يُقال إنّ الزوجة هي التي تقرّب أو تبعد زوجها عن أهله، واتضَحَ لي أنّ هذه المقولة أكثر مِن صحيحة، فلقد رأيتُ بعَينَيّ كيف تفكّكَت عائلتنا.
وُلِدتُ بعد خمسة أخوة أصغرهم يكبرني بعشر سنوات. قبل مجيئي، كانت والدتي قد ربّتهم على احترام الأبوَين والصدق والاشتراك في جميع أعمال المنزل. فالحقيقة أنّ صحّة أمّي لطالما كانت رديئة، وكانت بحاجة إلى المساعدة في أبسط الأمور، خاصّة أنّ أبي كان دائم السفر ليأتي لعائلته بما يلزم.
كانوا يعيشون كلّهم بتناغم حسَدَهم عليه الناس ولكن ما كان ينقصهم كان وجود فتاة في البيت. فحين ولِدتُ، كانت الفرحة لا تُقاس وسرعان ما أصبحتُ محط دلَع الجميع.
كبرتُ وكأنّني أميرة صغيرة لا يرفض أحد لي طلبًا، إلا أنّني لم أصبح كتلك الفتيات اللواتي تتّكلنَ على الآخرين، بل كنتُ مجتهدة في المدرسة لا بل متفوّقة.
مرَّت السنوات بهدوء، وتزوّجَ أخي الكبير ولحقَه الباقون وكبَرت العائلة. لكن بسبب صغر البيت، لم يستطع أيّ منهم العَيش معنا. مات أبي بعد فترة قصيرة، وصرتُ لوحدي مع أمّي، وتغيّرَت الأمور بشكل جذريّ بوجود الزوجات، ولم أتصوّر ولو للحظة أن تكون الخمسة بهذا السوء. أظنّ أنهنّ غضبنَ مِن حبّ أزواجهم لأمّهم ولي، ولم تتقبّلنَ هذه العلاقة المميّزة وعمِلنَ جهدهنّ لهدم كلّ ما بُنيَ.
فسرعان ما توقّفَ أخوَتي عن المجيء إلى البيت العائليّ، متحجّجين بأعمالهم وواجباتهم الاجتماعيّة، ولم نعد نراهم إلا في المناسبات الكبرى حين كانوا يمكثون مدّة قصيرة ويرحلون بسرعة. وكانت والدتي تتألّم لذلك الوضع الشاذ، لكنّها لم تتذمّر ولو مرّة بل بقيَت تجد لهم الأعذار.
كنتُ لا أزال أحصّل علمي، ولم يكن لدَينا أي مدخول فالمسكين أبي مات مديونًا بسبب تهوّره بمشاريع خاسرة. في البدء كان أخوَتي يهتمّون بالناحية الماليّة التي تغطّي إيجار البيت والفواتير والمأكل وأقساط المدرسة. لكن مع الوقت باتَ المال يشحّ مع مجيء الأولاد ومصاريفهم. كيف لخمسة أخوة ألا يتمكَنوا مِن وضع مبلغ صغير شهريًّا جانبًا للتي ربّتهم؟ إسألوا هذا السؤال لزوجاتهم. بالطبع كان أخوَتي أيضًا مذنبين، فالذي يتمتّع ولو بذرّة أخلاق لا ينصاع لكلام مَن يُجبره على التخلّي عن عجوز ومراهقة.
واضطرِرتُ لترك المدرسة لأعمل، إذ كنّا بحاجة للأكل ودفع المستحقَّات وإلا متنا جوعًا ووجدنا نفسَينا في الشارع. حاولتُ التكلّم مع أخوَتي لإقناعهم بالاشتراك ولو جزئيًّا بمصروفنا، على الأقل حتى أنهي المدرسة، فلم يتبقّ لي سوى سنة واحدة، إلا أنّهم رفضوا جميعًا وكأنّهم كانوا مصرّين على تدميرنا.
وجدتُ عملاً في سوبر ماركت. كان الراتب ضئيلاً جدًّا نسبة للساعات الطويلة التي اشتغلتُها في ذلك المكان. لم أشتكِ مِن شيء، بل كان إهمال أخوَتي لنا حافزًا لي لأريهم أنّني قادرة على القيام بما تهرّبوا منه.
لكنّ القدر لم يرد لنا الراحة، فقد أُصيبَت أمّي بمرض عُضال، ربّما لكثرة حسرتها على ذريّتها الفاسدة.
وكيف لي أن أترك امرأة مريضة وحدها بينما أقوم بعملي، وأين أجد المال اللازم لشراء الأدوية ودفع ثمَن الفحوصات؟ زرتُ أخوَتي الواحد تلوَ الآخر، ولكن في كل مرّة كنتُ أسمع الجواب نفسه: "يا ليتني أستطيع مساعدتك يا أختي، لكنّ راتبي بالكاد يكفي لإطعام عائلتي... ولا يجوز أن أجوّع زوجتي وأولادي."
