أردتُ اطعام أولادي بأي طريقة

حصَلَت هذه القصّة وسط إحدى الحروب التي دمرَّت البلد وقتلَت ناسها وأفقرَت مَن كان متوسّط الدخل وجعَلَتنا نفعل ما لم نتصوّر فعله مِن قبل. فقدتُ زوجي حين كان عائداً إلى المنزل ومعه الخبز والجبنة لِيطعم أولادنا. محَته قذيفة عن وجه الدنيا وأصبحتُ بِغضون لحظات مسؤولة عن 3 أولاد صغار. وبعد فترة البكاء والنحيب والأسف على ذاتي حان الوقت لأجد طريقة لإدخال المال وإلاّ متنا جوعاً. وبما أنّني لم أكن أحمل أيّة شهادة تخوّلني إيجاد إحدى الوظائف القليلة المتبقيّة في هكذا ظروف، فكّرتُ بالبيع المتنقّل. جاءَتني الفكرة حين سمعتُ جارتي تروي كيف تحسّنَت أحوالها منذ ما بدأت تبيع الملابس مِن حولها. لِذا طلبتُ منها عنوان المستودع التي كانت تأتي منه بالبضائع وقصدتُ المكان.

وبالقليل الذي كان بِحوزتي اشتريتُ كميّة صغيرة مِن الملابس الداخليّة القطنيّة والجوارب. وضعتُها بِكيس كبير وبدأتُ أدقّ باب الناس. وفي معظم الأحيان كنتُ أصعد السلالم بِسبب أنقطاع التيار الكهربائيّ وأصل إلى الطوابق العليا مقطوعة النَفَس لأجد أبواباً تُغلق بِوجهي أو حتى شتائم وتهديدات. ولكنّني تحمّلتُ كل ذلك مِن أجل أولادي ولأنّني أستطعتُ جني بضعة ليرات يوميّاً.

وفي أحد الأيّام وفي إحدى الشقق وجدتُ مَن غيّرَ حياتي حين فتحَ لي الباب وأشترى منّي كامل بضاعتي. شكرتُ الرجل بِحرارة والدموع تملأ عيوني. عندها قال خالد:

 

ـ تعالي الأسبوع القادم وسأشتري ما عندكِ.

 

لم أفكّر في دوافعه لِكثرة فرحتي ولم أسأل نفسي لماذا كل ذلك الكرم المفرط بل عدتُ بعد أيّام وبعتُه محتوى كيسي. وبقيَ الرجل يشتري ما عندي لِمدّة شهر حتى أن قال لي:

 

ـ أين زوجكِ؟ كيف يقبل أن تدور زوجته هكذا على البيوت؟ ألا يعلم أنّ هناكَ أناساً قليلوا الأخلاق؟

 

ـ لقد مات المسكين... أخذَته قذيفة... لو كان حيّاً لما كنتُ واقفة أمامكَ.

 

ـ رحمه الله... اسمعي يا نجاة... لدَيّ مصنع قطنيّات وسبب أهتمامي بكِ هو أنّني أُعجبتُ كثيراً بِطريقة عرضكِ للبضاعة وبيعها... ما رأيكِ لو جئتِ للعمل لدَيّ؟ سأعطيكِ راتباً شهريّاً يكفي لكِ ولِعائلتكِ ولن تعاودي هكذا المخاطرة بِنفسكِ عند الناس... ماذا قلتِ؟

 


وبالطبع وافقتُ فكيف لي أن أرفض هكذا عرض؟ وشكرتُ الرجل وربّي على هذه الأعجوبة وبعد يوم واحد كنتُ واقفة أمام خالد في مكتبه لِتلقّي التعليمات المتعلّقة بِعملي الجديد. كانت مهمّتي أن أراقب المنتوج في مرحلته النهائيّة وأدقّق به بحثّاً عن الشوائب. ولكن بعد شهر واحد على بدء العمل طلبَني خالد مجدّداً إلى مكتبه وقال لي:

 

ـ نجاة... سألتُ المدير عن إدائكِ وقال أنّكِ عاملة جديّة... ولكنّكِ ستنتَقلين إلى المكاتب فأنا بِحاجة إليكِ هنا.

 

ـ ولكن سيّدي... لا أعرف شيئاً عن عمل المكتب!

 

ـ سأعّلمكِ... أريدكِ بِقربي... دائماً.

