كيف تنازلتُ عن إحدى بناتي؟ قد يبدو الأمر فظيعاً ولكن آنذاك لم يكن لدَيّ خيارآً آخراً. فبعد ما ماتَ زوجي بِسكتة قلبيّة وتركَني لِوحدي مع ابنتَينا لم أعد أرى سوى حزني وحيرَتي لِكيفيّة تدبير نفسي. وبما أنّني لم أحظَ بالعلم الكافي لأنّ أهلي اعتبروا أنّ مصير البنت هو الزواج فلم يكن بِمقدوري إيجاد عمل يليق بي.
في البدء ساعَدَني بعض أقربائي وأفراد عائلة زوجي ولكن سرعان ما اختفوا جميعاً كي لا أعتقد أنّهم سيواصلون الصرف علينا الى الأبد. ووجدتُ نفسي وحيدة وكأنّني وسط صحراء بلا رحمة. وبدأتُ بِقَرع أبواب الناس بحثاً عن لقمة العيش حتى أن وجدتُ مَن يقبل بي كمنظّفة منزل. ولِحسن حظّي كانت تلك السيّدة لطيفة جدّاً وتحترم تعَبي. وبعد حوالي الثلاثة أشهر على بدئي العمل عندها قالَت لي السيّدة منال:
ـ هل تدبّرتِ أمر بناتكِ؟
ـ تقريباً... دخَلَت الكبرة المدرسة ولكنّ الصُغرة تُقلقني... تقضي وقتها بالبكاء عندما أتركها مع جارتي لأجيء إلى هنا.
ـ لما لا تُجلبيها معكِ؟ المنزل فارغ منذ ما سافَرَ زوجي وتعلمين أنّني لم أُنجِب... لن يضّرني سماع صوت أطفالاً في البيت... ماذا قلتِ؟
وبالطبع قبِلتُ أن أصطحب معي نجوى إلى منزل السيّدة وأتركها تلعب معها بينما أقوم بِواجباتي. وكانت منال تبتاع لِصغيرتي الألعاب والثياب وكل ما تحتاجه طفلة في هذا السنّ وكنتُ سعيدة أن توفّر عليّ مصروفاً كبيراً كهذا. أما فيما يخص ابنتي الثانية داليا كنتُ أهتمّ بها مِن الراتب الذي كنتُ أتقاضاه.
ومرَّت الأشهر وحمدتُ ربّي أنّني وجدتُ في تلك السيّدة العون الذي لم يقدّمه لي حتى أقرب الناس إليّ. وعادَ زوجها مِن أفريقيا وتفاجأ بابنتي وسألَ مَن تكون ولماذا هي موجودة في بيته. وشَرَحَت له منال الوضع ورحّبَ بالفكرة ما أراحَ قلبي. وسافَرَ الرجل مجدّداً الى أعماله في السنيغال. ولكن بعد سنة تقريباً رأيتُ منال مهمومة ومُربكة. وحين سألتُها عن السبب أجابَت:
ـ عليّ الرحيل... فزوجي لم يعد قادراً على ترك شركته ولو لِفترة قصيرة... لقد عَلِمَ بأنّ بعض موظفيه يستغلّون مجيئه إلى البلد لإهمال واجباتهم... وسبب حزني هو بعدي عن نجوى...
ـ ابنتي؟
ـ أجل... لقد تعلّقتُ بها لِدرجة لا توصف... لا تغضبي منّي ولكنّني بدأتُ أعتبرها ابنتي...
وبدأت المرأة بالبكاء وأخذتُ أواسيها وأقول لها أنّها ستتمكّن مِن رؤية الصغيرة كلّما جاءَت إلى بلدها. ولكنّ همّي لم يكن بكاء وحزن تلك السيّدة ولكن كيفيّة تدبير عملاً آخراً. عندها قالت لي:
ـ سمعي... لدَيّ اقتراح لكِ... ولا أدري كيف أطرحه عليكِ... أخاف مِن ردّة فعلكِ...
ـ قولي ما عندكِ ولا تخافي.
