيع وزارَتنا الزوجة بضع مرّات افتعلَت خلالها المشاكل كعادتها، ولَم أعُد أزَعل حين كانت تصرخُ بي أن أُحضِّر لها القهوة بل العكس، لأنّني كنتُ أعلَم أنّ ما تفعله هو اثبات على زوال زواجها، زواج كان فقط حِبرًا على ورق.

ويوم اعترَف لي رضوان بحبّه وبطريقة مُرتبكة، كنتُ أسعد فتاة في الدنيا. لكنّ حبيبي كان مُتزوّجًا، ولَم يكن مِن الوارِد أبدًا أن أصبَحَ عشيقته، فلَم أتربَّ هكذا على الاطلاق. لِذا قبِلتُ بمشاعر مُديري تجاهي إلا أنّني كنتُ صريحة معه: سيبقى حبّنا شريفًا وعذريًّا. وهو، بدوره، وعدَني بأنّه لن يحاول أبدًا حتّى تقبيلي، فكان وجودي معه يكفيه ومعرفته بأحاسيسي تجاهه تُعطيه القوّة اللازمة للمواصلة وتحمّل حياة بائسة في بيته. وعَدنا بعضنا بإبقاء الأمر سرّيًّا، إلى حين عرضَ عليّ رضوان أن أكون زوجته الثانية. تلبّكتُ كثيرًا، فلَم يحصل أنّ أحدًا في عائلتي أو بين معارفي قبِلَ بالأمر يومًا، وخشيتُ ردّة فعل أهلي. لكنّ زواجنا كان شرعيًّا تمامًا، بحضور حفنة صغيرة مِن المُحبّين والمُقرّبين وزميلتي العزيزة.

سكنّا بالإيجار في شقّة جميلة لكن صغيرة، وترَكتُ عمَلي في الشركة لأهتمّ بزوجي الحبيب وأتحضّر للإنجاب وتربية أولاد أردتُهم كثُرًا. لَم تعلَم زوجة رضوان بأنّه تزوَّجَ عليها، على الأقلّ في البدء، وهو افتعَلَ شجارًا كبيرًا بينهما وترَكَ المنزل الزوجيّ لفترة غير محدّدة. فكان يلزمه بعض الوقت لترتيب أموره معها، لأنّ هناك بينهما أعمالاً وحسابات مصرفيّة مُشتركة. لَم أهتمّ كثيرًا للأمر، فزوجي الحبيب كان يسكنُ معي ويُعطيني اهتمامه وحنانه حصريًّا.

مرَّت الأسابيع ووجدتُ نفسي حامِلاً، الأمر الذي أفرَحَ رضوان، فزوجته لَم تُنجِب وكان حلمه أن يصبَحَ يومًا أبًا. لكن في تلك الفترة بالذات، قُرِعَ جرَس بيتنا مساء، فوجَدَ رضوان زوجته واقفة أمامه وعلى وجهها علامات غضب ممزوج بالسخرية. هي دخلَت شقّتنا مِن دون إذن وقالَت لي: - حضّري لي فنجان قهوة، وبسرعة!

 

نظَرتُ إليها مُستنكِرة إلا أنّ زوجي أشارَ لي بأن أحضِّر القهوة. بقيتُ جالِسة مكاني لدقيقة ثمّ دخلتُ المطبَخ على مضَض. لماذا لَم يقِف رضوان في وجهها ودافَعَ عنّي؟!؟

سمِعتُ مِن المطبخ الأصوات تتعالى في الصالون، ففضّلتُ البقاء مكاني. إلا أنّ الزوجة الغاضِبة نادَتني وقالَت لي عندما دخلتُ الصالون:

- لو كنتُ مكانكِ لدقّقتُ في وضع تلك السكرتيرة التي أخذَت مكانكِ في الشركة! فالدولاب يدورُ يا عزيزتي وقد تجدين نفسكِ مكاني قريبًا!

 

عندها أسكتَها زوجي صارخًا بها:

-لا أحَد يُصدّق كلامكِ المُجرِّح! لا تُحاولي زَرع الشكّ في عقل زوجتي الحبيبة وقريبًا أمّ ولَدي!

 

سكتَت الزوجة مُطوّلاً، وأقسِم أنّني رأيتُ لبُرهة الدموع في عَينَيها، بعدما أدركَت أنّني سأُعطي رضوان ما لَم تستطِع اعطاءه له، ثمّ هي خرجَت بعد أن قالَت لي:

- لا تنسي كلامي أيّتها البلهاء!

 

بعد خروجها مِن بيتنا، أخذَني زوجي بين ذراعَيه مواسيًا ومؤكّدًا لي أنّه سيتخلّص منها قريبًا وأنّنا سنُشكّل عائلة سعيدة. نمنا جيّدًا في تلك الليلة ورأيتُ أحلامًا مليئة بالأطفال والألوان الزهيّة.