وهل يجوز تجويع أمّ وأخت؟ وهل يجوز ترك التي أعطَتكم الحياة مِن دون علاج وتقصير بذلك حياتها وتدمير حياتي أنا؟ لم يبقَّ أمامي سوى حلّ واحد وهو الزواج. لِذا زرتُ جارة لنا كانت ألحَّت عليّ مرارًا لتزويجي مِن قريب لها، وبقيتُ أرفض لأنّني أردتُ آنذاك دخول الجامعة ومعترك العمل الجاد. كان العريس يكبرني بخمس عشرة سنة ويجني الكثير، ورأيتُ فيه فرصتنا الوحيدة.
عندما نظرتُ إلى عادل وجدتُه قبيحًا للغاية، فلم يكن يتمتّع بأي جمال أو جاذبيّة، بل كان سمينًا وشعر رأسه خفيف ويلبس نظّارات سميكة جدًّا. إمتلأت عَينَايَ بالدموع، لكنّني تمالكتُ نفسي مِن أجل أمّي الحبيبة التي كانت تستحقّ أن تُعالَج وأن تنام ولو ليلة واحدة مِن دون ألم. أمّا عادل، فأُعجِبَ كثيرًا بي، وقرَّرَ أنّ علينا الزواج على الفور خوفًا مِن أن أغيّر رأيي. شرطي له كان أن تعيش والدتي معنا وأن يُعاملها وكأنّها أمّه، وقَبِل. عندما علِمَ اخوَتي بأمر العريس، أسرعوا بالموافقة لأنّ زواجي مِن هكذا رجل كان سيزيح عنهم ثقل وجع الضمير، هذا لو وُجِدَ.
ليلة زفافي كانت مأساويّة، فلم أتحمّل لمس عادل لي، إلا أنّني أغمضتُ عَينَيَّ مركّزة على أمور أكثر فرحًا.
بقيَ زوجي على وعده لي، وأتى لأمّي بأمهر الأطبّاء وعالجها في أفخم المستشفيات. عامَلها حقًّا وكأنّها أمّه، فقد كان هو يتيم الوالدَين ويتوق لمعاملة المسنيّن بحنان ورفق. وعلى مرّ الأشهر، بدأتُ أرى زوجي مِن زاوية مختلفة، وسرعان ما بدأ يبدو لي وسيمًّا وجذَّبًا. كيف لذلك أن يحصل؟ لقد تبيّن لي أنّ الجمال ليس خارجيًّا واكتشفتُ أنّني إنسانة حقًّا محظوظة. وبعد أشهر قليلة علِمتُ أنّني حامل وشعرتُ بفخر كبير.
إلا أنّ خبر حملي جلَبَ عليّ اهتمام اخوَتي وزوجاتهم الذين رأوا بذلك فرصة لدخول حياتي مجدّدًا، ولكن لأغراض تبعد كل البعد عن الحب والحنان. كانوا يُريدون الاستفادة مِن ثروة زوجي بعدما رموني مِن دون أن يسألوا عنّي. ولأنّهم كانوا يخافون مِن أن أحمل في قلبي تجاههم العتَب أو الكره، قصدوا زوجي مباشرة. لم يعلموا أنّني كنتُ قد رويتُ لعادل ما فعلوه بي وبأمّي، وبدأوا يعرضون عليه المشاريع تحت شعار العمل "كعائلة واحدة متماسكة". لكنّ اللعبة لم تخدع زوجي الذي كان رجل أعمال متمرّس فرفَضَ اقتراحاتهم كلّها قائلاً:
ـ أنا آسف لكنّني لا أستطيع وضع يدي بِيَد مَن أدار ظهره لأمّه وأخته... تتحدّثون عن العائلة؟ عائلتكم الأساسيّة هي زوجتي ووالدتها وليست زوجاتكم وأولادكم... قلَبتم الدّم إلى ماء وتريدون الآن إرجاع الماء دمًا؟ ماذا لو لم أتزوّج اختكم؟ ماذا كان سيحصل لها ولتلك العجوز المسكينة؟ سأطلبُ منكم الرجوع إلى عائلاتكم المزّيفة ومتابعة حياتكم بعيدًا عنّا، فهذا كان خياركم منذ البدء وعليكم تحمّل تداعيّاته. لا أريد رؤيتكم في منزلي أو شركتي بعد اليوم، ولن أقبل أن تتّصلوا ولو هاتفيًّا بزوجتي أو أمّها. هيّا!
عاشَت أمّي سنوات عديدة بفضل نوعيّة العلاجات، ورأت إبني وابنتي ولعبَت معهما ودلّعَتهما. وقبل أن تغمض عَينَيها لآخر مرّة، إبتسمَت لي وقالت: "أدعو ربّي أن يُديم سعادتكِ، فأنتِ الوحيدة التي وقفتِ معي حتى النهاية وحفظتِ وصيَة أكرِم أباك وأمّك".
حاورتها بولا جهشان