ـ ماذا لو أخذتُ نجوى معي؟
ـ ماذا؟ تأخذين صغيرتي منّي؟
ـ لن آخذها منكِ بل معي... دعيني أشرح لكِ ما يدور في بالي... بعد رحيلي ستجدين نفسكِ بلا عمل أليس كذلك؟
ـ أجل ولكن...
ـ وقد لا تحظَين بِمكان ترتاحين فيه كما حصَلَ لكِ هنا... ولن تسجّلي نجوى في المدرسة قبل سنة أو أكثر.
ـ صحيح ذلك.
ـ وستضعينها عند الجارة كما في السابق... ناهيكِ أنّها لن تنال الرعاية والاهتمام الذي كان موجوداً عندي... ولا الثياب ولا الألعاب.
ـ ولكنّني لا أستطيع الاستغناء عن ابنتي! ولا أريد التفريق بين ابنتيَّ.
ـ أعدكِ بأنّ آخذها إلى حين تدخل المدرسة... هكذا سيكون بالكِ مرتاحاً... واضافة إلى ذلك سأبعث لكِ بالراتب الذي كنتِ تتقاضيه منّي ولكن دون التعب... وستتفرّغين لابنتكِ داليا... سنة ونصف فقط... فكريّ في الأمر. لدَيكِ أسبوعَين لإعطائي الجواب.
وفي ذلك اليوم لم أتصوّر أبداً أن أقبل عرض منال وبدأتُ أبحث عن عمل كالذي كان لَدَيّ ولكن لم أجد شيئاً. وضاقَت الدنيا بي وتصوّرتُ نفسي وابنتَيّ مِن دون طعام وخفتُ كثيراً. وهكذا قَبِلتُ أن أتخلّى عن نجوى بِشرط أن تعيدها إليّ بعد سنة ونصف. وكنتُ متأكّدة أنّني سأجد عملاً مناسباً في تلك الأثناء خاصة أنّني لن أعود مضطرة للبحث عليه بعد أنهاء عملي بل سيكون لي متّسع مِن الوقت.
وتكلّمتُ مع داليا وشرحتُ لها أن أختها ستسافر إلى أفريقيا مع السيّدة منال وأقنعتُها أنّ ذلك لِمصلحتنا جميعاً. بكيَت قليلاً ومِن ثم أدركَت أنّها ستكون الابنة الوحيدة.
وأعطيتُ نجوى لِمنال وبكينا سويّاً وجعلتُها تقسم لي أن تهتمّ بها وكأنّها حقّاً ابنتها. وبقَينا على تواصل أتلقّى أخبار نجوى كلّها مُرفقة بِصوَر وتسجيلات. وفي هذه الأثناء تابعتُ حياتي مع داليا مع شوق مستمرّ للتي باتَت بعيدة عنّا. وبعد مرور الوقت المتّفَق عليه وحان وقت عودة ابنتي الصُغرى قالَت لي منال:
ـ لقد وجدتُ مدرسة ممتازة لِنجوى... مدرسة فرنسيّة يقصدها الأغنياء فقط... ابقيها هنا... فهذه فرصتها الوحيدة لِنَيل مستقبل واعد.
ـ شكراً سيّدتي ولكنّني أريد ابنتي... لا يمرّ يوم واحد مِن دون أن أفكّر بها... واشتاقَت داليا جدّاً لها...
ـ اسمعي... الفتاة سعيدة هنا... لدَيها أصدقاء وكل ما تحتاج إليه... أنا لا أسرقها منكِ ولا أدّعي أبداً أنّها لي... صحيح أنّني جدّ متعلّقة بها ولكنّني أدرك تماماً أنّها ابنتكِ... سأبعث لكِ شريطاً مصوّراً وسترَين كم هي سعيدة هنا.
وأرسلَت لي الشريط ورأيتُ نجوى تلعب وتضحك ومِن ثمّ تقترب مِن الكاميرا وتقول: "ماما... لا أريد ترك هذا البيت... دعيني أبقى أرجوكِ."