لكن في الصباح، إنتابَني الشكّ حيال تلك السكرتيرة الجديدة، فقرّرتُ زيارة الشركة بصورة مُفاجئة، تحت ذريعة أنّني أريدُ التسوّق وأحتاج إلى المال مِن زوجي. دخلتُ الشركة ورأيتُ الصبيّة التي حلََّت مكاني، وللحقيقة وجدتُها جميلة وجذّابة فوق الحاجة. هل يُعقَل أن تأخذَ زوجي منّي كما فعلتُ أنا مع الزوجة الأولى حتّى لو مِن دون قصد؟ شعرتُ بانزعاج كبير، ولَم أُكلّم رضوان بل قصدتُ زميلتي المُقرّبة، هي نفسها التي أخبرَتني عن سبب حزن الذي كان مُديري، واشتكَيتُ لها مِن جمال السكرتيرة الجديدة. هي ابتسمَت وقالَت:

- هو يُحبّ الجميلات! فمَن لا يُحِبّ الجمال؟ أنتِ أيضًا جميلة يا عزيزتي أو أنّكِ لا تملكين مرآة؟

 

لَم أحِبّ جوابها لكنّني تابعتُ:

ـ قولي لي... قَبل مجيئي للعمَل في الشركة، مَن كان يشغلُ مكاني؟

 

ـ صبيّة أخرى طبعًا... ثمّ أختفَت ذات يوم ولَم تعُد. فاتّصلتُ بها لمعرفة سبب رحيلها لكنّها اكتفَت بالقول: "لَم تُعجِبني سياسة العمَل في الشركة".

 

ـ قولي لي... لماذا لا يتركُ رضوان زوجته بما أنّه ليس سعيدًا معها؟

 

ـ إنّه لغز بالنسبة لي، صدّقيني.

 

وحين غادَرتُ مبنى الشركة، سمعتُ صوتًا يُناديني مِن الشارع:

- أنتِ، أجل أنتِ، تعالي إلى هنا، هيّا! يا إلهي، أنتِ حقًّا بلهاء!

 

وعلِمتُ طبعًا مَن هي صاحبة الصوت، فتجاهلتُها في البدء إلى حين صارَت تصرخُ بأعلى صوتها فخفتُ مِن الفضيحة. ركبتُ سيّارتها وهي قادَت بي إلى بيتها الذي كان لا يزال بيت رضوان. شعرتُ بالرهبة لدى دخولي المكان، فهناك كانت الزوجة في مملكتها، وخِفتُ أن تؤذيني ليس فقط معنويًّا بل أيضًا جسديًّا، ألَم أكن حامِلاً؟ لكنّها جلسَت بعيدًا عنّي وقالَت:

ـ ستظلّين سكرتيرة بالنسبة له.

 

ـ هو تزوّجَني وصِرتُ زوجته وأحمل جنينه.

 

ـ لا يهمّ... لا بدّ أنّه اضطرّ على الزواج منكِ ليحصل عليكِ. لكن في باله، أنتِ إحداهنّ.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ يُحبّ السكرتيرات، لطالما كان كذلك... يختارهنّ شابّات وساذجات كشأنكِ. أجل، فأنتِ صدّقتِ حتمًا روايته: الرجُل التعيس والوحيد ذو زوجة مُفترِسة لا تفهمه ولا تأبَه لمشاعره. الحقيقة هي أنّني ألعَب لعبته... هو يريدُ تصويري هكذا؟ فليكن! لكن في داخلي، لا أكترِث كثيرًا للأمر. فهو يلهو معكنّ إلى حين يسأم منكنّ... أنا زوجته وحبّ حياته وأنتنّ مُجرّد نزوات. إحترسي... أقولُ لكِ ذلك لأنّكِ حامِل ولا دخلَ لهذا الجنين في غبائكِ، فإنّه سيدفع الثمَن لأنّ رضوان سيترككِ قريبًا أو سيُعذّبكِ لتتركيه. هل تعتقدين فعلاً أنّه يريدُ ولَدًا؟!؟ بلهاء أنتِ! هو فعَلَ جهده كَي لا أحمَل تحت حجَجَ عديدة، إلى حين فهمتُ أنّه مِن الأفضل ألا أتي إلى الدنيا بمخلوق يكون له أب كرضوان.

 

ـ لماذا لَم تتركيه إن كان بغيضًا إلى هذه الدرجة!

 

ـ لأنّني كنتُ أحبّه فوق كلّ شيء... فوق كرامتي! بعد ذلك، صارَت لنا أعمال مُشتركة تدرّ عليّ مالاً وفيرًا، فرضوان رجُل أعمال مُمتاز.

 

ـ أنا لا أُصدِّق روايتكِ على الاطلاق، والزمَن سيُكذّبُكِ!

 

ـ هو يُريدُ السكرتيرة الجديدة، صدّقيني... وسرعان ما سيبدأ بالتغيّب عن البيت، هذا لو هي قبِلَت بإقامة علاقة معه، فالتي سبقَتكِ كانت شريفة فرحلَت بعيدًا عنه.

 

بالطبع لَم أصدّقها، فكان مِن الواضح أنّها تُريدُ إخافتي فقط. لَم أقُل شيئًا لرضوان كَي لا أُزعِله وتابعتُ حياتي الزوجيّة بسعادة... إلى حين هو بدأ "يعمَل ليلاً مُتأخّرًا" وبصورة مُكثّفة. خفتُ كثيرًا لكنّني أقنعتُ نفسي بأنّه يقولُ الحقيقة، إلى حين خابَرتُ زميلتي القديمة وعلِمتُ منها أنّ رضوان لا يبقى في الشركة ليلاً بل يُغادِر في الوقت المُعتاد. هكذا إذًا... كانت الزوجة على حق!

ومنذ أسبوع، رحتُ الشركة مِن دون إنذار وصَرختُ بالسكرتيرة: "حضّري لي القهوة وبسرعة! هيّا!".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button