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ تعلمين تماماً ما أقصد... أنتِ امرأة جميلة وذكيّة يا نجاة...

 

ـ ولكنّكَ متزوّج وهذا لا يجوز!

 

ـ زوجتي وأولادي بعيدين عنّي... هم في أوروبا، بعثتهم إلى هناك خوفاً عليهم مِن الحرب... وأشعر بالوحدة... الوحدة قاتلة، أليس كذلك؟

 

ـ لستُ وحيدة فلدَيّ أولادي... أنا آسفة سيّد خالد ولكنّني إمرأة شريفة.

 

ـ لا تتسرّعي... خذي بضعة أيّام للتفكير... معي ستكونين مرتاحة البال والجيبة...سأساعدكِ أنتِ وأولادكِ.

 

وخرجتُ مِن مكتبه والدموع تنهال على وجهي مِن كثرة خَيبتي وهمّي على مستقبلي بعدما أرتحتُ قليلاً خلال الشهر الذي مضى. وتوجّهتُ فوراً إلى ذلك المستودع لأجيء بالبضاعة وأبيعها كالسابق وأبعد عن خالد وعرضه المشين. ولكنّني وجدتُ المستودع مقفلاً بعد أن أفرَغَه أصحابه وهاجروا بعيداً.

ودِرتُ على كل مَن أعرفه ليجدوا لي أي عمل ولكن مِن دون جدوى. وبعد أيّام وليالي قضيتُها أبكي لم أجد سبيلاً سوى العودة إلى معمل خالد. فبِمجرّد التفكير بأن أولادي سيبقون مِن دون طعام وجدتُ أنّ قبول ما عرضَه عليّ الرجل أرحَم بكثير. فما مِن تضحية كبيرة على فلذات كبدي.

 

وهكذا عدتُ مكسورة الخاطر لأبدأ علاقة مع رب عملي. وبالرغم أنّه كان رجلاً وسيماً لم أستطع تخطّي فكرة الزنى الذي كنتُ أرتكبه معه فلم أشعر بأيّة لذّة بل أنصَعتُ لِرغباته كالآلة الميكانكيّة. وأوفى بِوعده لي وأعطاني ما يلزمني لتأمين حاجات عائلتي. وفي كل مرّة كنتُ آخذ منه المال كنتُ أشعر أنّني كأي مومس تقف على حافة الرصيف. ولكنّني كنتُ عازمة أن أضَع حدّاً للذي يجري فور إيجاد مورد رزق آخر. ولكنّ خالد هو الذي قرّرَ إنهاء علاقتنا عندما جاء بِعاملة جديدة إلى المصنع. كان قد ملَّ منّي وبِسرعة فقال لي أنّ عليّ مغادرة العمل. عندها أدركتُ أن تضحيَتي ذهبَت سدىً فصَرَختُ به:

 


ـ ماذا؟ وكيف سنعيش؟

 

ـ هذه مشكلتكِ أنتِ... لا تثيري المتاعب... أرحلي بِعزّة نفس.

 

ـ عزّة نفس؟ وهل تركتَ لي أي عزّة نفس بعدما حصلتَ على مرادكَ؟

 

ـ لم أجبركِ على شيء!

 

ـ صحيح ذلك... ولكنّكَ كنتَ تعلم بأحوالي أنا ومدى تعلّقي بأولادي... أستغلّيتَ ضعفي وهذا نوع مِن الإكراه... على كل حال إن كنتَ فعلاً مصّراً على طردي سأضطر إلى أخبار زوجتكَ بالذي تفعله هنا في غيابها... أجل... سأخبر السيّدة رنده... كيف سأجدها؟ بواسطة أهلها المقيمين هنا في العاصمة... لا تتفاجأ فالكل هنا يعرفهم... أليسوا نفسهم الذين يملكون تلك المطاعم الفخمة في العاصمة؟

 

ـ يا نجاة... لقد أسأتِ فهمي... لا أريدكِ أن ترحلي بل أن نوقف علاقتنا لأنّني أحبّ زوجتي كثيراً... يمكنكِ البقاء قدر ما تشائين.