وطلبتُ رأي داليا بعدما أريتَها أختها وأخذتُ موافقتها. وخابرتُ منال وقلتُ لها أنّني سأبقيها معها سنة اضافيّة لِنرى إن كانت ستتأقلم مع مدرستها الجديدة. ولكنّني اشترَطتُ عليها أن تأخذَني مع داليا إلى أفريقيا في فرصة الصيف لِنرى نجوى. وقبِلَت معي طبعاً وتابعنا حياتنا بانتظار قدوم الصيف.
وحين جاء الوقت لِنسافر حضّرنا حقائبنا وطِرنا إلى السنيغال. وهناك رأينا الثراء والجاه والخدم والحشم وأدركتُ أنّ نجوى لن تحظى بِفرصة مماثلة. ولكنّ داليا لم تكن ممنونة لِرؤية عيشة أختها وعندما عُدنا إلى البلد بدأت طباعها تتغيّر وعلاماتها في المدرسة تتدنّى. حاولتُ أن أشرح لها أنّ لا بأس بِحياتنا هنا ولكنّها بقيَت تكرّر: "لماذا نجوى تعيش أفضل منّي؟ مدرستها خاصة ومدرستي حكوميّة... لدَيها خدم أمّا أنا عليّ مساعدتكِ في الأعمال المنزليّة... ثيابها جميلة ومنزلها فخم... أنظري إلى شقَّتنا... هذا ليس عدلاً!".
وبقيَت داليا هكذا حتى أن نمَا في قلبها حقد لي ولأختها ولكل الناس. ووقعتُ في حيرة مِن أمري: هل أستعيد نجوى وأحرمها مِن حياة رخاء وعلم رفيع لأريح أختها أم أبقيها هناك وأخسَرَ داليا؟ ولَعَنتُ الفقر والعوذ وحياتي كلّها واللحظة التي وافقتُ على عرض منال. وقرّرتُ أن أحاول تهدئة بال ابنتي الكُبرى ريثما تتأسّس نجوى في مدرستها.
وتتالَت السنوات وسافرتُ مرّة أخرى إلى أفريقيا ولكن مِن دون داليا التي رفضَت أن ترافقَني كي لا ترى سعادة أختها. وعندما كنتُ هناك أخذتُ قراراً صعباً وهو إعادة نجوى معي. وبالرغم أنّها كانت سعيدة مع منال وزوجها رجِعَت مِن أجل أختها والبلد الذي بالكاد عَرِفَته. والغريب في الأمر أنّ البنت التي لم أربّيها كانت ألطَف وأعقل مِن التي بقيتُ أردّد لها أنّني فعلتُ ذلك مِن أجلها ومِن كثرة حبّي لها.
وحين تلاقَت الأختان حصَلَ صداماً حاداً افتعَلَته داليا:
ـ ما الذي تفعلينه هنا؟ جئتِ تشمتين بنا يا برنسيّسة؟
ـ أبداً... جئتُ أعيش مع أمّي وأختي.
ـ تقصدين أهلكِ الفقراء... وبيتهم قبيح... مَن سيخدمكِ الآن؟
ـ لا أحد... سأخدم نفسي... وإن شئتِ سأخدمكِ أيضاً.
- لا تهزئي منّي! عودي مِن حيث جئتِ!
ولم أستطع تليين قلب داليا على اختها. ولم تهدأ الأحوال الا عندما رجعَت نجوى مكسورة الخاطر الى أفريقيا والى العائلة التي ربّتها. وبقيتُ مع ابنتي البكر حتى أن تزوّجَت أخيراً وسكنَت بعيداً. عندها طلبَت منّي منال أن أسافر الى السنيغال وأعيش معهم.
أعطَني المنزل المخصّص للجنائنيّ وتمكّنتُ أخيراً مِن تمضية سنين جميلة مع نجوى وحضور زفافها.
لا أزال حتى اليوم في أفريقيا أزور داليا بين الحين والآخر.
حاورتها بولا جهشان