 

كان خالد قد أدركَ أنّني قادرة على إيذائه بِكل سهولة ولكنّه لم يكن مستعدّاً أن يبقى رهينة عاملة بسيطة. فبعد حوالي الأسبوع على حديثنا داهَمت الشرطة المكان وتوجّه عنصر إلى خزائن العاملات وفتّشها وتوقّف عند خزانتي وأخرجَ منها حقيبة لم أرَها بحياتي. وعندما فتحَها وجَدَ فيها رزمات مِن المال. وتمّ القبض عليّ على الفور وسط صرخات إستنكار زميلاتي وصوت خالد وهو يقول: "أنتِ التي سرقتِني؟ يا لِخيبة أملي!" وأدركتُ حينها أنّه ألصقَ التهمة بي لكي يتخلّص منّي ويبعدني عن زوجته.

وبِثانية واحدة تخيّلتُ كيف ستكون حياة أولادي مِن دوني ناهيكَ عن تأثير كلام الناس عليهم ولعنتُ الساعة التي قرعتُ باب خالد في ذلك النهار. يا ليتَني متُ قبل أن أصعد السلالم التي تؤدّي إلى شقّته!

وعندما وصلتُ قسم الشرطة بدأ المحقّق بالأسئلة عن اسمي وعنواني وسيرة حياتي. ومِن ثمّ أخذَ يسألني عن مكان تواجدي وما الذي فعلتُه خلال النهار. وبالرغم مِن نبرة صوته الخشنة رأيتُ في عينيه بصيص شفقة بِسبب ظروفي الصعبة لأنّ حالتي كانت كحالة العديد مِن النساء في ذلك الوقت بعدما مات رجال كثر جرّاء الحرب. وبعد أن أنهى أستجوابه رأيتُه يراجع ما كتبَه بإهتمام. ثمّ نظرَ إليّ وقال:

 

ـ سيّدة نجاة... كم أنتِ محظوظة لبل كم السيّد خالد غير محظوظ!

 

وخرجَ الرجل بِسرعة مِن غرفة الاستجواب وبقيتُ أكثر مِن ساعتَين جالسة لوحدي ابكي على حياتي. وعادَ المحقّق وقال:

 

ـ عفواً على طول غيابي ولكنّني كنتُ أتحقّق مِن أقوالكِ... لدَيكِ حجّة غياب مقنعة جدّاً... فالسرقة حصَلَت أثناء إستراحة الظهيرة... وكنتِ في ذلك الوقت بالذات مع شخص بِغاية الأهميّة على الأقل بالنسبة للتحقيق... وسألتُ ذلك الشخص إن كان فعلاً بِصحبتكِ أثناء وقوع السرقة.

 

ـ أجل سيّدي... كما قلتُ لكَ... تركتُ المعمل فور بداية الإستراحة وقصدتُ مقهى في الشارع المقابل... وهناك جلستُ أحتسي الشاي مع زوجة الأستاذ خالد.

 

ـ ولم يكن السيّد خالد على علم بهذا اللقاء، أليس كذلك؟

 

ـ أبداً... كان لقاء... خاص... اسمع سيّدي... سأكون بقمّة الصراحة معكَ...

 

وأخبرتُ المحقّق كل شيء دون أن أنظر إليه مِن كثرة خجلي بالذي فعلتُه. ثمّ قال لي الرجل:

 

ـ وأرادَ السيّد خالد اتّهامكِ بالسرقة ليبعث بكِ إلى السجن لكي لا تفضحيه عند زوجته... ولكنّكِ سبقتيه... وإتصلتِ بها مِن خلال أهلها وأسرعَت بالقدوم مِن أوروبا للإستماع إليكِ. التوقيت كان عظيماً وإلاّ لكانت التهمة قد لبِستكِ... قالت لي الزوجة أنّها مستعدّة أن تقسم بأنّها كانت بِرفقتكِ فلا داعي أن تبقي هنا... يمكنكِ العودة إلى أولادكِ... لن يفلتَ السيّد خالد مِن تهمّة الادعاء الخاطئ بِقصد الأذى ولا مِن إنتقام زوجته.

 

وعندما وصلتُ إلى باب غرفة التحقيق قال لي المحقّق:

 

ـ سيدّة نجاة... فقدَت شقيقتي زوجها أيضاً بِسبب قذيفة وأعلم كم هو صعب وضعها... نساعدها لأنّنا كثر مِن حولها... أمّا أنتِ فليس لديكِ أحداً... عندي صديق مقرّب جدّاً يبحث عمَّن يعتني بأمّه العجوز... ما رأيكِ؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button